شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
“لم تترك شيئاً إلا ووضعته في لوحتها“... مصر ولبنان في لوحات زينب محمد علي

“لم تترك شيئاً إلا ووضعته في لوحتها“... مصر ولبنان في لوحات زينب محمد علي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 7 يناير 202105:08 م

" إذا فنى جسمي تذكروا رسمي"، هكذا عبّرت الفنانة التشكيلية زينب محمد علي (1921- 2015) عن فلسفتها في الحياة والفن في مذكراتها، التي تحمل عنوان "حصاد السنين من الطفولة للستين". ويبدو أن مقولتها هذه تتحقق فعلاً ولو بعد مرور قرن من الزمان على ميلادها، وإبداع لوحاتها التي ظهرت للنور في أول معرض فني استعادي بعد رحيلها بعنوان: "مصر ولبنان... الناس والطبيعة في أربعينات وخمسينات القرن العشرين"، في كانون الأول/ ديسمبر 2020.

لدى عبورك بوابة قاعة "الباب سليم" التي تستضيف المعرض بمتحف الفن الحديث بدار الأوبرا المصرية، تنتقل بسلاسة لحقبة تاريخية استمعنا كثيراً عن بهائها وأناقتها، والآن تُشاهدها عبر 77 لوحة مُفعمة بواقع الحياة المصرية واللبنانية المتنوعة، أبدعتها الفنانة الرائدة زينب محمد علي.

جلس في العصاري فلاحاً بأرضه مع زوجته، يخطفان لحظات من الهدوء والسكينة.

بسهولة تتجول في حدائق مصر الزاهية في الأربعينيات، وتستمع لأصوات عصافيرها على الأشجار بدون إزعاج من حياة القاهرة الصاخبة، وربما تسافر مع اللوحات على ظهر مركب خشبي عتيق بالنيل يحمل "بلاليص العسل" والقمح من محافظات الصعيد المختلفة، لتشم رائحة نخل الأقصر العالي، وتحتضن الجبال الرملية الصفراء للأراضي الخضراء على ضفاف مدينة أسوان، بينما يجلس في العصاري فلاحاً بأرضه مع زوجته، يخطفان لحظات من الهدوء والسكينة بعد يوم عمل شاق في الحقول.

ورحلة عبر المتوسط، تسافر خلال لوحاتها إلى بيروت لتستمتع بجمال صخرة "الروشة"، وشارع الأوزاعي، والنزهات في الجبال، وتُعاصر النكبة كما نقلتها علي بمخيمات اللاجئين، وها هن بنات الأكراد الجميلات في ملابسهن المزخرفة.

“لم تترك شيئاً إلا ووضعته في لوحتها“... مصر ولبنان في لوحات زينب محمد علي

توثيق تاريخ مصر ولبنان

تقول الدكتورة مجد إبراهيم أبو عيش، ابنة الفنانة الراحلة زينب محمد علي: "كان منزلنا أشبه بغاليري مفتوح من لوحات والدتي، وفكرنا بعد رحيلها (2015) في توثيق هذا الإنتاج الفني الغزيز، وبعد عدة محاولات نجحنا فى الوصول لقطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، وعلى رأسه الدكتور خالد سرور، الذي رحب جداً بالأرشفة الخاصة بالفنانة زينب، خاصة أن فترة الأربعينيات ثرية ثقافياً وفنياً، ولكن غاب كثير منها عن التوثيق، ولا سيما أصوات النساء الفنانات، عكس الفنانين، وبالفعل تلقينا تشجيعاً وحفاوة من القطاع لجمع لوحتها وسيرتها الذاتية لتكون من رائدات الفن التشكيلي المُدرجة أسماؤهن في موسوعة فناني مصر التشكيليين".

" إذا فنى جسمي تذكروا رسمي"، هكذا عبّرت الفنانة التشكيلية زينب محمد علي عن فلسفتها، التي تحققت بعد وفاتها، ومرور قرن على ميلادها

تُضيف الدكتورة مَجد والناقدة الفنية في حديثها لرصيف22 :"كان حافزنا كثلاث بنات للأم الفنانة الحفاظ على هذا التراث الفني وعدم تركه للإهمال وعرضه للجمهور العام، لأن الفن ملك للجميع، والمعرض لا يُوثق لوحات زينب محمد بشكل شخصي بقدر توثيقه لجزء هام من تاريخ مصر الثقافي، والفني، والمعماري والاجتماعي، الذي يظهر في لوحات الأسرة المصرية وأزياء النساء، وغيرها من ملامح حقبتَي الأربعينيات والخمسينيات، وهو ما جعلنا نرفض بيع أي لوحة رغم الطلبات الكثيرة".

بنت من شبرا

ولدت الفنانة زينب محمد علي في حي شبرا بمحافظة القاهرة، لأب من ذوي الأملاك، أدرك بذكاء موهبة ابنته العاشقة منذ طفولتها للرسم والألوان والجمال، فأتمت دراستها الابتدائية بمدرسة "شبرا الابتدائية الأميرية للبنات"، ودراستها الثانوية بمدرسة "النيل الثانوية للبنات" في شبرا، ولنبوغها في الفن حصلت على الجوائز الأولى من وزارة المعارف المصرية، وجائزة "أحمد محمد حسنين باشا" رئيس الديوان الملكي في معرض رسوم التلاميذ أقامه اتحاد أساتذة الرسم لأول مرة في تاريخ مصر بمتحف الشمع في شارع القصر العيني (مقر مجلس الوزراء الحالي) على مدى السنوات الثلاث الأخيرة لها في المرحلة الثانوية (1939- 1940- 1941).

وكانت الرسوم التي استحقت عليها الجوائز هي: ("المولد" بالألوان المائية 1939، "من النيل وللنيل" بألوان الجواش 1940، وهي شعار المدرسة، "الصيف في الريف" بألوان الجواش 1941).

"منظومة كاملة من الأسرة والمعلمين بالمدرسة الثانوية احتضنت موهبتها ودعمتها".

"جدي كان المعلم الأول لوالدتي وكان أحد أسباب نجاحها واستمرارها الفني؛ لم يُقيّد موهبتها يوماً، بل كان مستنيراً منفتحاً، وشجعها على استكمال تعليمها بالمعهد العالي للتربية الفنية للمعلمات بالجيزة علماً أن المجتمع بأكمله آنذاك كان مُقدراً للفن ودراسته. منظومة كاملة من الأسرة والمعلمين بالمدرسة الثانوية احتضنت موهبتها ودعمتها. الديوان الملكي ورئيسه "حسنين باشا" استقبلا الفتاة الصغيرة، وطلبا اقتناء لوحتها "من النيل وللنيل"، وهذه كلها مؤشرات إيجابية لمناخ دعمها فنياً".

"لوحة مصر كانت مشروع التخرج لوالدتي من المعهد عام 1946، وهي من أهم لوحاتها من حيث التكوين والأسلوب الفني، استطاعت التعبير عن المجتمع المصري فى هذه اللوحة، مصر القوية بتنوعها من فلاحين، وعمال، وحرفيين وبدو، وطرز معمارية إسلامية وفرعونية مختلفة، ونهرها الواسع الذي يحتضن الجميع، لم تترك شيئاً من تراب هذا البلد إلا ظهر على اللوحة"، تقول الدكتورة مَجد أبو عيش.

“لم تترك شيئاً إلا ووضعته في لوحتها“... مصر ولبنان في لوحات زينب محمد علي

لبنان وتوثيق نكبة 48

تخرجت زينب محمد علي في المعهد العالي للتربية الفنية، ثم انتدبتها وزارة المعارف المصرية لتدريس الرسم والأشغال الفنية بكلية المقاصد الإسلامية للبنات في بيروت، عاصمة لبنان، من عام 1946 إلى عام 1985، تقول الدكتورة مَجد: "يقف جدي مرة ثانية داعماً لابنته الآنسة لتُسافر بمفردها لتبدأ مشوارها العملي، ولتقطع طريقاً طويلاً عبر السكك الحديدية من القاهرة إلى الاسماعيلية ثم رفح وحيفا وصولاً إلى بيروت، حقاً كان مُدهشاً أن يحدث ذلك في منتصف الأربعينيات، أن يكون هناك دعم لحرية عمل المرأة وسفرها بمفردها".

وتحكي عن دور والدتها التعليمي والفني في بيروت، قائلة: "كان لها الأثر الكبير في تغيير أسلوب الرسم هناك، فبعد أن كان التدريس يعتمد على النقل والتقليد من (المجلات، أو الرسم على السبورة، أو التكبير من البطاقات المصورة)، فقد جاهدت في تغيير أسلوب النقل إلى أسلوب الابتكار والإبداع والتعبير الحر حتى تساعد في تنمية مواهب التلميذات، وقدراتهن الفنية على الخلق والابتكار".

