تفرض "ثقافة الأداء" بشكل عام، على الفرد المعاصر، صورة نمطية للشخص السعيد والراضي، أي "الناجح" بمقاييس اليوم، بحيث تجعل البقية الآخرين، الفاشلين والعاديين، يشعرون بالذنب لأنهم لا يعملون بشكل كاف على "أنفسهم"، ليطابقوا الصورة المرسومة بدقة "نحّاتي الإيميج"، وكل لحظة تقدّم مقالات "فن التنمية الذاتية" بالتضامن مع الإعلانات التجارية، تقريعاً مستمراً يصل لدرجة الضرب على اليد وشدّ الأذن، لأنك لم تمتلك بعد تلك السيارة الجديدة أو هذا الموبايل الخارق أو حوض الاستحمام ذاك، أو لأنك لم تشاهد هذا الفيديو أو تقرأ تلك المقالة حول "العادات الأكثر فاعلية"، حتى أنهم يجهّزون لك الاطراء المداهن، الطرفة السمجة والابتسامة الزائفة، واجبة الارتداء كل الصباح، قبل أن تخرج للقاء مديرك الكريه وزبائنك عديمي الأخلاق.
وبينما تنطبق صورة السعادة المروّج لها في الإعلانات المدروسة جيداً على نمط حياة الفرد الغربي، تبدو صورتها الزائفة أمراً غائباً عن الثقافات الشرقية، كما يقول بروك باستيان، مؤلف كتاب "الجانب الآخر من السعادة"، حيث يشرح أن السعادة بالنسبة للغربيين هي مفهوم ثابت كمي، يرتبط بغياب الألم والاضطراب العقلي لدفع الأفراد للمزيد من الاستهلاك المادي، بينما يميل الشرقيون لاعتبار السعادة وجهاً آخر للحزن، يجب قبولهما معاً باعتبارهما مكملين لبعضهما.
وتستهدف إعلانات السعادة الزائفة تلك، شريحة معينة من الأشخاص لإحكام القبض على خياراتهم الاستهلاكية، بحيث يبدو أن الأشخاص الوحيدين هم الهدف النهائي للإعلان: الوحيدون، قليلو الثقة بالنفس، المضطربون من فقدان دفء العائلة، المطلّقون الذين يبحثون عن استعادة الشعور القديم بالحميمية.
بينما يمنحك الرأسمالي سعادة مؤقتة تتحقق فورياً بمجرد خروج بطاقتك من المحفظة ودفع ثمن المنتج، يؤجل الرب حصولك على السعادة إلى يوم القيامة
وهم يميلون إلى تعميق شعورهم بالوحدة والخذلان بالإضافة لتوسيع شريحة المستهدفين، عبر استخدام قواعد علم النفس الحديث نفسها التي ساهمت قبلاً في ترويج قيم استهلاكية أخرى، طبعاً إلى جانب مساهمتها الكبرى في معرفة النفس البشرية، لكن الأمر دوماً يحمل مستر هايد، الجانب الخفي والشرير لكل الاكتشافات الكبرى، وتكمن المفارقة هنا أن الاكتشافات التي فسّرت مشاعر الاكتئاب والوحدة هي نفسها التي تذهب إلى تعميق هذا الشعور وإدامته، لتصنع الشركات قطاعاً واسعاً من المكتئبين، فاقدي السعادة والمستهلكين بكثرة.
في أواخر العشرينيات، ساهم عالم نفس شهير هو إدوارد بيرنيز (ابن أخت سيغموند فرويد) وكان من أوائل من استخدموا أوليات علم النفس في التسويق والإعلان، ساهم مع شركة أمريكان توباكو، في إقناع الأميركيات بزيادة معدل استهلاكهن للتبغ، عبر ربط الأمر بالتحرّر والنسوية، بعدما كان لصورة المرأة المدخنة مدلول سلبي يرتبط بالبغاء والملاهي الليلية، فتم الترويج للأمر باعتباره سيطرة نسوية على "رمز قضيبي" كالسيكارة، كما جعل من وجود بيانو داخل أغلب بيوت الأميركيين، بالاتفاق مع المصممين الذين أحدثوا فراغاً خاصاً للبيانو في الشقق، أمراً حتمياً، ولنا أن نتخيل العديد من الرغبات التي نظنّ أننا نمارسها بمطلق الحرية بينما هي استجابة بسيطة لألعاب شركات الإعلان بالتحالف مع علماء النفس... نقول: "لا أتخيل حياتي بدون تلفزيون"...."هذه الملابس تظهر حقيقتي"... رغم أن ملايين الأشخاص عاشوا بدون تلفزيون وبدون ملابس ولم يشعروا يوماً أنهم بلا حياة أو بلا حقيقة، ونستطيع أن نضع العديد من المفاهيم المقدّسة في العصر الحالي تحت نفس بنود اللعبة، كالزواج والجنس وحتى الحرية والثورة.
اللذّات المؤجّلة
يقول ميلتون، الشيطان الخبيث، الذي مثّل دوره ببراعة مدهشة آل باتشينو في فيلم "محامي الشيطان" (1997)، في واحدة من أهم دفاعات الشيطان بلاغةً أمام الظلم المفاهيمي الذي أحاق به: "ماذا تعرف عن الله، سأكشف لك بعض المعلومات الحصريّة عنه، الله يحبّ المشاهدة، هو يعطي البشر غرائز، يعطيك هذه الهدية ثم ماذا؟ يمنعك من استخدامها. إنه مهرّج".
