شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من رسائلي إلى ماريا (4)... لا يسمحون للموتى بالخروج سوى مشياً على الأقدام

من رسائلي إلى ماريا (4)... لا يسمحون للموتى بالخروج سوى مشياً على الأقدام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 27 يناير 202109:45 ص

من هذا الكون الفسيح، ومن داخل مقهى صغير أمام مبنى الهجرة والجوازات، صباح الخير حبيبتي ماريا.

أكتب لك وأنا جالسٌ أنتظر الشرطي لكي يدقق ويتفحص أوراقي التي قدّمتها له صباحاً من أجل تجديد جواز السفر، لأنه وأخيراً وبعد طول انتظار اقترب موعد مقابلة السفارة.

وصلت باكراً إلى مبنى الهجرة والجوازات ظنّاً منّي أن أوراقي كاملة ولكن الشرطي زفّ إليّ نبأ أنني بحاجة إلى موافقة إذن سفر من شعبة التجنيد الحنونة. على الرغم من أنني معفى من الخدمة العسكرية إلا أن الروتين الإداري يتطلب هذه الورقة.

عدت إلى شعبة التجنيد الحنونة، وعلى باب الشعبة التقيت بأحد الشباب الذين استنفدوا فرص التأجيل، فأتى ليسلّم نفسه ويلتحق بالخدمة العسكرية.

بدا حزيناً يائساً، لكن ما إنْ دخل إلى الشعبة ورأى صورة الجنود المعلقة على الحائط والتي ترسم أسمى آيات الفخر والشموخ، حتى فاضت من عينيه لمعة العز والكرامة.

وبدأ الموظفون بشحنه بعبارات البطولة والفداء.

آمل أن تدفئك هذه العبارات في الليالي الباردة يا صديقي وأنت تشاهد وقود التدفئة يسرق أمام عينيك. أتمنى أن يشبعك الفخر عندما يُسرق طعامك وتقدم لك حبة بطاطا مسلوقة كوجبة. أدعو لك بأن تبقى شامخاً بعد أن تُعامل معاملة العبيد وكأنك ارتكبت جرماً بالتحاقك بالجيش.

كما أرجو من كل قلبي ألا ينتهي الأمر بك جريح حرب مقطوع القدم تبحث عن عمل لأن تعويض الخدمة لن يكفي ثمن طبابتك حتى.

لكن لا تقلق يا صديقي فمَن لا يجرب شغف الخدمة الإلزامية يخسر نشوة التسريح.

لم أقل له شيئاً من هذا. اكتفيت بالتربيت على كتفه قائلاً: "الله يحميك".

وأخيراً، أحضرت الورقة التي لم تأخذ وقتاً كثيراً كما أنها لم تكلفني سوى راتب شهرٍ واحد فقط. وضعت المبلغ في البنك على شكل كفالة تضمن بأنني سأعود إلى البلد وأؤدي الخدمة العسكرية!

أنا للموظف: "لك يا عمي أنا معفى من الجيش!".

الموظف: "والله يا أخي ما بعرف كيف بقدر إخدمك بس هيك الروتين الإداري بيقول".

طبعاً، لا أنصح بالنقاش في مثل هذه الحالات فالنقاش هنا عديم الفائدة لأن الروتين الإداري يعرف مصلحتي أكثر مني ومن الذي خلّفني.

"هل تعلمين يا ماريا؟ لا جحافل الجنود ولا جنازير الدبابات ولا أصوات دويّ القنابل ولا قصف الطائرات جعلتني أخاف. فقط شيءٌ وحيدٌ جعلني أرتعد من الخوف، دمعةٌ سقطت من على وجنة هذه الأم. ماذا لو أخطأوا معي بشيءٍ ما؟ هل سيحدث شيءٌ ما يبكي والدتي؟!"

وبالمناسبة، هل تعلمين يا ماريا لماذا أطلق لقب الحنونة على شعبة التجنيد؟

لأن لا أحد يقبَلني كما أنا سوى أمي وشعبة التجنيد.

المهم. أحضرت الورقة وعدت بها إلى الهجرة والجوازات ودخلت إلى مكتب ذلك الشرطي مجدداً، ولكنه كان منشغلاً مع امرأة يبدو أن قصتها معقدة جداً.

اعتقلوا ابنها بسبب خطأ في الروتين الإداري، فابنها ذهب للعمل في لبنان وعاد مجدداً إلى هنا لكن شرطي الحدود لم يقم بتسجيل عودة ابنها إلى هنا فبقي مسجلاً في السجلات على أنه خارج البلاد.

قصته معقدة جداً، آمل أن تُحَلّ سريعاً لأجل دموع والدته.

هل تعلمين يا ماريا؟ لا جحافل الجنود ولا جنازير الدبابات ولا أصوات دويّ القنابل ولا قصف الطائرات جعلتني أخاف.

فقط شيءٌ وحيدٌ جعلني أرتعد من الخوف، دمعةٌ سقطت من على وجنة هذه الأم.

ماذا لو أخطأوا معي بشيءٍ ما؟ هل سيحدث شيءٌ ما يبكي والدتي؟!

هذا المشهد بات هاجساً لديّ، ولكنني آمل ألا يحدث إطلاقاً.

"أظن أن هنالك وباء منتشراً في هذه البلاد غير وباء كورونا. إنه وباءٌ محصورٌ بمؤسسات الدولة، يدخل المواطن إليها عاقلاً ويخرج مجنوناً يتحدث مع نفسه"

المهم، أعطيت أوراقي للشرطي وخرجت لأجلس في المقهى ريثما ينتهي من تفحّصها.

أكثر ما أضحكني حين دخلت المقهى هو منظر رجل خمسيني يصرخ رافعاً يديه: "لك إلّي بيقدر يخلي يخلي بغض النظر عن حب النبي".

أظن أن هنالك وباء منتشراً في هذه البلاد غير وباء كورونا.

إنه وباءٌ محصورٌ بمؤسسات الدولة، يدخل المواطن إليها عاقلاً ويخرج مجنوناً يتحدث مع نفسه.

وبما أن أول مَن يكتشف شيئاً يحق له تسميته، فسأسمّي هذا الوباء بفايروس الروتين الإداري.

ولكن لا تقلقي. أنا آخذ جميع احتياطاتي وأضع الكمامة دوماً. وبالفعل أظن أن الكمامة تحميني!

اليوم مثلاً حين أخبرني الشرطي أنني بحاجة إلى موافقة إذن سفر من شعبة التجنيد، خرجت وأنا أشتم وأتمتم ولم ينتبه إليّ أحد.

المهم، أعتقد أن الشرطي انتهى من التدقيق وعليّ الذهاب الآن.

تمنّي لي التوفيق يا ماريا، فلطالما حلمنا بالسفر سوياً.

وسامحيني يا ماريا لأنني لن أستطيع أن آخذك معي.

المشكلة أنهم في هذه البلاد لا يسمحون للموتى بالخروج سوى مشياً على الأقدام لا حملاً بالنعوش.

ثم أن تلك القذيفة الحمقاء التي نزلت عليكم أزالت كل شيء فلم نعد نستطيع التمييز بين جثتك الشابة وجثة جدتك العجوز فدفناكما معاً.

لكن لا تقلقي، حين سأسافر سآخذ معي حفنة من تراب قبرك، وأرجو أن تكون لك لا لجدتك.

سأحمل كمشة التراب هذه وأذهب بها لأحقق ما حلمنا به، سأذهب للتخييم في أحد الأكواخ الخشبية في النرويج، سأشرب حتى الثمالة ليلاً في الشانزيليزيه، وسأحتسي القهوة للمرة الأخيرة معك في أحد مقاهي ميلانو.

سامحيني يا ماريا، سامحيني.

وأخبري جدتك أنني كنت أحبها كثيراً رغم كل شيء.

الوداع يا ماريا.

الوداع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard