يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق في شهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
على بعد خطوات من ميدان التحرير، يمتدّ "بوكيه" الورد الرقيق الذي يتشكل على الخارطة في وسط العاصمة المصرية القاهرة، "وسط البلد"، كما ينطقه المصريون العابرون والمقيمون عند "بنت المعزّ" من العرب وما يطلق عليه الأجانب "Down Town"؛ الكيان الذي خرج إلى النور، بقرارٍ من الخديو إسماعيل قبل ما يزيد عن قرن ونصف، ليشكّل نقطة جغرافية واجتماعية وفنية مركزية تلخّص الهوية المصرية وتعدّ مختصراً لطابع النخبة فيها، كما كانت شاهدَ عيان على كلّ التحولات الاجتماعية الكبرى في مصر، وعلى رأسها ثورة 25 يناير.
جولة اليوم لرصيف22 في قلب البنيان المعماري المميز لوسط القاهرة، الذي وضعها بجوار باريس ولندن وروما طبقاً لمعايير الأناقة ورقيّ التصميمات، حيث تمتدّ سلسلة من الممرّات، تحتفظ لنفسها بزاوية اجتماعية منفصلة، وحالة خاصّة، تتميّز بالحميمية التي تتكوّن وسط المساحات الضيقة، في تراكات مستقيمة غالباً ومنحنية أحياناً، يأخد بعضها الطابعَ التجاري، والبعض الآخر هادئ ورائق يصلح للتمشية في وقت العصاري، أو لجولات الرياضة الصباحية والمسائية. شهد بعضها على أحداث واشتباكات وتجمعات ثقافية وعروض فنية حُفرت في ذاكرة التاريخ. في تلك الحالة المميزة للشوارع الجانبية والدروب الفرعية، قامت حياة صاخبة، تلوّنت بروح القاهرة، المدينة العربية الهادرة.
لم تكن وسط البلد منطقة سكنية فحسب، وإنما شهدت افتتاحَ مجموعة من المحلات الضخمة برؤوس أموال أجنبية، من أشهرها سلسلة "شيكوريل" و"صيدناوي"، كما تنافست البنوك وشركات السياحة الكبرى على إيجاد مقارّ لها في المنطقة منذ بدايتها.
كلّ ممرّ من ممرّات منطقة وسط البلد كان شاهداً على جانب من الحياة الاجتماعية والفنية والسياسية والاقتصادية في تاريخ مصر؛ على ناصية ممرّ "ريش" المتفرّع من شارع طلعت حرب، وصولاً إلى البستان السعيدي، حيث يقع مقهى زهرة البستان، كان هناك موعد مع التاريخ في "مقهى ريش" الذي يقع في بداية الممرّ، والذي شهد الاجتماعات التحضيرية لثورة 1919، التي خرجت ضدّ الاحتلال الإنكليزي، من أجل تأييد الزعيم سعد زغلول ورفاقه الذين تمّ إبعادهم إلى المنفى.
وفي ممرّ الشريفين الممتدّ ما بين شارعي قصر النيل وصبري أبو علم، يقع مقرّ الإذاعة المصرية القديمة التي ألقى منها محمد أنور السادات بيان ثورة 1952، معلناً تحوّل مصر من النظام الملكي إلى الحكم الجمهوري. وبين دروب ممرّات وسط البلد خرجت المظاهرات الاحتجاجية ضدّ السادات نفسه في عام 1977،، تهتف ضد غلاء الأسعار والضغوط الاقتصادية التي حاصرت المصريين في ذلك الوقت، وبعدها بعقود كانت ممرّات وشوارع وسط القاهرة، شاهداً جديداً على الأحداث خلال ثورة يناير، وسالت في تلك الممرات دماء المحتجّين المطالبين بالتغيير وإنهاء حكم مبارك الذي أستمرّ لمدة ثلاثة عقود.
كانت منطقة وسط البلد في ذلك الوقت عبارة عن مجموعة من البرَك والمدابغ، فبدأت عملية إزالة الأتربة وردم البرك، وأعاد الخديو إسماعيل تخطيط المنطقة على النسق الأوروبي، تزامناً مع افتتاح قناة السويس
"ممرّ بهلر"، قطعة من أوروبا على أرض القاهرة
أحد أشهر الممرّات التجارية في وسط البلد، يصل بين شارعي قصر النيل وطلعت حرب، "تشارلز بهلر" الذي نسب الممرّ إليه، من مواليد عام 1868. جاء إلى القاهرة قبل أن يكمل عامه العشرين في نهايات القرن التاسع عشر ليعمل في الشركة المصرية للفنادق، وبعد رحلة صعود أصبح مديراً لأحد سلاسل الفنادق الشهيرة، قبل أن يصبح مالكاً للشركة التي كان يعمل فيها موظفاً، بعد أن استطاع الاستحواذ على حصّة حاكمة من الأسهم.
يعتبر ممرّ "بهلر" من أشهر مناطق القاهرة التجارية، يشتهر بوجود محلّات الملابس الشهيرة، وتقع في بدايته عمارة بهلر، وتتكوّن من 130 شقة تمّ تصمميها على النظام الفرنسي، وتمّ تقسيم الممر إلى 72 محل، على نفس طريقة تقسيم ممر "رو دي ريفولي" في العاصمة الفرنسية باريس، ولكن بشكل مصغّر نسبياً.
"تشارلز بهلر"، صاحب الممرّ، استطاع في رحلة صعوده تملّك فندق الجزيرة أو "ماريوت". ورغم أن الممرّ الشهير في وسط القاهرة أخذ اسمه من "بهلر" لكن رجل الفنادق الشهير كان يعيش خارج وسط البلد، وتحديداً في شارع حسن صبري بمنطقة الجبلاية. ثمّ انتقل بعد ذلك إلى منطقة غاردن سيتي، قبل أن يعود إلى سويسرا، حيث توفي هناك في لوزان عام 1937.
ومن أبرز معالم الممرّ التاريخية القديمة كوافير "جاد الله" المتخصّص في تصفيف شعر الفنانات، ونجمات مصر، ومحلّ "انللوب" الشهير لبيع منتجات الجلود الطبيعية. ويتقاطع ممر بهلر مع ممر آخر، يُعرف باسم "ممرّ الشاي الهندي"، يشتهر بمحلّات الملابس والأحذية.
سرّ الصبغة الباريسية
التشابه مع العاصمة الفرنسية باريس الذي يظهر بشكل واضح في عمارة ممرّات وسط القاهرة، يعود بنا للخديوي إسماعيل، الرجل الشغوف بالبناء والعمارة والمحبّ للحضارة الغربية، الذي كان يحمل حلماً بأن يجعل القاهرة قطعة من أوروبا، ولذلك عندما انتقلت إليه السلطة عام 1863، بدأ في تنفيذ حلمه.
كانت منطقة وسط البلد في ذلك الوقت عبارة عن مجموعة من البرَك والمدابغ، فبدأت عملية إزالة الأتربة وردم البرك، وأعاد الخديو إسماعيل تخطيط المنطقة على النسق الأوروبي، تزامناً مع افتتاح قناة السويس، وبنى الخديو على مساحة ميل مربع من ميدان الاسماعيلية (التحرير حالياً)، وحتى حدائق الأزبكية، مدينة سكنية متكاملة على الطرازين النمساوي والإيطالي، لتصبح نقطة تجمع للنخبة السياسية والاجتماعية في مصر.