بالتأكيد لا يمنعك من استخدامها بشكل كلّي، لكنه يشترط عليك متى وأين ومع من يجب استخدامها، مع وعد بالحياة الأبدية، مليء بالغرائز، هي صفقة أيضاً مشابهة لصفقات الشيطان لكن مع الكثير من الشروط الدقيقة، التي إذا أخلّيت بواحد منها ذهبت إلى الجحيم مباشرة، مثل اتفاقيات القروض التي تعقدها مع البنوك التجاريّة لشراء منزل أو سيارة، تتخلّف عن أداء قسط واحد فيؤخذ منك كل شيء.
يشترط الرب كعاشق متملّك أن تكون له بكليّتك، لا يرضى بأقل من العبودية، يشبه جورج بوش الابن حين أعلن الحرب على العالم: من ليس معنا فهو ضدنا، بينما الشيطان أكثر بساطة في صفقته، إليك الاتفاق، خذ ما تريد من متع ومباهج وكن صديقي لا غير، خُذْه أو دَعْه.
وأيضاً هناك شروط سرية للعقد مع الرب، مكتوبة كالملحقات الناعمة بأسفل العقود التي نجريها مع الشركات، نتكاسل عن قراءتها ونتفاجأ لاحقاً بأنها تضعنا تحت إجحاف لا مثيل له وأخطار هائلة.
الرأسماليون يستعيرون لسان الرب: كيف تكون رجلاً كاملاً أو امرأة كاملة بدون حصولك على السيارة الفلانية أو العطر العلاني؟ وهم يستخدمون لسان الرب حين يقول: لن تؤمن حتى... والاثنان يحاصران الفرد المعاصر بفيض من المطالب اللانهائية، لكن بينما يمنحك الرأسمالي سعادة مؤقتة تتحقق فورياً بمجرد خروج بطاقتك من المحفظة ودفع ثمن المنتج، يؤجل الرب حصولك على السعادة إلى يوم القيامة.
منتجات لا غنى عنها للإنسان العصري
سيتم وضع "علم السعادة" في المنهاج التدريسي، هذه هي الفكرة التي يدّعي فيها علم النفس الإيجابي، الذي هو في الحقيقة علم نفس تسويق الاستهلاك، التدخل لحماية الفرد المعاصر من هجمات الاكتئاب والوحدة، الصناعة التي تقدّر تكلفتها بحوالي مليار دولار ستقوم بتوجيه الأفراد المميزين بالطبع، لعرقلة المشاعر السلبية التي تجتاحهم، ويكفي أن تستمع مثلاً إلى نصائح واحد من "مدرّبي السعادة" الموجودة على شكل تسجيلات صوتية أو مرئية، لتنسى القروض البنكية وفوائدها المتعاظمة، وتنسى أنك طردت توّاً من عملك، وأن زوجتك السابقة تطالبك بالنفقة المتأخرة عليك لستة أشهر، وأن ثلاجتك فارغة ونبتتك المفضلة تموت عطشاً، في محاولة لأن يقنعوك – عزيزهم المستهلك – أن المرض والصحة، الثروة والفقر، النجاح والفشل هم مسؤوليتك وحدك، لا مسؤولية الكارتيلات الخفية والطغم المتحالفة مع أنظمة الحكم.
الوسادة الناطقة بالعربية المخففة: لا غنى عنها في الليالي الباردة، تأتي بأنسجة مختلفة لا تسبب الحساسية، يكفي أن تضع رأسك عليها حتى تنسى المجزرة التي حصلت للتو، في الشارع المجاور، وتنعم بالسكينة.
الحذاء المترجم الفوري: تريد أن تسحر جارتك؟ أن تخطفها من يدي خطيبها الثري الأحمق؟ الحذاء المترجم يجعلك تتخطى تلعثمك وغباءك الوراثي وقلّة تعليمك.. ويمنحك خفة الخطى ورشاقة القلب، يأتي بألوان كثيرة و"ألسنة" متعددة.
كريم سيدة نساء العالمين "هيفا": أنت قبيحة وتكرهين هذا الأنف الشبيه بحبة بطاطا؟ لديك بثور في وجهك وحفر؟ الكريم المصنوع من كائنات ما قبل تاريخية سيعطيك وجهاً آخر لن تعرفيه على الإطلاق، ولن يعرفك أحد آخر أيضاً، انتبهي وأنت تصافحين والدتك، فربما تضربك بالمقلاة.
ويكفي أن تستمع إلى نصائح واحد من "مدرّبي السعادة"، لتنسى أنك طردت توّاً من عملك، وأن ثلاجتك فارغة، في محاولة لأن يقنعوك أن المرض والصحة، النجاح والفشل هم مسؤوليتك وحدك، لا مسؤولية الكارتيلات الخفية والطغم المتحالفة مع أنظمة الحكم
السعادة هي هدف التلاعب النفسي، سواء كان الوصول إلى هذا الهدف عبر منتجات لا حاجة لها إلا بعد الحصول عليها، أو عبر نصوص دينية تعد المؤمنين والمؤمنات بجنات تتحقق فيها السعادة القصوى
الأمر بالسعادة
السعادة هي هدف التلاعب النفسي، سواء كان الوصول إلى هذا الهدف عبر منتجات لا حاجة لها إلا بعد الحصول عليها، أو عبر نصوص دينية تعد المؤمنين والمؤمنات بجنات تتحقق فيها السعادة القصوى، بحيث تبدو السعادة كامرأة غامضة، لا أحد يستطيع النوم معها، لكنها مغرية ويجب البحث عنها باستمرار، لكن وأنت تفعل هذا، لا تنسى أن تفرغ حسابك البنكي، إذ يبدو أن الوصول إليها يحتاج الكثير من المصاريف، عزيزي المستهلك/الدجاجة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع