نشهد مؤخراً ظهور المدونة الصوتية "البودكاست" كوسيط يجذب الشباب، حيث تتيح نقل خطاب مغاير ومختلف عن التيار السائد. ولازالت تحمل، كوسيط، سحر الصوت الذي يمنح المستمع حرية التأمل، بعيداً عن الصورة التي تسطّح، في بعض الحالات، المعنى، وتأسر المتابع بشكل قد يحد من الخيال. وبهذا باتت المدونة الصوتية وسيطاً يشكل أداة للمناصرة والتمثيل وتحدي التابو في المجتمعات العربية، وأصبحت تشدّ اهتمام الأفراد والمؤسسات في العالم العربي، وتساعد الفئات الشبابية الراغبة بالتعبير عن حاجتها للتغيير، تحدي التنميط وتكميم الأفواه. وفي محاولة لإلقاء الضوء على بعض البرامج التي تهدف لطرح قضايا جندرية باللغة العربية وموجهة للعالم العربي، عملت رصيف22 على لقاء مجموعة متنوعة من القائمين على مشاريع متخصصة ومبادرات فردية للاطلاع على أعمالهم في هذا المجال.
نشهد مؤخراً ظهور المدونة الصوتية "البودكاست" كوسيط يجذب الشباب، حيث تتيح نقل خطاب مغاير ومختلف عن التيار السائد
من المشاريع الشبابية الطموحة تأتي منصة "صوت" الأردنية المتخصصة، والتي تقدّم برامج متنوعة، مع وجود حامل لهذه المواضيع يختص بقضايا الجندر. في انطلاقة المنصة في 2016، قدمت ثلاثة برامج وهي "خرائط اللامكان"، "الدين والدولة" و"عيب". في حوار مع رصيف22، تحدثنا تالا العيسى، مديرة الإنتاج، عن برنامج "عيب" و"مساحة" وعن تجربتهم في المناصرة.
تقول العيسى: "يسعى برنامج (عيب) لتفكيك مفهوم العيب وإعادة قراءته بطريقة مغايرة لما هو سائد. ففي إحدى المقابلات حول موضوع الجسد، التقينا بأسير فلسطيني أضرب عن الطعام، وشاركنا تجربته بوصف العنف الذي تعرض له، وكان هدفنا أن نبين أن العيب هو الممارسات العنيفة ضد الإنسان وجسده. لمسنا إقبالاً على البرنامج ومراجعات إيجابية له، تبيّن حجم الاحتياج لمزيد من هذه البرامج، رغم وجود انتقادات وحساسيات، وخاصة الحساسية العالية تجاه قضايا المثلية التي لازالت تشكل تابو. من البلاد التي أعطت دلالات لوجود عدد كبير من المستمعين كانت السعودية في الصدارة، ثم مصر وبعدها الإمارات. وسعينا لتقديم أشكال مختلفة لبرامجنا، فبرنامج (عيب) يحتوي مواضيع ترتبط بتجارب الأفراد وخبراتهم، وأغلبهم رغب بعدم التصريح عن هويته لحساسية تجربته. بينما جاء برنامج (مساحة) كفسحة للنقاش وطرح نظريات ترتبط بالنسوية وعلاقتها بالسياسة".
وعند سؤالها عن اهتمامهم بالمدونة الصوتية كوسيط للعمل، في عصر باتت فيه الصورة جزءاً أساسياً من المشهد الإعلامي، أو ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، قالت العيسى: "المدونة الصوتية تساعد على طرح مواضيع ترتبط بالتابو، وعلى حماية خصوصية المشاركين. المدونة الصوتية وسيط غير مركزي نقوم بنشره عن طريق تطبيقات متنوعة، ما يساهم بالانتشار بعيداً عن تشديد الرقابة. وكما تسمح المدونة الصوتية بالوصول لفئات متنوعة وذوي الاحتياجات الخاصة، مثل المكفوفين. وتسمح للمستمعين بأداء مهمات مختلفة في وقت استماعهم للصوت، بعيداً عن هيمنة الصورة التي تمنع الخيال والتأمل".
إضافة لذلك ترى العيسى اهتمام الممولين بهذا الوسيط وبقضايا الجندر وبقضية التمثيل، وكما تشدد على اهتمام فريق العمل بالتمكين، ففريق "صوت" يتكون من عدد من النساء، كما يهتم الفريق بإعطاء الأفراد الذين يشعرون بالتهميش منصة لتعبر عن قضاياهم.