قاد عملية التحوّل نخبة من المهندسين الأوروبيين قام الخديو باستقدامهم لتخطيط شوارع وميادين وسط القاهرة، كان أبرزهم مهندس نابليون الثالث "أوسمان" الذي صمّم المباني الهامّة في الميادين، بينما قام المهندسان الإيطاليان ''أفوسكاني'' و''أورسيني'' بعملية تصميم وبناء دار الأوبرا المصرية القديمة عام 1869، على نمط أوبرا ''لاسكالا'' بميلانو، والتي تمّ بناؤها بخشب فاخر مستورد من لبنان، دون استعمال الإسمنت، وقام المهندس "مارييت" بإنشاء المتحف المصري، بينما صمّم ''دي كوريل دل روسو''، "قصرَ عابدين" الشهير.
يبلغ عدد الممرّات في وسط البلد ما يزيد عن 20 ممراً، من أبرزها ممرّ "تاون هاوس" الذي اشتهر بالفعاليات الثقافية، خاصّة في السنوات التي أعقبت ثورة يناير، كما أنه يضمّ مقهى "التكعيبة"، أحد أشهر المقاهي التي تحتضن مثقّفي القاهرة
عالم من الممرّات
تنوع لا مثيل له في الأنشطة تحويه ممرّات وسط القاهرة. هنا سيقابلكم المقهى والمطعم والمسجد وصالون الحلاقة والبار ومخازن الجملة، بل وبعض المصانع الصغيرة أحياناً. ستقابلكم لافتاتها المتناثرة وأنتم تعبرون وسطها. ويعدّ ممرّ الألفى أشهر وأكبر ممرّات وسط البلد، يتوازى مع شارع 26 يوليو، ويفصله عنه أمتار قليلة، يبلغ طوله 135 متراً بينما يصل عرضه إلى 22 متراً، ويضمّ العديدَ من المطاعم الشهيرة من أبرزها "ألفى بك" و"آخر ساعة"، بالإضافة إلى محلات الحلويات الشهيرة.
ويبلغ عدد الممرّات في وسط البلد ما يزيد عن 20 ممراً، من أبرزها ممرّ "تاون هاوس" الذي اشتهر بالفعاليات الثقافية، خاصّة في السنوات التي أعقبت ثورة يناير، كما أنه يضمّ مقهى "التكعيبة"، أحد أشهر المقاهي التي تحتضن مثقفي القاهرة، و"ممرّات البورصة" التي يبلغ إجمالي أطوالها ما يقترب من 900 متراً، كانت شوارع قديماً قبل أن تتحوّل إلى ممرّات للمشاه، وقد احتضنت العديد من المقاهي التي قامت السلطات المصرية بإغلاقها في فترة ما بعد ثورة يناير، ولم تعد تلك المقاهي إلى النور حتى الآن.
كما سيقابلكم في وسط البلد "ممرّ الشواربي" الشهير بمحلّات الملابس، والذي يربط بين شارعي عبد الخالق ثروت وقصر النيل، ويبلغ طوله أكثر من مائتي متر، بالإضافة إلى ممرّي "الجريون" و "أفتر إيت" المتوازيييْن اللذين يربطان بين شوارع قصر النيل ومحمود بسيوني وشامبليون، ويضمّان مطعم "الجريون" الشهير، وبار "أفتر إيت" الذي انتقل مؤخراً إلى خارج وسط القاهرة، أي منطقة المهندسين.
بالإضافة إلى مقهى "أفتر إيت"، وبعض المحلات التجارية الصغيرة، وإلى جوار تلك الممرّات تشتهر ممرّات كوداك وفيليبس والكونتننال والأمريكيين، والتي يتباين طولها وعرضها حتى يصل أضيقُها لما يكفي لعبور شخصٍ واحد أحياناً، لكنّها تتشابه كلّها في أنها تحمل الحالة القاهرية من أقرب نقطة، والتي يصفها الكاتب أرتيمس كوبر،في كتابه ''القاهرة في الحرب العالمية الثانية" بأن المحلات أطلّت فيها على مجرى الشارع بلافتات ضخمة مكتوبة بالفرنسية أو العربية، واتّسع رحابها ليضمّ البنوك وصالات السينما والمقاهي والحانات على طريقة شارع "سان جيمس" في لندن التي لا ترتقي كثيراً عن القاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه