بعد أسبوعين من الدراسة في دمشق قررت العودة إلى مصياف، وأنا في الكراجات سألني العسكري الذي يفتش الحقائب متهكماً: "لماذا شعرك طويل؟ هل أنت فنان أو طالب مسرح أو فنون جميلة؟"، فقلت لا، أنا أدرس الأدب الإسباني، فضحك عالياً وقال: "وتريد تحسين العلاقات بين سوريا وإسبانيا؟"، فقلت له: "أبداً ولا أكترث لذلك، إنما أفكر في مغادرة سوريا بأقرب وقت ممكن". سلاماً أيها العسكري الضاحك!
في العام 2007 وبعد أن انتهيت من تقديم فحص الشهادة الثانوية في سوريا رحت أنتظر النتائج النهائية لأقرر لاحقاً ماذا سوف أدرس في الجامعة. في تلك السنة علمت أن مجالاً دراسياً جديداً أصبح متاحاً في سوريا، ألا وهو الأدب الإسباني. لم أتردد لحظة وعلى الفور قررت دراسته، وتكلمت مع أمي بهذا الخصوص التي لم يعجبها ذلك بادئ الأمر، فهي كباقي الأمهات السوريات، أو أمهات مدينتي مصياف، تتمنى أو تريد لابنها أن يدرس الطب، الهندسة أو الصيدلة. كنت على علم مسبق أني لن أحصل على العلامات الكافية لدراسة تلك الحقول العلمية، وبغض النظر عن ذلك، لم تكن لدي الرغبة في دراستها. في النهاية قالت لي أمي: ادرس ما تشاء فهذا قرارك.
أخيراً تم الإعلان عن النتائج لشهادة البكالوريا وبالفعل سجلت الأدب الإسباني في جامعة دمشق، وعدت إلى مدينتي مصياف لتكون سيرتي على كل لسان، فأنا كنت الإسباني الوحيد آنذاك، فهكذا ناداني البعض بـ "الإسباني". وأنا أتجول في مدينتي الصغيرة، استوقفني العديد من المعارف لاستنطاقي عن الحماقة التي ارتكبتها، فراح هذا يقول لي: "لماذا تريد دراسة الأدب الإسباني؟ أليس غريباً عمو؟"، وآخر بدأ يقترح عليّ أن أعيد البكالوريا وأدرس فرعاً آخر، كالهندسة الغذائية أو هندسة الطاقة أو أي شيء له وقع مهيب على السمع، وآخر قال لي: "الأدب الإسباني أفضل لك من أن تبقى مكتوف الأيدي لا تعمل شيئاً، برافو عمو!". ليتك لم تقل هذا يا عمو!
المهم بدأت بالدراسة وأعجبني الأمر جداً، فأنا لا أتعلم فقط لغة جديدة بل ثقافة بلد كامل يقطن به أقاربي منذ أعوام، وهذا كان دافعاً لي أيضاً أن أسافر إليهم بعد إتقان اللغة بشكل جيد.
بقي حب تعلم الشتائم بلغة أجنبية جديدة هو الطاغي من حولي، وبدأت معالم معهد الكلمات النابية المستقبلي تقبع في عقلي، حتى كنت على وشك أن أبدأ بتحديد مكانه على خريطة مدينتي. يا له من مشروع!
انتهى الفصل الدراسي الأول وعدت في إجازة إلى مصياف، وعندما نزلت إلى الشارع حيث كان الجميع يتمشى على "طريق المساكن"، أصبح من يعرفني يقترب مني ويقول لي: "علي، علمني كيف أشتم باللغة الإسبانية"، حينها شعرت أني قادر على العمل بشهادتي عندما أنتهي من الدراسة، فسأفتح معهداً في مصياف واسمه سيكون "معهد خوان كارلوس الأول لتعلم الشتائم باللغة الإسبانية"، شعرت بالتفاؤل والمستقبل المشرق الذي ينتظرني هناك، وحينها تأكدت أني سأسافر خارج البلد حين تسنح لي الفرصة.
رغم أني كنت أدافع عن مجال دراستي بين الفينة والأخرى كأن أذكر مثلاً، أننا نحن طلاب الدفعة الأولى من الأدب الإسباني كنا موعودين بالعمل في السفارات المتحدثة باللغة الإسبانية، أو في المركز الثقافي الإسباني "ثيربانتيس" في دمشق، لكن عبث!
بقي حب تعلم الشتائم بلغة أجنبية جديدة هو الطاغي من حولي، وبدأت معالم معهد الكلمات النابية المستقبلي تقبع في عقلي، حتى كنت على وشك أن أبدأ بتحديد مكانه على خريطة مدينتي. يا له من مشروع! وفي يوم من الأيام وبعد تعرّضي لعدة مواقف مليئة بالسخرية من الدراسة التي أدرسها، بدأت تساورني الشكوك بشكل جدي، وعلامات استفهام ترتسم في رأسي عن المستقبل الذي ينتظرني في حال بقيت في البلد، وفي ذات الوقت لم أكن أريد أن أكون واحداً ممن يعلقون شهاداتهم على الحائط، ويشتغلون أشياء أخرى لا علاقة لها بمجال دراستهم.
القلق الذي ولده المجتمع الصغير الذي كنت أعيش فيه كان هائلاً، وهو يثير الاضطراب في نفس أي شخص مهما كان واثقاً من نفسه، ومع ذلك مضيت قدماً بفضل الدعم الذي أحاطتني به أسرتي، وعلى الرغم من عدم قدرتي استكمال دراستي في سوريا بسبب الحرب، وانعدام فسحة الأمل الوحيدة بالعمل في البلد، بسبب إقفال جميع السفارات وإغلاق المركز الثقافي الإسباني في دمشق، ها أنا في بلد أوروبي، ألمانيا، أستكمل دراسة الأدب الإسباني إلى جانب الصحافة، حتى أكمل ما بدأت به، وحتى لا أؤمن أيضاً أن كلام المجتمع يمكن أن يدمر حلم شخص ما.
المجتمع قادر على إضعاف عزيمة أفراده ولكن علينا الاستمرار بغض النظر عن كل شيء، فلو كل شخص تخلى عما يحب، واستسلم لرغبة الأغلبية لرأينا مجتمعاً مليئاً بالأطباء والمهندسين، ولا يوجد من يجعل قلبنا ينبض بالأدب والشعر والموسيقى. كم سيكون ذلك مملاً؟!
نعم المجتمع قادر على إضعاف عزيمة أفراده ولكن علينا الاستمرار بغض النظر عن كل شيء، فلو كل شخص تخلى عما يحب، واستسلم لرغبة الأغلبية لرأينا مجتمعاً مليئاً بالأطباء والمهندسين، ولا يوجد من يجعل قلبنا ينبض بالأدب والشعر والموسيقى. كم سيكون ذلك مملاً؟!
الآن أشعر أني لم أعد مضطراً لافتتاح معهد الأحلام "معهد خوان كارلوس الأول لتعلم الشتائم باللغة الإسبانية"، كان كابوساً جميلاً وثقيلاً بنفس الوقت.
يا لخيبة مدينتي في عدم امتلاك هكذا صرح حضاري وثقافي، كان سيكون الأول من نوعه في العالم!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت