شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"لو عدت إلى فلسطين سأعيش اغتراباً"... فلسطينيات يتحدثن عن الهجرة والبحث عن الحرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 26 سبتمبر 202011:59 ص

"الباحثات عن الحرية" فيلم مصري شاهدته منذ ما يزيد عن عقد من الزمن. رغم أنني لا أتذكر أحداث الفيلم بالتفصيل، لكن اسمه بقي عالقاً في رأسي كلما فكرت بحال الكثير من النساء العربيات اللواتي يحاولن السفر لبلاد غربية، ليحصلن على حريتهن المنقوصة والمقنوصة في بلادهن.

السعي للهجرة، الغربة خارج أو داخل الوطن وصراع الهويات الذي يولد بسبب الهجرة، جميعها أشياء يختبرها النساء والرجال، ولكنني في هذا التقرير سأنقل حكايا وتجارب أربع نساء فلسطينيات، لأن الصعوبات والقيود والتوقعات التي يفرضها المجتمع على الإناث أكثر، والنتائج المترتبة على نيل حريتهن مختلفة عن الذكور. هذا بالإضافة إلى أني أعتقد بأن تجارب الفلسطينيات لا تختلف كثيراً عن تجارب أي سيدات عربيات من جنسيات أخرى.

تمام، سارة، راما وداليا، أسماء مستعارة لأربع نساء فلسطينيات آثرن ألا تُكتب أسماؤهم الحقيقية، لكي يستطعن التحدث بحرية دون أن يتعرضن وعائلاتهن للإقصاء من المجتمع، ولكيلا تتعرض حياتهن للخطر، في أسوأ الأحوال. 

أكثر ما يشعرني بالغربة في بلدي هو اضطراري لتبرير حياتي لمن حولي.

تمام، شابة فلسطينية نسوية، كما تحب أن تعرّف عن نفسها، في السادسة والعشرين من عمرها، لاجئة للمرة الثانية. تقول: "منذ ولدت وأنا لاجئة. نزحت عائلتي في العام 1948 إلى مخيم جباليا في قطاع غزة، وأنا لاجئة في بلجيكا منذ 2017". أقامت في تركيا لأربع سنوات لدراسة الصحافة، ثم استقرت في بروكسل لإكمال دراساتها العليا وقدمت اللجوء.

أما سارة، فامرأة فلسطينية متزوجة تُقيم في احدى قرى الضفة الغربية، أم لثلاثة أطفال تحت الخمس سنوات، وقاربت على نهاية عقدها الثالث. تقول: "أنا امرأة حاولت أن أعيش حياتي كما أريد، ودون أن أسمح بتقييدي، لكنني فشلت". عملت سارة بعد تخرجها بتفوق في عدة وظائف، ولكنها قررت التخلي عن عملها لتكون "أماً مثالية" لأطفالها.

بينما راما امرأة فلسطينية عربية مسيحية، كما تعرّف عن نفسها، في السادسة والعشرين من عمرها. استقرت في بروكسل بعدما كانت تقطن في رام الله مع عائلتها. أما من الناحية المهنية فهي لا تعرف كيف تُعرّف عن نفسها، لأنها عاطلة عن العمل الآن. 

من جهتها، تقيم داليا في مدينة نابلس في الضفة الغربية، وتعرف عن نفسها بأنها شابة درست العلاقات العامة والإعلام، وبعد تخرجها في العام 2014، عملت في المجال الشبابي والعمل المجتمعي، ثم بدأت مشروع عمل "أون لاين".

السعي للهجرة، الغربة خارج أو داخل الوطن وصراع الهويات الذي يولد بسبب الهجرة، جميعها أشياء يختبرها النساء والرجال، ولكنني في هذا التقرير سأنقل حكايا وتجارب فلسطينيات، لأن الصعوبات والقيود والتوقعات التي يفرضها المجتمع على الإناث أكثر، والنتائج المترتبة على نيل حريتهن مختلفة عن الذكور

غربة النساء في أوطانهن 

"هنالك وصف دائماً ما أطلقه على نفسي، أنا حرفياً مثل الدائرة التي تحاول أن تتأقلم بداخل مربع. أعيش في مكان لا يسمح لي بأن أبيّن حقيقتي: عيب... حرام... شو بدهم يحكوا عليك الناس... إحنا فش عنا بنات تعمل هيك، هذه الكلمات التي أسمعها باستمرار وترسم شخصيتي"، هكذا بدأت داليا بسرد قصتها.

تروي داليا: "أنا في الثامنة والعشرين، لكنني ما زلت أكتشف نفسي. لا أحب الالتفات لكلام الناس، لكن أهلي يفعلون، لذا يجدر بي مراقبة جميع تصرفاتي. أتمنى لو أستطيع أن أكون حرة وأقوم بالأشياء البسيطة التي تعبر عني. أتمنى أن يكون لديّ كلب، أن أنزع الحجاب، أن أسكن لوحدي وأن أعبر عن أفكاري ومعتقداتي التي تدعم كل إنسان، لكن كل ذلك يعتبر محرمات".

وتضيف: "أكثر ما يشعرني بالغربة في بلدي هو اضطراري لتبرير حياتي لمن حولي، ومهما بررت لا يفهمون. لا يفهمون لماذا أعتقد أنني يجب ألا أتزوج أي عريس يتقدم لي، فقط لأني تجاوزت الخامسة والعشرين. لا يصدقونني عندما أخبرهم بأنني لا أشعر بالنقص، لا يفهمون بأنني لا أكره الزواج وأحب أن أحظى بأطفال، لا يفهمون بأن نجاحي المهني مهم بالنسبة لي، كما هو مهم بالنسبة لهم أن يروني متزوجة. الحقيقة أنني أريد الهجرة لأي مكان بعيد عن هنا، حيث أستطيع أن أكون مستقلة ومستقرة".

تمام تقول: "كنت صغيرة حين غادرت غزة، ولكن المجتمع لم يكن يراني صغيرة. منذ أن تبلغ الفتاة وتبدأ دورتها الشهرية تصبح جاهزة لممارسة الجنس والزواج، حتى ولو كانت مجرد طفلة تريد اللعب. وحين كنت في الصف السادس الابتدائي كنت الوحيدة بين زميلاتي في المدرسة غير المحجبة، فما كان من المعلمات إلا وحوّلن جميع الفصول الدراسية لدروس دين. وحين كنت أشارك في فرقة الدبكة الوحيدة في قطاع غزة المختلطة من أولاد وبنات، كانوا يرموننا دوماً بالبيض والحجارة".

تمام وداليا قالتا بأنهما تلبسان الحجاب، وكلتاهما تخلعانه عندما تغادران منطقة سكنهما، لتحميا نفسيهما وعائلتيهما من إقصاء الجيران. 

"أشعر بالغربة حين يحصل شيء مهم في فلسطين، ولا أجد الناس في الشارع متأثرين أو يفهمون ما أشعر به"

صدمة حضارية في بلدها الأم

أما سارة فتقول: "عشت سبعِ سنوات في دولة غربية، وعندما عدت مع عائلتي لفلسطين، حصلت لي صدمة حضارية: لغة جديدة، ثقافة وعادات وتقاليد مختلفة، لكن أكثر ما جعلني متمردة هو الفرق في معاملة أهلي لي ومعاملتهم لأخي الذي يكبرني بسنة واحدة فقط، لكنه يستطيع أن يبقى خارج البيت لوقت متأخر، ولم يكن مطالباً بالمساعدة في أعمال المنزل. لم أنل جزءاً من حريتي إلا عندما عملت في رام الله. كنت أقوم بعملي على أحسن وجه، حتى أنني كنت أعمل 44 ساعة إضافة للساعات الرسمية في الشهر، ولكنني لم أكن أتطور، فتقدمت لدراسة الماجستير في أميركا، حينها تعرفت على زوجي الحالي، فتخليت عن فكرة الدراسة والسفر، وهذا ما أندم عليه كثيراً. كان زوجي يبدو منفتحاً ويتقبل أفكاري، لكنني كنت مخطئة، فبعد الزواج صار يتحكم بي كأي رجل شرقي. ينجذبون للبنت القوية والحرة بشرط ألا تكون أختهم أو زوجتهم أو أمهم".

"زوجي يقول بأنه يحبني، ولكنه يكلم سيدات كلاماً لا يليق برجل متزوج، هو يقول بأنه لا يعتبر ذلك خيانة، ولكن لو فكرت بفعل ما يفعل سيقتلني أو يطلقني في أحسن الأحوال. وحين تركت المنزل وذهبت لبيت أهلي، أعادني أبي بنفسه في اليوم التالي". 

وتردف سارة: "بالحقيقة، أكثر ما يقلقني هو أن أصبح مثل أمي. كانت طموحة وذكية، وأكملت تعليمها الجامعي في فترة لم يكن فيها تعليم الفتيات الجامعي منتشراً في القرى الفلسطينية، ولكنها بالنهاية ضحت بمسيرتها المهنية لتربي أطفالها. كبر أبناؤها والتفت كل منهم لحياته، بينما تقضي هي معظم ساعات يومها تشاهد المسلسلات التركية على الأريكة مكتئبة.

الاحتلال

أما تمام فترى بأن الاحتلال هو السبب الرئيسي في الوضع التي آلت إليه الحياة في فلسطين. تقول: "كلما كان الحصار يطول والحروب تكثر أصبحنا جميعنا مرضى نفسيين يعيشون في مكان واحد، وليس هناك أمل بالنجاة أو الشفاء، فنقوم بممارسة أمراضنا وعقدنا النفسية على بعضنا البعض، ولا توجد وسيلة للهرب". الوضع السياسي والاقتصادي المتعثر في غزة، بحسب تمام، يجعل الرجل يفقد ثقته بنفسه، فيشعر بأنه "ليس رجلاً كفاية"، فيلجأ للدين والعادات والتقاليد ليفرض سيطرته على أخواته، زوجته، بناته، أو حتى أي امرأة في الشارع، ليشعر بأنه "قادر وقوي"!

الغربة في الخارج وصراع الهويات القاتلة

ترى راما بأن هوية المرء تتغير في كل مرحلة عمرية، فتقول: "عندما جئت إلى بلجيكا كانت هويتي الفلسطينية متجذرة، ولكن بعد عام بدأت أتعرف على هويتي البلجيكية، لأنني ولدت هنا قبل أن تعود عائلتي لفلسطين. كما ولديّ أيضاً هوية بروكسلية. بروكسل تشبه رام الله، فسكان رام الله الأصليون شبه غير موجودين، وجميع من يقطنها يعتبر نفسه جزءاً منها". هذا "اللاانتماء الجذري"، بحسب وصف راما، الموجود في بروكسل، هو ما يجعل كل من يقطنها يشعر بالانتماء إليها.

وتضيف راما: "أصعب ما يثقل عليّ في حياتي كسيدة عربية، هو أنني لا أملك الحق في الخطأ، فقد أدفع حياتي ثمن أخطائي، رغم أن الصح والخطأ نسبيان".

أما تمام فقد اعتبرت أن الحرية الجنسية التي تنالها الفتيات العربيات في أوروبا قد يدفعن ثمنها غالياً، فقتل النساء في فلسطين متفشٍ. تقول: "كل صديقاتي يخبرنني بأنهن دوماً كن يشعرن وهن يمارسن الجنس بأن أفراد عائلاتهن يراقبونهن". 

احدى المواضيع التي أجمعت عليها كل من النساء الأربع، هو قصة قتل فتاة فلسطينية يعرفنها بشكل شخصي، أثرت عليهن وسببت لهن عقداً نفسية وخلقت بداخلهن ذعراً مستمراً، وهذه إحدى أهم الأسباب التي دفعت كل منهن للهجرة.

