المدن الكبيرة، التي كانت تجتذب غالبيّة شباب الريف ومدن الأطراف، أصبحت اليوم مصدر إزعاج يهرب منه الكثير من الشباب. الهرب من حب قديم، أو من ضيق العيش، الهرب بحثاً عن فرص جديدة، أو للتخلص من الشعور بالاختناق وسط زحام المدينة، كلّها أسباب متعددة قد تدفعك للهجرة من مدينتك والبحث عن مكان آخر. بشجاعة، يعترف أحمد فؤاد بأن كل هذه الأسباب مجتمعة دفعته إلى اتخاذ قراره بالرحيل، بعد سنوات قضاها بين مدينتي المنصورة والقاهرة. أخذ أحمد قراره وانطلق إلى جبال سيناء، وعلى ساحل نويبع اختار تأسيس حياة جديدة من صفر، بالمعنى الحرفي للكلمة.
"تشعر بالناس في القاهرة، وكل مدن وادي النيل، كأنهم يسيرون فوق بعضهم البعض. الوادي ضيق وخانق، وما من فرصة لإصلاحه". يقول أحمد الذي انتقل بشكل نهائي للعيش في مدينة نويبع، منذ حوالي عشر سنوات. تتكون المدينة من بضعة مبانٍ بسيطة تحيط بميناء نويبع على البحر الأحمر جنوب سيناء، ويتشكل الجزء الأكبر من سكانها من العائلات البدوية.
من نويبع إلى مدينة طابا، تمتد اليوم عشرات المخيمات والمنتجعات التي تم بناؤها بمواد بيئية وتكاليف بسيطة، أسستها مجموعات من الشباب القاهري الساعي للخروج من ضيق الوادي. كان لدى أحمد قصة حب لم تكتمل، وإذا ما قرّر قضاء حياته في القاهرة، لم يكن أمامه غير الصبر على مرتّب بسيط، ومناخ عمل يقوم على المنافسة أكثر مما يقوم على الإنجاز. اكتشف منطقة نويبع وتعرف على شيوخ القبائل هناك، واختار قطعة أرض كبيرة بعيدة عن العمران.
وقتها لم يكن البدو يبيعون بالمتر، بل يبيعون الأرض بالدجعة" كما يقولون. أشار شيخ القبيلة إلى صخرة ونخلة في نهاية الأرض وقال له: "على البركة، خدي دي بأربعين ألف جنيه (7 آلاف دولار)." يشير أحمد إلى المنطقة التي تمتد من الجبل حتى البحر: "عشت لوحدي هنا، وكانوا يمرون علي ويتعاملون معي كأنني مجنون". لكنه بصبر أخذ يبني مجموعة من البيوت بمواد بسيطة كلها تعتمد على المواد الموجودة في البيئة المحيطة. جذوع النخل يتم استخدامها كعواميد، والطوب والحجارة البحرية تُبنى بها الجدران والأسوار. خلال بضع سنوات، تسابق آخرون للانتقال إلى نويبع، والأرض الخالية التي اشتراها أحمد بسعر زهيد، أصبحت تضم مجموعة منازل بيئية يؤجرها لأجانب اختاروا الإقامة في نويبع، أو لمصريين يبحثون عن مكان للاستقرار ومشروع لتأسيس بيت بديل، مثلما فعل أحمد.
بعد الثورة تزايدت أعداد الشباب الذيين يرغبون في هجرة الوادي وتأسيس مشاريع على الأطراف وفي الصحراء. ينصبّ اهتمام هؤلاء على ثلاث مناطق أساسية، جنوب سيناء (شرقاً)، واحة سيوة والفرافرة (الصحراء الغربية)، وساحل مطروح (الشمال الغربي). في الأمر عنصر واضح يتعلق بالربح المادي وفرصه في هذه المناطق العذراء. أ.ح عمل لمدة عام واحد في الخليج وعاد بمبلغ لا يتجاوز 20 ألف دولار. يقول: "هذا المبلغ لم يكن يكفي لشراء حتى غرفة في القاهرة، لكنني اشتريت به 3 فدّانات من الأرض من بدو صحراء النطرون، وحولتها إلى مزارع سمكية، وبنيت بيتاً صغيراً هناك“ يضيف: ”الآن معظم أصدقائي من القاهرة يسعون لتكرار ذات التجربة". ينتج الفدان الواحد حوالي 30 طن من السمك، وهي كميّة ضخمة جداً. استعاد أ.ح خلال عام واحد كل ما انفقه ويستعد الآن للتوسع في مشروعه.
علاقة الهجرة الداخلية بالأوضاع السياسية يوضحها أكثر يوسف عطوان المغني فيفريق "لايك جيلي" إذ يقول: "الوضع في مصر معقد والنظام سيء، وحتى الإقامة في الدول الأوروبية والأمريكية التي تتميز بكفاءة النظام تفرض قيوداً ونمط حياة غير مريح، ونحن ببساطة نريد اختيارنا الخاص". يسعى يوسف مع مجموعة من أصدقائه لشراء مزرعة في منطقة الفرافرة (الصحراء الغربية) وإقامة منزل وخلق نظام بيئي مكتفٍ ذاتياً ومنفصل عن النظام الخارجي. معظم الأراضي التي يلجأ إليها الشباب على الأطراف بعيدة تماماً عن سيطرة الدولة وحتى الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء التي لا تتوفّر في تلك الأماكن، وبالتالي عليك توفير الكهرباء من خلال الألواح الشمسية والمولدات الخاصة، والبحث عن سبل لتوفير الماء، سواء من خلال الآبار أو الاتفاق مع سيارات المياه وبناء الخزانات المناسبة.
يعبر يوسف عن إعجابه بتجربة الإدارة الذاتية المتبعة في الهند، حيث تمنح السلطة المركزية القرى والمجتمعات الصغيرة، خصوصاً النائية، حقّ الإدارة الذاتية لمناطقها. يحدد يوسف اختياره قائلاً: "نبحث عن اختيار الخروج من النظام"، لكنه يستدرك أن هذه هي أسبابه الشخصية، مؤكداً أن جزءاً كبيراً منها مدفوع بحب المغامرة، والبناء وتأسيس شيء خاص فوق الرمال.
بعيداً عن أسباب أحمد وطموحات يوسف، ينظر بعض العاملين في قطاع التنمية إلى مثل هذه التجارب باهتمام شديد ويعوّلون عليها لتقديم نموذج نوعي للتنمية البيئية المستدامة. لهذا ربما أطلقت مؤخراً الحكومة الألمانية مع الحكومة المصرية برنامجاًلدعم وتشجيع "المنتجعات البيئية"، يهدف إلى توجيه أصحاب هذه المشاريع للخطوات المناسبة، بدءاً من الإجراءات القانونية وحتى طرق التنمية وكيفية التعامل مع البيئة والثقافة المحلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...