لعبت الفنانة زينب محمد علي دوراً يضاهي مهام وزارات الثقافة الآن في الدول المختلفة، وإذا كانت أم كلثوم سيدة القرن العشرين في الغناء، فأهمية هذا المعرض الاستعادي العثور على سيدات أخريات في مجالات فنية مختلفة كن سيدات للقرن العشرين، مثل زينب محمد علي، التي كانت أول من عمل على توطيد العلاقات الثقافية والفنية بين مصر ولبنان بإقامة المعارض المتبادلة لرسوم التلميذات، ونقل الخبرات وتبادلها بين الجميع، مما كان له الأثر الواضح في رفع مستوى الطالبات.

"فترة الأربعينيات في مصر ولبنان ثرية ثقافياً وفنياً، ولكن غاب كثير منها عن توثيق أصوات النساء الفنانات، عكس الفنانين الذكور"

لم تهتم الفنانة زينب بإقامة معرض فردي طوال حياتها بقدر اهتمامها بإقامة المعرض الأول بمجهودها، تضيف مجد: "أمي كانت مُفعمة بالحيوية والنشاط وحب العمل وإدراك أهمية دور الفن كقوة ناعمة لمصر، ونجحت هذه المعارض المتبادلة في تحقيق الهدف المرجو منها في تبادل الخبرات بين الطلاب المصريين واللبنانيين، كما كان للجوائز المتبادلة للطلاب المتميزين في القطرين الأثر الكبير في رفع المستوى الفني والتعرف على البيئتين اللبنانية والمصرية من خلال الرسوم التعبيرية الصادقة للتلاميذ".

“لم تترك شيئاً إلا ووضعته في لوحتها“... مصر ولبنان في لوحات زينب محمد علي

عاصرت زينب محمد علي حدثاً هاماً أثناء إقامتها في بيروت وهو نكبة 1948، وعبرت عنه في لوحاتها، "لاجئة فلسطينية في المستشفى في بيروت" (1948)، و"مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بيروت" 1950،

بعد انتهاء فترة انتداب الفنانة زينب بكلية المقاصد عام 1954، عادت إلى مصر لتشغل وظيفة مدرسة تربية فنية بمعهد المعلمات الخاص بالإسكندرية من عام 1954 إلى عام 1957، ثم انتقلت إلى أسيوط لتكون مع زوجها إبراهيم أبوعيش رئيس قسم الطبيعة بكلية المعلمين هناك. وعملت مفتشة للمدارس الإعدادية والثانوية والمُعلمات بمنطقتي أسيوط وسوهاج من عام 1960 إلى عام 1968، وتبلورت خلال هذه الفترة فكرة زينب محمد علي حول دور الفن وخدمة المجتمع .

تقول منال أبو عيش ابنة الفنانة الراحلة: "قامت والدتي بأسلوب متجدد ومبتكر بتخطيط وتنفيذ  "مشروع التذكارات الشعبية السياحية" بمدارس البنات، وخارجها مع السيدات الحرفيات عن طريق النشاط النسائي بالاتحاد القومي ثم بالاتحاد الاشتراكي، وبالتعاون مع مقررة النشاط النسائي السيدة عزيزة الشعراني زوجة الدكتور سليمان حُزين رئيس جامعة أسيوط آنذاك".

تُكمل أبو عيش: "كانت أول خطوة من خطوات "مشروع التذكارات السياحية" هي طباعة البطاقات التذكارية المُعبرة عن البيئة من رسم الطالبات للمرة الأولى، وطُبعت بعض البطاقات عام 1960، وتبادلها الجميع وساعدت على نشر الوعي الفني وتذوق رسوم التلاميذ واحترامها وتقديرها".

الفن وتمكين المعيلات

"والدتي نفذت مشروعات صغيرة من أجل تمكين المرأة في زمن لم تكن الشعارات النسوية رائجة فيه كما هي الآن، لإيمانها بدعم السيدات الحرفيات من أجل إحياء الصناعات اليدوية القديمة الموروثة في أسيوط، مثل: التلي، الخرز، الأويه، اللبد، العاج، النسيج، السجاد، وتم تنفيذها بأساليب فنية لتكون صالحة كتذكارات سياحية شعبية، وذلك بأجور محترمة ساعدت على رفع المستوى الاقتصادي لهؤلاء السيدات الحرفيات".

وتنهي مجد حديثها، مبرزة دور والدتها زينب في استغلال الفن لتمكين النساء المعيلات مادياً في جنوب الصعيد، قائلة: "كان لزينب دور في توظيف الفن ليكون نواة لمشروع الأسر المنتجة، الذي اقتنع به المسؤولون بوزارة الشؤون الاجتماعية، وأخذ في التطبيق والاتساع كما هو الآن حتى وصل إلى هيئة معرض "ديارنا" الشهير".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image