قبل 4 أيام من حلول الذكرى الثالثة بعد المئة لمولد جمال عبد الناصر، 15 كانون الثاني/يناير عام 1918، أعلنت وزارة قطاع الأعمال تصفية شركة الحديد والصلب أقدم الشركات الحكومية، التي أُسست عام 1954، وتمثل النصيب الأكبر من القلاع الصناعية التي أسسها "ناصر".
أوضح بيان وزارة قطاع الأعمال أن التصفية جاءت نتيجة خسائر الشركة التي بلغت نحو تسعة مليارات جنيه، لكن هذا لم يمنع ثورة الغضب التي اشتعلت في نفوس المصريين بسبب هذا الخبر الذي وصُف بـ"يوم أسود في تاريخ الصناعة"، بل تطور الأمر إلى دعوات اكتتاب شعبي لشراء أسهم الشركة لتظل ملكًا للمصريين كما أعلن المفكر أحمد الخميسي، بالإضافة إلى دعوات قضائية لمنع تنفيذ القرار.
ويمكن القول إن حالة الغضب تلك لا تقتصر على شركة الحديد والصلب، بل هي حاضرة دوماً حين يتم المساس بأي مشروعات أقامها جمال عبد الناصر، أو حتى مناقشة جدواها، فالاقتراب من تلك المنطقة أمر غير مقبول حتى بالنسبة للمعارضين للحقبة الناصرية، وهذا ما دفعني للتساؤل لماذا أصبحنا أسرى مشروعات جمال عبد الناصر؟
برأيي أن أول تلك الأسباب هو يقين شريحة كبيرة من المصريين، خاصة العاملين في المشروعات التي انشأها ناصر، وهم عشرات الآلاف، أن تلك المصانع وغيرها تخصهم وتمثل الضمان الحياتي لهم، وأي مساس بها تحت أي مسمى يعني تهديداً لضمانهم المعيشي.
هذا اليقين ترسخ مع التجارب السابقة، فكل الشركات التي جرى التخلص منها في عصر حسني مبارك تم تشريد عمالها، وهو ما يبدو وشيكاً مع عمال شركة الحديد والصلب البالغ عددهم 7500، ورغم الوعود بالحصول على الحقوق المادية أو إيجاد فرص عمل بديلة، يدرك العمال وغيرهم أن تلك هي "النغمة المعتادة" التي لا تسفر إلا عن تعويضات هزيلة و"خراب بيوت" آلاف الأسر تحت مسميات كثيرة مثل "الخصخصة والتطوير" وإن اختلف الأمر في الحديد والصلب وقرروا استخدام "تصفية" في دلالة على الانتقام والوقاحة.
برأيي أن أول تلك الأسباب هو يقين شريحة كبيرة من المصريين، خاصة العاملين في المشروعات التي انشأها ناصر، وهم عشرات الآلاف، أن تلك المصانع وغيرها تخصهم وتمثل الضمان الحياتي لهم، وأي مساس بها تحت أي مسمى يعني تهديداً لضمانهم المعيشي
السبب الثاني هو إدراك المصريين ضرورة أن تكون لهم صناعتهم الوطنية التي لا تعتمد على الاستيراد أو رجال الأعمال، لأن هذا يمثل جزءاً كبيراً من استقلالهم الوطني، خاصة الصناعات الثقيلة التي تمثل عصب حياتهم اليومية، وهذا بالضبط ما حققته لهم المشروعات التي تأسست في الفترة الناصرية، وتنوعت بين الحديد والصلب والغزل والنسيج والأسمنت، وكل مشروع من تلك المشروعات كان معركة مستقلة من أجل الاستقلال وواجه عقبات كثيرة، ومع اتباع السادات سياسة الانفتاح عام 1974 وسيادة الصناعات الاستهلاكية حتى الآن، أصبحت تلك المشروعات الإرث الوحيد الباقي لمصر الصناعية، فبيع شركة الحديد والصلب لا يختلف كثيراً عن قرار تخلي السيادة عن الأراضي مصرية.
حين صدر قرار تصفية شركة الحديد والصلب، تذكّرت زميلة عبر منشور على حسابها في فيسبوك أيام دراستها الجامعية، وذهابها لتلك الشركة لتتلقى محاضراتها العلمية في مادتي "الفيزياء والكيمياء" اللتين كانتا تتمان داخل هذا الصرح، ورد عليها آخرون متذكرين أيام كانوا يذهبون إلى شركة الحديد والصلب كرحلة مدرسية تنظمها المدارس في وقت من الأوقات.
وسواء قصد عبد الناصر أم لا، فقد ربط مشروعاته بوجدان المصريين سواء من خلال تحويل الشركة إلى "جامعة علمية" أو إلى مقصد للطلاب في رحلات مدرسية، مما أدى في النهاية إلى خلق أجيال تنظر لتلك المشروعات على أنها أكبر من مجرد نهضة اقتصادية، بل صارت جزءاً من ذكريات المصريين وهو ما يعد سبباً ثالثاً في رفض أي تفريط في هذا الإرث.
ارتباط تلك المشروعات بالتاريخ الوطني، يعد أيضاً سبباً قوياً لحساسية المصريين تجاه كل ما يمسها، فالسد العالي ليس مجرد مشروع لتخزين المياه بل هو المعركة التي تحدّت فيها مصر البنك الدولي، وشركة الحديد والصلب هي التي ساهمت في صنع حائط الصواريخ المشارك في حرب 1973، وهكذا يمكن القياس على كثير من المشروعات الأخرى، هذا ما يفسر سر غضب المصريين من كل من يحاول مناقشة فائدة السد العالي مناقشة علمية أو التلميح لآثاره السلبية. بالنسبة للمصريين مناقشة فائدة السد العالي تعني مناقشة جدوى نضالهم!
حين يرفض المصريون التفريط في أي شيء يخص مشروعات عبد الناصر، هم في الحقيقة يدافعون عن جزء من ذكرياتهم ونضالهم وحركتهم السياسية، كما يدافعون عن صناعتهم الوطنية و"أكل عيشهم" لأنه يدركون جيداً أن هذا هو ما تبقى لهم
هذا حدث أيضاً بشكل غير مباشر بالنسبة لجيلي، فالانتفاضة الكبرى التي مهدت لثورة 25 يناير خرجت من مصانع المحلة الكبرى، التي أسس جمال عبد الناصر جزءاً كبيراً منها، ونشطت بها الحركة العمالية لفترات طويلة، ومرة أخرى تتخطى المشروعات فكرة الاقتصاد ليصبح المساس بها نوعاً من "تصفية" النضال النقابي الذي دفعنا إلى أن نهتف في قلب ميدان التحرير: "بنقول شد الحيلة يا محلة".
لذلك، فالمصريون حين يرفضون التفريط في أي شيء يخص مشروعات عبد الناصر، هم في الحقيقة يدافعون عن جزء من ذكرياتهم ونضالهم وحركتهم السياسية، كما يدافعون عن صناعتهم الوطنية و"أكل عيشهم" لأنه يدركون جيداً أن هذا هو ما تبقى لهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...