يتفاجأ الزائر لمعرض الفنّانة (ريما حداد) المقام في غاليري (392 رميل 393) في بيروت، بتداخل أكثر من نوعٍ من أنواع الفنون: فنحن أمام لوحات وأيضاً بوسترات لأفلام سينمائية تركت أثراً في تاريخ السينما. تقول الفنّانة ريما حداد عن معرضها: "إنه الفنّ الذي يوجّه تحيّة إلى الفنّ، اللوحة الراغبة بتقدير الفن السينمائي، والحماسة حين ترتبط بالشغف".
بهذه الكلمات تقدّم الفنانة معرضها المؤلّف من عشرة لوحات زيتية (Acrylique sur toile)، رسمت فيها بوسترات أفلام أُعجبت بها حدّ الشغف، وبقيت في ذاكرتها من تاريخ السينما، فقرّرت أن توجّه تحية لهذه الأفلام وللفنّ السينمائي عموماً، من خلال تحقيق معرض تشكيلي عنها موظفةً تقنياتها في الرسم وفي تحليل الأفلام على السواء لتحقيقه.
لا تقدّم اللوحة الواحدة بوستراً لفيلم واحد، وإنما كل لوحة مخصّصة لمجموعة من الأفلام، لكن ما الذي يجمع الأفلام المرسومة في لوحة واحدة؟ لقد تنبّهت حداد المتابعة الشغوفة للسينما بأن الأفلام التي ترغب برسمها والتطرّق إليها، تتوزّع على مجموعة من الموضوعات، فجعلت هذه الموضوعات الجامعة، أو المفاهيم التأويليّة للأفلام، عنواناً للوحتها، وضمّت فيها الأفلام التي تتناول موضوعات متقاربة.
عشر أفلام
تجمع الرسامة عشر أفلام تتعلّق بموضوعة المرأة وأطلقت على اللوحة عنوان (حول المرأة). منها التي تروي السيرة الذاتيّة لامرأة، كما هو الحال مع فيلم (الحياة في الوردي، 2007 للمخرج أوليفر داهان)، والذي يروي سيرة حياة المغنية الفرنسيّة (إديث بياف) المنتقلة من حياة الفقر إلى حياة النجوميّة والإبداع، مظهراً عبر مسيرة حياتها، الصعوبات التي تواجه المرأة في العالم والوسط الفني. ومنها بوسترات أفلام أخرى عن المرأة، لا تروي هذه المرة سِيَراً ذاتيّة، وإنما هي شخصيات متخيلة ابتكرها مبدعوها بحكايات رمزيّة تتناول ما هو أبعد من التاريخ الذاتي، مثل فيلم المخرج الإسباني بيدور ألمودوفار بعنوان (امرأة على حافة الإنهيار، 1988)، الذي يروي قصة امرأة تبحث عن خصوصيتها، محاولة تحقيق الصورة التي تريدها عن نفسها، ورائعة إنغمار بيرغمان (بيرسونا،1966) عن العلاقة بين ممثلة وممرضة يتداخل فيها الواقع بالمُتخيّل الداخلي، ويتداخل فيها الجنون بالعقلانيّة والغيرة بالإستقلاليّة. كذلك نجد في اللوحة رسماً لبوستر فيلم (تريستانا، 1970) للمخرج الإسباني لويس بونويل، ويصادفنا أيضاً الفيلم اللبناني ( لما حكيت مريم، 2001) للمخرج أسد فولادكار، المستمدّ من قصّة حقيقيّة لثنائي يعيش علاقة مثاليّة لكنه يعاني من أزمة عدم الإنجاب في مجتمع ضاغط بعاداته وتقاليده الاجتماعيّة.الطفولة على الشاش
لوحة أخرى تخصّصها الرسامة لمجموعة بوسترات الأفلام المتعلّقة بالطفولة بعنوان (الطفولة على الشاشة)، تجمع بين أفلام أطفال مثل سلسلة (هاري بوتر) التي أرادت كاتبتها كما صرّحت بأن تشجّع الأطفال على تجاوز حدود قدراتهم، وأفلام تحريك مثل فيلم (بيرسوبوليس، مرجان ستارابي) الذي يروي سيرة طفلة تعايش مرحلة الثورة في بلدها إيران، ونوع ثالث من الأفلام صُنعت للبالغين لكنها عالجت موضوعة الطفولة مثل فيلم (أطفال الجنة، مجيد مجيدي)، أو عالجت موضوعة العائلة (سيدة الشمس الصغيرة، جوناثان جايتان وفاليري فاييس)، أو أفلام كان أبطالها من الأطفال مثل فيلم شارلي شابلن الشهير (الفتى)، وفيلم المخرج الإيطالي جوسيبي تورناتوري بعنوان (سينما باراديسو) الذي يروي حكاية فتى تعلّق بالسينما وارتبط مع مشغّل بكرات الأفلام في سينما قريته بعلاقة صداقة. على سطح اللوحة تتداخل أحياناً الرسومات المأخوذة من بوسترات الأفلام دون أي حدود فاصلة بين بوستر وآخر، في لوحات أخرى تكون هناك حدود وكتل لونية واضحة تفصل بينها، وهناك أسلوب ثالث يتجلّى بطمس قماش اللوحة بلون واحد يشكل فاصلاً بصرياً لعين المتلقي بين البوستر والآخر، وعلى مستوى الإيحاء البصري الذي تحاول الرسامة أن تنقله إلى المشاهد، فإنها تتبع تشكيلاً موحّداً يُظهر البوسترات وكأنها ممزّقة، تمّ انتزاعها من الحائط مكان تعليقها، فترسم حداد بعناية التشقّقات التي تتداخل وتفصل البوسترات عن بعضها، تكرّر مثلثات من كتل لونيّة صاعدة وهابطة مثل تلك التي نلمحها في سقوف المغارات، مما يوحي بأن بوستراً انتزع ليكون هناك آخر تحته، فتشكّل البوسترات الممزّقة كامل اللوحة التي تقدّم للمتلقّي.تقول الفنّانة ريما حداد عن معرضها: "إنه الفنّ الذي يوجّه تحيّة إلى الفنّ، اللوحة الراغبة بتقدير الفن السينمائي، والحماسة حين ترتبط بالشغف".
عند الكتابة عن معرض الفنانة ريما حداد الحالي، يحار المرء، هل يكتب عن التشكيل وتقنيات الفنّ التشكيلي عند الفنانة، أم يكتب عن موضوعات الأفلام التي اختارت أن تقدّمها، أو يتحدّث عن تصميم بوسترات الأفلام التي اختارتها، مما يجعل الكتابة عنه مادّة ممتعة تجمع بين الفنون الثلاثة، السينما، البوستر، واللوحة.
ألوان الشرق
تحت عنوان (ألوان الشرق) تضمّ الفنانة حداد مجموعة من بوسترات الأفلام التي صُنعت في الشرق، أو تجري أحداثها في بلدان شرقيّة، أو تتناول الثقافة الشرقيّة في فكرتها. يطالعنا فيلم (السلاحف يمكن أن تطير) الذي يرصد الثقافة الكرديّة، بكاميرا شاعريّة تبرز جماليات المناطق الكرديّة يقف خلفها المخرج بهمان غوباني، كذلك التعلّق بالجغرافية والطبيعة في أفغانستان كانت واحدة من العوامل التي دفعت المخرج صديق برمك لتحقيق فيلمه (أسامة)، أيضاً فيلم (اليوم السادس، ليوسف شاهين) الذي يشبه رحلة في حوض النيل حيث تجري أغلب أحداث الفيلم على سطح باخرة تعبر نهر النيل، تشكّل طبيعته خلفية لكامل مشاهد وأحداث الفيلم، وفيلم ( طعم الكرز ) للمخرج عباس كيروستامي الذي يركّز في كاميرته ولقطاته على الطبيعة الجغرافيّة وجماليات المساحة في مناطق من إيران. من أفلام (ألوان الشرق) أيضاً، فيلم (وجدة) من كتابة وإخراج هيفاء منصور، ظهر في العام 2012 كأوّل فيلم روائي طويل يتمّ تصويره بالكامل في السعوديّة، وهو يتناول موضوعة المرأة في السعوديّة، أرادت المخرجة من خلاله أن تشرّع وتشجّع على سينما خاصّة برواية قصص النساء. مع فيلم (بابا عزيز، ناصر الخمير) ننتقل إلى الصحراء التونسيّة، وفيلم (علي زاوا، لنبيل علوش) ينقلنا إلى الطفولة في الضواحي المهمّشة لمدينة كازبلانكا في المغرب. يحضر الشرق في فيلم يعودنا بنا إلى التاريخ، مثل فيلم (الرسالة، للمخرج مصطفى العقاد) الذي يصوّر بدايات ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة، كما يحضر الشرق المعاصر في فيلم (الجنة الآن، هاني أبو أسعد) الذي يروي التفاصيل الداخليّة بين التردّد والفشل لحياة شابين فلسطينيين ينخرطان في التحضير لعمليّة انتحاريّة في تل أبيب. للأفلام اللبنانية تخصّص الفنانة حداد واحدة من لوحات المعرض، تتجاور بوسترات أفلام مثل ( أشباح بيروت، زياد الدويري)، (بيروت اللقاء، برهان علوية )، ( 12 لبناني غاضب، زينة دكاش)، والأجدد بينها ( كفرناحوم، نادين لبكي). عند الكتابة عن معرض الفنانة ريما حداد الحالي، يحار المرء، هل يكتب عن التشكيل وتقنيات الفنّ التشكيلي عند الفنانة، أم يكتب عن موضوعات الأفلام التي اختارت أن تقدّمها، أو يتحدّث عن تصميم بوسترات الأفلام التي اختارتها، مما يجعل الكتابة عنه مادّة ممتعة تجمع بين الفنون الثلاثة، السينما، البوستر، واللوحة.لوحات السينما الذهنية - النفسية
في لوحة (طريق الوهم)، ترسم الفنانة مجموعة بوسترات لأفلام تتميّز بعوالمها النفسيّة والذهنيّة، وبالتأويلات الخاصّة بحكاياتها المرتبطة بعلم النفس أو العوالم الباطنيّة في التكوين الإنساني، مثل فيلم (طيران فوق عش الوقواق، ميلوش فورمان)، المخرج المتميّز الذي غادرنا مؤخراً، والذي أراد لتحفته السينمائيّة أن تعالج موضوعة العقل والجنون في مصحّة نفسيّة. كذلك يطالعنا فيلم (جمال أميركي، سام مندز) عن عوالم ذاتيّة متداخلة بين عائلة ومجموعة من الشخصيات تمثّل نموذجاً للطبقة الوسطى الأمريكيّة، والآمال التي يكوّنها الأفراد عن حياتهم، بينما المآزق الوجوديّة التي يعيشونها تصنع نوعاً من المصير الخارج عن إرادتهم وتحكمهم. أما فيلم (طفل روزماري، رومان بولنسكي)، فتؤكّد الرسامة على وجوب حضوره في لوحتها كونه من أبرز الأعمال السينمائيّة في السبعينيات التي عنيت بتجسيد العوالم الداخليّة لامرأة في ظلّ الرعب الذي يرافق حياتها من المحيط. ومن بين باقة الأفلام الوجوديّة هذه فيلم المخرج فيليب كوفمان عن رواية الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا بعنوان (خفّة الكائن التي لا تحتمل) والتي تعالج أيضاً مصائر شخصيات عايشت التغيّرات السياسيّة في أوربا الشرقيّة، رواية أراد منها الكاتب أن يعالج مصير الإنسان الذي يراه يذهب أكثر فأكثر باتجاه الخفّة أو التلاشي. فيلمان أيضاً يجب الحديث عنهما عند الحديث عن خيارات الفنانة حداد في أفلام العالم النفسي والوجودي، هما فيلم (شجرة الحياة، لتيرينس مالك) مونولوج شعري – فكري – بصري طويل عن معنى الحياة وطبيعة الوجود من حولنا وكيف نستقبله عبر الأفكار والحواس، وفيلم آخر هو (الختم السابع) أحد أبرز إبداعات السينمائي السويدي أنغريد برغمان، حكاية فانتازيّة بعوالم غامضة، تروي عن حضور الموت المجسّد، حسب الحكاية الرمزيّة، يلعب الموت لعبة شطرنج مع الفارس، والتي على أثرها سيتحدّد مصيره، يصوّر برغمان في الفيلم الأساليب الإنسانيّة في التعامل مع حضور الموت.بوسترات الأفلام الموسيقيّة
تخصّص الفنانة أيضاً لوحة للأفلام الموسيقيّة مثل: (لالا لاند، دانيل شازيل)، (قصة الحي الغربي، جيروم روبنز وريتشارد ويز)، و(غناء تحت المطر، ستانلي دونن وشيلي كيللي). عن الأسلوب الفني للرسامة حداد، فإن لوحاتها تقارب فن الـ Pop Art، وهي حركة فنيّة برزت في منتصف الخمسينيات في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، على أيدي فنانين مثل آندي وارهول، روي ليشتينشتاين، وكيث هارينغ. هذه الحركة أدخلت إلى اللوحة عناصر بصريّة من الثقافة الشعبيّة أو الرائجة، أشهر تجاربها لوحات الرسام آندي وارهول عن معلبات غذائيّة وإعلانات تجاريّة، وعن صور نجوم ومشاهير السينما والفنّ مثل مارلين مونرو وألفيس بريسلي. اختارت الفنانة العمل على موضوعة من الثقافة الشعبيّة الرائجة كالبوستر السينمائي، فهو كالسينما نوع من التعبير عن الثقافة الشعبيّة. أما على المستوى التشكيلي فهي تلتزم أيضاً بأسلوب الـ Pop Art، من حيث التعامل مع مساحة سطح اللوحة، وضعية التكوين داخل اللوحة، الكثافة اللونيّة وحضور الألوان القويّة، وأخيراً التمثيل الواقعي للأشكال داخل اللوحة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...