بين الغربة والاشتياق للوطن

"أشعر بالغربة في بلجيكا، ولكن ليس تلك الغربة التي تُذكر في الأغاني والأفلام العربية، ليست الغربة القاتلة التي تجعل الإنسان لا يسعد بحياته"، هكذا بدأت راما كلامها حول الغربة، وأوضحت: "أشعر بالغربة حين يحصل شيء مهم في فلسطين، ولا أجد الناس في الشارع متأثرين أو يفهمون ما أشعر به. ولكنني لا أشعر بالغربة في معظم الوقت، فانتماؤك يصبح للأفراد الذين تشعر معهم بحريتك وبقدرتك على أن تكون على حقيقتك". 

"الاحتلال هو السبب الرئيسي في الوضع التي آلت إليه الحياة في فلسطين. كلما كان الحصار يطول والحروب تكثر أصبحنا جميعنا مرضى نفسيين يعيشون في مكان واحد، وليس هناك أمل بالنجاة أو الشفاء، فنقوم بممارسة أمراضنا وعقدنا النفسية على بعضنا البعض"

عقدة الناجي

على عكس راما، تعيش تمام الغربة أكثر، وهذا ربما لأنها لا تملك الحق بزيارة أهلها في غزة لعدة أسباب، من بينها أنها لاجئة ولا تستطيع مغادرة بلجيكا الآن، وأيضاً لأن المعابر مقفولة بين غزة ومصر. وتُدرك تمام بأنها تعاني مما يسمى في علم النفس بعقدة الناجي، التي تلتصق بكل الناجين من ظروف صعبة، فيصيبهم شعور قوي بالذنب لنجاتهم دون غيرهم، أو لاعتقادهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لإنقاذ البقية. 

غربة من هاجروا في وطنهم الأم

من جهة أخرى، تشعر راما بالغربة كثيراً عندما تعود لفلسطين. تقول: "أكثر ما يشعر به من هاجر عندما يعود لبلده، هو أن الحياة استمرت من دونه، فمن هاجر يشعر دوماً أن كل شيء سيبقى على حاله في بلده أثناء غيابه. وأصبحت ضيفة لا جزءاً من واقع عائلتي اليومي. صرت أتوه في منطقة سكني، ولم أعد أشعر بأن السرير الذي اعتدت النوم عليه في بيت أهلي هو سريري. توضح راما بأن توقف الزمن ليس من طرف المغترب ولكن من طرف أقاربه أيضاً، الذين يعاملونه على أنه نفس الشخص الذي كانه قبل أن يسافر، ولكن التجارب والسنوات تطوّر أي إنسان. وتؤكد: "لو عدت إلى فلسطين اليوم سأعيش اغتراباً واشتياقاً دائماً لبروكسل".  

كل من النساء الأربع لديها أحلامها وطموحاتها وظروفها الخاصة، ولكن ما جمعهن هو وعيهن بذواتهن، ورفضهن أن يكنّ ما أراده المجتمع والنظام الأبوي بشكل أعم، لهن. كل منهن تحلم برؤية فلسطين بلداً آمناً للنساء، حيث يسمح لهن بأن يكن على حقيقتهن، بلد تستطيع النساء فيه أن يصرخن ويدافعن عن حقوقهن، بدل سياسات القمع والقهر التي يمارسها المجتمع والأنظمة السياسية والذكورية عليهن. وطن لا نشعر بالغربة فيه، بل نفعل الكثير لنهرب منه، مع أننا نحبه حتى النخاع. 

هذا التقرير لا يروي قصة راما وداليا وتمام وسارة لوحدهن، بل قصص الكثير من النساء العربيات، والفلسطينيات بشكل خاص، اللواتي تُنتهك حقوقهن وتقنص حيواتهن كل يوم في بلادهن. نساؤنا يستحقين حياة أفضل وظروفاً أقل قسوة، ليحققن ذواتهن ويضعن طاقاتهن فيما هو مفيد لهن وللمجتمع، بدل أن يسعين للهرب بحثاً عن قدر من الحرية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image