المدونة الصوتية تساعد على طرح مواضيع ترتبط بالتابو، وتحرص على حماية خصوصية المشاركين
بودكاست "دبس وطحينة" يتناول قضايا تساهم بالتوعية الجندرية وتفتح المجال للنقاش وطرح الأسئلة. يشرف فريق "دبس وطحينة"، وهو مجموعة شابة من جنسيات مختلطة من بلاد الشام، على هذا المشروع. في حوارها مع رصيف22، تقول بختة (31 عاماً) إحدى المشاركات في الفريق: "أردنا بهذا المشروع أن نخاطب فئة ليس لها بالضرورة توجه نسوي. ورغبنا بكسر عزلة مجموعة من الناس تشعر بالوحدة، لامتلاكها أفكاراً ومشاعر لا تنسجم بالضرورة مع التوجه العام للمجتمع، من خلال تقديم نماذج قد يشعر المتلقي بأنها تمثل حالته. بالتالي أردنا خلق مساحة للتضامن عن طريق تعزيز تمثيل قضايا يتم التعتيم عليها عادة. هدف المشروع تحدي الإقصاء وإلغاء الآخر لاختلافه، بالتأكيد على الحوار وتعزير حضور المختلف وبالتالي أنسنته".
تتابع بختة حديثها عن آلية العمل: "كفريق نسوي يؤمن بالتشاركية، عملنا بشكل جماعي على إنتاج المحتوى من خلال الحوار والنقاش، استغرقنا تحضير الأفكار والتخطيط للمشروع شهوراً طويلة، وخلصنا إلى إنتاج الحلقات بشكل منفصل، ما ساهم بأن تعكس القضايا الآنية التي كنا نعايشها، مثل أزمة الحجر بسبب Covid-19 وانفجار مرفأ بيروت، فأصبح كحالة من التوثيق. جاء هذا لإيماننا أن النسوية هي منهج يجعل من الشخصي سياسياً، ولقد تنوع محتوى الحلقات بين حلقات عن الهوية والرجولة، ومواضيع الغيرة وعلاقات القوى في العلاقات العاطفية وغيرها".
"المدونة الصوتية كوسيط مرنة جداً وتسمح بالابتكار، وممكن أن تجري من خلالها مقابلات أو تركز على السرد أو التحليل. وأيضاً تركز على الخصوصية، حيث يسمح لفئة الشباب بالاستماع إلى المدونة الصوتية بحميمية عالية"
وفيما يتعلق باختيار المدونة الصوتية كوسيط للعمل، تقول بختة: "المدونة الصوتية كوسيط مرنة جداً وتسمح بالابتكار، وممكن أن تجري من خلالها مقابلات أو تركز على السرد أو التحليل. وأيضاً تركز على الخصوصية، حيث يسمح لفئة الشباب بالاستماع إلى المدونة الصوتية بحميمية عالية".
وتضيف بختة: "وحصولنا على تمويل من مؤسسةFRIDA The Young Feminist Foundation ساعدنا على إنتاج محتوى ذي جودة جيدة، وبالطبع وجود تمويل يتحكم بجودة المنتج، من حيث الصوت والتحرير واختيار الموسيقى وغيرها. ولقد بدأنا بالبثّ في شهر فبراير من سنة 2020".
إضافة لذلك تحدثنا بختة عن سعادة الفريق بعدد المستمعين الذي لم يتوقعوا أن يصلوا له، وكانت السعودية في المرتبة الثالثة من حيث عدد المستمعين. وتعتقد بختة أن فترة كورونا والعزلة الاجتماعية ساهمتا بانتشار المدونة الصوتية أكثر كوسيلة للتعبير. وتبين بختة: "العمل بهوية مجهولة يساعد بحمايتنا كشباب، لكن يخفف من قدرتنا على الانتشار، رغم أنه قد يسمح لفئات كثيرة بالتعبير عن ذاتها، يظل أننا نتمنى لو استطعنا العمل دون الشعور بالضغط المجتمعي علينا لمجرد رغبتنا بالتعبير وإيصال صوتنا".
النظرة الإيجابية للذات
من الصفحات المميزة التي تناقش قضايا مجتمع الميم، تبرز صفحة qadeera.official على الإنستغرام، والتي تقدم بودكاست "قديرة في السوسايتي". تهدف الصفحة لتعزيز النظرة الإيجابية للذات ضمن مجتمع الميم، حيث تعمل على بثّ محتوى إيجابي يركز على الصحة النفسية والجسدية لأفراد هذا المجتمع، وتعزيز الثقة بالنفس. اختار فريق قديرة، المكون من قديرة (30 عاماً من العراق) وفيفي (33 عاماً من مصر)، أن يكون المحتوى باللغة العربية لقلة الصفحات العربية التي تعالج هذه القضايا. يقول قديرة لرصيف22: "أنشأت الصفحة قبل سنتين، وكانت السخرية طريقتنا للهرب من التنمّر الذي نتعرض له في الوطن العربي. ومع الاهتمام المتزايد بالصفحة وتعبير الكثيرين عن ذلك، طورنا العمل بإطلاق بودكاست يناقش قضايا مجتمعنا".
يتابع قديرة: "اخترنا المدونة الصوتية لعدم اضطرارنا للحصول على تمويل لإنجازه، بالطبع العمل على المضمون يستهلك وقتاً طويلاً، فقد أطلقنا المدونة الصوتية قبل شهر، لكن العمل عليها استغرق شهوراً قبل ذلك، وكثيراً ما كنا نضطر لتأجيل العمل على الحلقات بسبب اعتذار بعض المشتركين الخائفين من كشف هوياتهم وتعرضهم للأذى". وحول التفاعل مع المدونة الصوتية يعبر قديرة عن سروره: "لم أكن أتخيل الوصول لهذا العدد من المستمعين، وأشعر بالسعادة لقدرتنا على التفاعل مع مجتمع الميم، وحتى لو لم يتقبلنا المجتمع المغاير، فهذه المدونة الصوتية تساهم بإيصال صوتنا وأنسنتنا وتساهم بمناصرة أفراد مجتمع الميم، وبخصوص المحتوى الذي نعمل عليه، كنا نسأل المتابعين على الإنستغرام عن الموضوعات التي تهمهم، ونعمل على تقديمها بعد دراسة وبحث".
"عملنا ليس فقط لمحاربة التنميط في المجتمع المغاير الجنس، بل حتى ضمن مجتمع الميم، حيث يوجد تنمر بين أفراده، وأحياناً نجد حالات كره الذات كنتيجة للعنف الذي يمارسه المجتمع"... مدونات صوتية تحدث فرقًا في مناصرة أفراد مجتمع الميم
ويؤكد فيفي: "عملنا ليس فقط لمحاربة التنميط في المجتمع المغاير الجنس، بل حتى ضمن مجتمع الميم، حيث يوجد تنمر بين أفراده، وأحياناً نجد حالات كره الذات كنتيجة للعنف الذي يمارسه المجتمع. لذا هدفنا أن نقدم محتوى يساعد على تعزيز الراحة والاطمئنان في قلوب أفراد مجتمع الميم، وكما نبثّ قصصاً عن تجارب أفراد نستضيفهم في حلقاتنا المتنوعة. تعكس هذه القصص، رغم الاضطهاد الممارس على شخوصها، إرادة الأفراد بالنجاح ورغبتهم بالاستمرار في وجه العنف المجتمعي". يشعر قديرة وفيفي بأن عملهما في مجال الميديا قد ساهم بتمكينهما ومنحهما رؤية أعمق لاحتياجات المجتمع، وأن التمكين يأتي مع المسؤولية ويساهم بالتغيير وبتحدي آليات الاضطهاد المجتمعي.
فسحة للتواصل والتشبيك
هناك أمثلة لبودكاست تم بثّه كجزء من مشروع نسوي، أصبح نواة لراديو نسوي، مثل "حمام راديو" الذي بدأ مع برنامج "حمام توكس"، وقد بادرت لتأسيسه كل من رشا حلوة وعبير غطاس. يفسح الراديو المجال للنساء لتمثيل أنفسهن والتعبير عن ذواتهن بخلق مساحة آمنة تمكنهن من إنتاج خطاب نسوي يتحدى آليات الاضطهاد. يساهم الراديو بخلق فسحة للتواصل والتشبيك، ولمشاركة التجارب المتنوعة للنساء بعيداً عن العيب والممنوع. إضافة لهذا يساهم بخلق هوية موسيقية معاصرة، تجمع بين التراث والحداثة، روح الشباب والحس النسوي الذي يسلط الضوء على تجارب النساء الموسيقية.
يأتي الصوت كوسيط ليمنح الشباب حرية التعبير عن ذاتهم ضد القمع، وليعطيهم أفقاً يسمح لهم بتخيل مستقبل تشاركي يحتفل بالتنوع
مما سبق يتضح أن البرامج التي تم ذكرها في هذا المقال هي أمثلة من تجارب عديدة ومتنوعة في مجال البودكاست الذي يشهد ازدياداً مضطرداً في برامجه، ولكن للأسف لا يتسع المجال لذكرها جميعاً. الأمثلة الواردة هنا هي برامج تم بثها باللغة العربية، وتختلف بين تجارب فردية وتجارب مؤسساتية. كما تظهر الحاجة لبرامج تعمل على تحدي منظومة إلغاء الآخر وتهميشه، وكما تتبدى أهمية وجود إعلام بديل مدعوم بفكر حر، وبهذا الصدد يأتي الصوت كوسيط ليمنح الشباب حرية التعبير عن ذاتهم ضد القمع، وليعطيهم أفقاً يسمح لهم بتخيل مستقبل تشاركي يحتفل بالتنوع. وبحسب عبارة مارشال ماكلوهان في الستينيات، حول التلفاز كوسيط له تأثير يطبع ثقافة المجتمع، بأن الوسيط هو الرسالة وليس المحتوى، نجد أن المدونة الصوتية أصبحت هي الرسالة لجيل يسعى للتغيير وإيصال صوته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...