لم تتحوّل بعد قضايا الجسد والجنس إلى مواضيع رئيسية لمختف الأعمال الفنية العربية، ولا سيما المسرحية منها، نظراً لطبيعة المجتمعات التي لا يبدو أنها مهيأة بعد لقبول هذه الأطروحات.
واقع اختار المخرج التونسي منصف زهروني القطع معه، عندما ألّف وأخرج مسرحيته "عبور" أو "Transtyx" التي تروي رحلة عابرة جنسياً تونسية "تينا"، ولدت في جسد رجل لم تشعر بالانتماء إليه بقدر شعورها بأنها أنثى، فقرّرت التمرد عليه عبر الخضوع لعملية تحول جنسي انتهت بوفاتها.
المسرحية هي رحلة في المستقبل، بين 14 كانون الثاني/يناير 2011 و2038، تجري أحداثها في فضاء سرمدي "الستيكس" أو النهر المظلم، تيمناً بالميثولوجيا الإغريقية، خلال فترة الغيبوبة التي تسير فيها "تينا" أثناء إجراء العملية.
مساحة زمنية عجائبية قد نعتبرها جسراً فاصلاً بين الموت والحياة، تروي فيها البطلة رحلتها المضنية كعابرة جنسياً، وأحلامها وتمردها بالتوازي مع واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي صعب في البلاد. وبعد متابعة العمل وما أثاره من أسئلة وتأويلات وتخمينات، التقينا مخرج ومؤلف العمل، منصف زهروني، وحاولنا الوقوف معه على أجواء إنتاج هذا العمل وتفاصيله فكان هذا الحوار.
مسرحية "عبور" أو "Transtyx" مساحة زمنية عجائبية بين الموت والحياة، تروي فيها البطلة رحلتها المضنية كعابرة جنسياً، وأحلامها وتمردها بالتوازي مع واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي صعب
لماذا فكرت في إنجاز عمل عن العابرين جنسياً، رغم حساسية هذا الموضوع داخل مجتمع لم يتقبلهم بعد؟
لاحظت أن التناول الإعلامي لموضوع العابرين جنسياً ضعيف وغير دقيق وتشوبه الكثير من المغالطات، الخلط وسوء الفهم، وقد اتضح هذا التصور أكثر لدى متابعتي لأحد البرامج التلفزيونية سنة 2015، عندما تمّت استضافة أحد العابرين جنسياً للمرة الأولى، فكان التناول سطحياً وضعيفاً، ولاحظت عدم فهم وإلمام بالموضوع. وعوض أن يساعد البرنامج في تنوير الرأي العام وتقريب صورة العابرين للرأي العام وشرح معاناتهم، حدث العكس، إذ ساهم البرنامج في تعزيز النظرة السلبية تجاههم في تونس. ولهذا اتجهت جدياً لتصحيح هذه المغالطات عبر المسرح.
قبل إنجاز العمل، قمتَ ببحث طويل حول العابرين جنسياً، وصل حد تقمّصك دور عابر وذهابك للأطباء النفسيين. كيف كانت التجربة، وماذا اكتشفت خلالها؟
عندما فكرت بإنجاز العمل قمت ببحث ميداني معمّق، قابلت خلاله بعض العابرين والعابرات، بينهم من يعمل في اختصاصات مختلفة، وآخرون مازالوا يزاولون دراستهم. الكثير منهم متفوقون وكثيرون أيضاً يواجهون معاناة كبيرة بعد أن تخلت عنهم عائلاتهم، وآخرون توجهوا للعمل الجنسي حتى يوفروا المصاريف الحياتية، وإن كانت هذه الفئة محدودة.
بعد هذه المرحلة أردت التوجّه للطب النفسي لفهم كيف يتعاطى مع العابرين جنسياً، وماذا يقدمون لهم من حلول، لا سيما وأنني قد سمعت من الشهادات التي التقيتها كلاماً مفاده "أن الأطباء النفسيين يكرهوننا ولا يقدمون لنا الدعم". فالتقيت عشرة أطباء باختصاصات مختلفة، كالطب النفسي التحليلي وأطباء الأعصاب، وهنا اكتشفت أن الأطباء النفسيين في تونس لا يملكون التكوين الكافي فيما يتعلق بالعبور الجندري والهويات الجندرية اللامعيارية.
منصف زهروني: "لاحظت أن التناول الإعلامي لموضوع العابرين جنسياً ضعيف وغير دقيق وتشوبه الكثير من المغالطات وسوء الفهم، ولهذا اتجهت جدياً لتصحيح هذه المغالطات عبر المسرح"
واكتشفت أن بعض الأطباء (7 على 10 ممن التقاهم) الذين تتجه لهم طلباً للمساعدة لفهم ذاتك أكثر والمصالحة معها، يعتمدون خطاباً دينياً، من قبيل أن لديك فراغاً دينياً وأنه لا بد أن تقترب أكثر من الله حتى تشفى. والحال أنني انتظرت أن أجد تعاملاً علمياً مواكباً للأبحاث الجادة التي تجري على مستوى العالم، ومتماشياً مع ما نصّت عليه منظمة الصحة العالمية، حينها أدركت سبب عزوف العابرين جنسياً عن الطب النفسي في تونس.
طرح المسرحية كان في المستقبل مع أن الواقع، كما ذكرت، معتم ويحتاج الوقوف عنده. لماذا هذا الاختيار؟
الحقيقة أنني من الذين يميلون إلى الخيال العلمي والخيال الفلسفي، كما أن الواقع اليوم تعيس ومتعب، والأسوأ أننا بتنا، كتونسيين، نستهلك الأخبار القاتمة باستمرار، سواء إعلامياً أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحنا نعيش فقط في الواقع والحاضر. ولهذا ارتأيت أن تكون المسرحية في زمن آخر، قادر أن يمنح الناس متنفساً جديداً للحلم والسفر خارج اللحظة الحاضرة. وهذا سينطبق على كل أعمالي القادمة.
في المسرحية، سارت خيبات تينا وأفراحها بالتوازي مع أوجاع الوطن. لماذا هذا التماهي بين الذاتي والجماعي؟
تعمدت هذا التوازي لأقول إن تينا هي تونس وتونس هي تينا، وما يحدث في تونس يؤثر على أبنائها. أيضاً في بعض الأحيان اخترنا أن تكون تونس على وقع أحداث سلبية، فيما تينا تعيش محطات إيجابية، حتى نبين أنه بالإمكان أن يكون الوطن متعباً، ولكن مع ذلك هناك من يحاولون الصمود ويشقون طريقهم بنجاح ويقاومون بطريقتهم، شأنهم في ذلك شأن كامل فريق المسرحية الذي تمسك بالبقاء في تونس المنهكة، رغم كل الإغراءات المتوفرة في دول أخرى.
منصف زهروني: "اكتشفت أن بعض الأطباء الذين تتجه لهم طلباً للمساعدة لفهم ذاتك والمصالحة معها، يعتمدون خطاباً دينياً، من قبيل أن لديك فراغاً دينياً وأنه لا بد أن تقترب أكثر من الله حتى تشفى"
قلت إنك تريد العمل على المستقبل لتخفيف قتامة الواقع، ولكنك في المسرحية طرحت صورة سوداوية عن تونس لا تختلف عن الواقع؟
كنت أقصد الواقع المسترسل الذي نعيش على وقعه في تونس، ولكن خلال عملنا المسرحي (كتب بين 2011 و2018) أردنا الانطلاق من أحداث من الواقع ثم وضعنا تصوراتنا لها في المستقبل حتى 2038. مثلاً، قضية مدرسة الرقاب التي أقفل ملفها ولم يعد هناك أي حديث إعلامي عنها، أعدنا فتحها في المسرحية بأن توقفنا عند هؤلاء الأطفال، وحاولنا تصور كيف ستكون حياتهم بعد 20 سنة.
أيضاً تحدثنا عن برجوازية الاقتصاد الرقمي الموجودة اليوم في العالم، وكيف ستصل إلى تونس التي ستضطر، تحت وقع المتغيرات المتسارعة في العالم، للانفتاح أكثر ومنح الشباب فرصة حيازة بطاقة بنكية دولية، ستمكّنهم من فتح شركات تسفر عن ظهور برجوازية الاقتصاد الرقمي وتنافس البرجوازية الكلاسيكية. وانتهينا إلى أن البلاد ستدخل في حرب أهلية. وهذا انتهينا إليه من منطلق وقائع آنية، على غرار تردي مستوى التعليم، الذي من نتائجه زيادة نزعة التوحش الفردانية وتراجع الوعي، والذي لن ينتج عنه سوى السقوط في العنف.
منصف زهروني: "الأسوأ أننا بتنا، كتونسيين، نستهلك الأخبار القاتمة باستمرار، سواء إعلامياً أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحنا نعيش فقط في الواقع والحاضر. ولهذا ارتأيت أن تكون مسرحيتي في زمن آخر"
نهر العبور أو الجسر الفاصل بين الحياة والموت الذي عبرته تينا والمفتوح على الكثير من التأويلات. ما هي الرمزية التي قصدتها من خلاله؟
أنا من محبي الميثولوجيا وتاريخ الأديان، وكما ندرك جميعاً أنه في كل الأديان السماوية، أو ما قبلها، هناك دائماً نهر العبور للعالم الآخر، ولهذا اخترت الستيكس اقتباساً من الميثولوجيا الإغريقية، لأنه معروف ومظلم. والشخصية الرئيسية لعملنا "تينا"، باعتبارها عابرة جنسياً، فإن حياتها في تونس بمثابة العبور في نهر مظلم في طريق لا نعلم نهايته.
والستيكس ممكن أن يكون تونس التي تخوض انتقالاً ديمقراطياً مجهول المصير. الستيكس أيضا قد يعني البحر الأبيض المتوسط الذي يبتلع العابرين جنسياً الذين يحاولون المرور إلى الضفة الأخرى بطريقة غير نظامية، بحثاً عن حياة أفضل، فينتهون في قعر البحر المظلم، تماماً كما النهر المظلم الذي أشرنا إليه، شأنهم في ذلك شأن الكثير من الشباب التونسي الذي خاض ذات التجربة بحثاً عن أفق جديدة.
رغم الواقع الصعب للعابرين جنسياً، رسمت صورة متفائلة عن حرية التعبير الجندرية في تونس. ما مردّ هذا التفاؤل؟
رغم الكثير من السلبيات والنقاط السوداء، ولكن هناك الكثير من النقاط المضيئة التي تبعث على التفاؤل. أصبح هناك العديد من الجمعيات التي بدأت تنشط وتدافع عن قضايا مجتمع الميم عين (المثليين والعابرين جنسياً)، وتحركات المجتمع المدني والكثير من الناشطين الذين يعرضون حياتهم للخطر من أجل الدفاع عن حقوق هؤلاء، أيضاً في السينما والمسرح أصبحنا نرى شخصيات كويرية تظهر بقوة في أكثر من عمل. وهذه مؤشرات ايجابية تجعلنا نتفاءل، لا سيما إذا ما قارنا الوضع بما كان قبل 10 سنوات.
هل الفن عموماً، والمسرح خاصة، قادران على تغيير النظرة النمطية حول المختلفين جنسياً؟
أؤمن بدور الفن في التغيير، ولكن في تونس، وبالنسبة لهذه الملفات، فإن دور الفن سيكون محدوداً نوعاً ما، فهو قادر على توضيح وتقريب الصورة للناس ويرفع مستوى الوعي لديهم إزاء هذه المسائل. ولكن التغيير الحقيقي يبدأ أساساً من التعليم، من مناهج تعليمية جديدة تتطرق لهذه المواضيع بطريقة علمية تحترم أكثر حقوق الانسان وتقدر الاختلاف، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية. أستطيع القول إن دور الفن هنا يمكن تشبيهه بذلك العصفور الذي يحاول إطفاء النار بما يستوعب منقاره من ماء.
منصف زهروني: "عندما فكرت بإنجاز مسرحية "عبور" قمت ببحث ميداني معمّق، قابلت خلاله بعض العابرين والعابرات. الكثير منهم متفوقون وكثيرون أيضاً يواجهون معاناة كبيرة، وأقليّة منهم توجهت للعمل الجنسي حتى توفّر مصاريفها الحياتية"
ما هي ردود الفعل التي تلقيتها حتى الآن، نظراً لحساسية الموضوع المطروح؟
قدمنا حتى الآن 13 عرضاً، أغلبها كان بشبابيك مغلقة، وهناك ثلاثة أنواع من الجماهير الحاضرة. الجمهور الفضولي الذي يريد اكتشاف العمل حتى يكون على اطلاع ويتسنى له المشاركة في النقاش، أو ما سيثيره عمل بهذه الجرأة أو الحساسية، ولكن بمجرد متابعتهم للعمل يكتشفون أنه ينتمي إلى حد ما إلى الخيال العلمي، وخال من البكائيات المألوفة، فيفاجؤون.
هناك الجمهور الداعم للقضية، والذي يأتي بحثاً عن فهم أكبر لهذه المسائل، كالفرق بين المثلية الجنسية والعبور الجندري، أعضاء مجتمع الميم عين الذين يتابعون العمل لفهم المزيد عن أنفسهم، وأيضاً ليشعروا أن لهم تمثيلاً وحضوراً كاملاً في عمل مسرحي. هناك الجمهور المعارض لهذا الموضوع، ولكن يواكب العمل كي يشتم أو يتذمر، وهذا أهم طرف، لأننا نجحنا إلى حد ما تغيير نظرة الكثيرين منهم.
كيف نجحت في تغيير نظرة هؤلاء؟
تصلنا بعض الرسائل أو التعليقات المسيئة أو التي تعبر عن معارضتها لهذه الموضوعات، فنقوم بدعوة أصحابها لحضور العمل المسرحي مجاناً، والمشاركة في النقاش الذي يتبع كل عرض مسرحي. وقد لاحظنا أن الكثير منهم أبدوا مواقف أكثر ليناً وأقل تشدداً إزاء العابرين جنسياً، بعد متابعة العمل، حتى أنني أذكر أن أحدهم تأثر حد البكاء بعد العرض، رغم أنه كان من الرافضين لهم. وهذا أعتبره نجاحاً يضاف إلى النجاح الجماهيري للمسرحية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...