شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
زيارة الموتى في مصر... من عادة فرعونية إلى ضرورة في الحياة اليومية

زيارة الموتى في مصر... من عادة فرعونية إلى ضرورة في الحياة اليومية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 19 يوليو 201910:04 ص

الموت، ما هو؟ ولماذا دائمًا ما يكون جزءاً من حيّز وجودنا وتفكيرنا؟ وكيف يأتي ويذهب دون رادع؟ ويفعل ما يحلو له بنا. أمره يقتحمني كلما أراد، لا يصادفني، بل يتعمد التلاعب بي كيفما شاء خاصة حين أطلب الضحك -الكافر بالغلابة- ولا أجده، والذي لا أعرف لماذا أفتعله؟ أو اصطنعه لنفسي؟ وهو سهل مطاوع للآخرين كقطط المقاهي التي أجلس فيها كلّما هدّني التعبُ والهمّ.

لم أفهم يومًا ولازلت أسأل السماء كلّما نظرت وقلّبت وجهي: لماذا هو؟ ولماذا كلّ هذا؟ ولمَ هذا الصمت المطبق؟

في أحد المشاهد الختامية لفيلم The Mule 2018 للمخرج والممثل الأمريكي Clint Eastwood قال إيرل (شخصية البطل) لأسرته بعد انتهاء محاكمته: "هي مسألة وقت وحسب، كان بإمكاني شراء أيّ شيء، لكنني لم أتمكن من شراء الوقت".

وجدتُ أيضًا السيدات يقمن بتوزيع "قرص الرحمة" على أرواح الراحلين، وهو كعك في شكل قرص دائري كقرص الشمس المرتبط بالعقيدة المصرية القديمة. وسُجّلت نقوش على مقبرة الملك رمسيس الثالث بمدينة هابو، توضيحًا لهذه العادات التي لازالت مستمرّة حتى اليوم

ورغم أن فعل الوقت، فعلُ مساعدة باهت، إلا أنه أب متخفّ، غير عابئ بما يدور حول من أعطاه كينونة ومفتاحًا لإنهاء جميع الوظائف البيولوجية التي يقوم بها الكائن الحي منذ كان بعد الانفجار العظيم.

الأسباب التي تجلبه -أي الموت- كثرٌ، ولكن ما لا يصادف أن يحدث إلا قليلًا هو أن يمنحَ الموتُ الحياةَ، لذا وجبت الزيارة.

في قرية "قلمشاة"، إحدى القرى التابعة لمدينة ومركز إطسا، والتي معناها في الخطّ القبطي القديم البلدة الصغيرة الجميلة، إحدى المراكز الستة التابعة لمحافظة الفيوم، إحدى أقدم مدن العالم الحاضر، والتي تبعد عن العاصمة (القاهرة) مسافة تقدر بـ120كم، ويعمل معظم سكّانها بالزراعة والثروة الحيوانية التي تعدّ من ضمن الأنشطة الاقتصادية الهامة بها.


وبجبل النقلون الواقع في إطسا، والذي يمكن الوصول إليه عن طريق قرية العزب، تقع المقابر التي يحتضنها، وعلى مقربة منه بمسافة ليست بالقليلة، كان دير رئيس الملائكة جبرئيل، والذي يعرف أيضًا باسم "دير أبي خشبة"، ويعود تاريخه إلى القرن الثالث الميلادي، ويبعد مسافة 16 كم عن جنوب شرق مدينة الفيوم. وقد تمّ الكشف من قريب عن المغارات التي كان يلجأ إليها المسيحييون الأوائل في هذه المنطقة هربًا من الاضطهاد الرومانيّ لمعتنقي الدّين المسيحيّ.

وقد رصدتُ أثناء زيارتي طقوسًا عديدة تمارسها أُسَر الموتى عند قبور وأضرحة ذويهم، فما بين الدعاء بالعطاء والرحمة وتوزيع ومشاركة نبات الريحان ذو الرائحة الطيبة النفّاذة، وجدتُ عادةَ غرس سعف النخيل أمام قبر المفقود/المفقودة، وريّها بالماء بحجّة لطيفة ساقتها لي إحدى السيدات المسنّات بأن قالت: "إنها تشفع بدعائها للميت ما دامت خضراء".

ولم يكن سعف النخيل وحيدًا في مكانه، فقد شاركه الطقسُ نبات الصبّار وبعض الورود ومقرئي القرآن بالأجرة، أو كما يطلقون عليها "الوهبة"، وهي مبلغ من المال يخرج على روح المتوفى للقارئ الموجود الذي يرتّل بعض آيات الذكر الحكيم الطالب للمغفرة والجنة.

ولعل فعل التصدّق الممارس في هذا المكان يرجع بحاله إلى الاعتقاد في مكافأة ماعت، إلهة الحقّ والعدل، لمن يساعد الفقراء. فأصبح من شأن أيّ مبلغ يعطيه المرء مهما كان بسيطًا أن ينقذ حياة ذويه في العالم الآخر. واستمرّ ذلك ولازال، مثلما استمرّت الزيارة التي أحاول جاهدًا أن أواكب معها هذا التسارع القاتم لوتر الحياة والموت.


وجدتُ أيضًا السيدات يقمن بتوزيع "قرص الرحمة" على أرواح الراحلين، وهو كعك مخبوز بالدقيق والسّمن والسكّر، في شكل قرص دائري كقرص الشمس المرتبط بالعقيدة المصرية القديمة، والذي يرجع بعادته إلى أن النساء كانت تعدُّه للتوزيع على روح المتوفى، شفاعة له. وسُجّلت نقوش على مقبرة الملك رمسيس الثالث بمدينة هابو، توضيحًا لهذه العادات التي لازالت مستمرّة حتى اليوم.

وللأطفال حضور ملفت ونصيب كبير من هذه الطقوس الفلكلورية العظيمة، فمنهم من يأتي مع أهله مغروسًا في روحه تلك العادة الموروثة، ومنهم من تدفعه الحاجة والفقر ليحضر، فربّما يحوز شيء ممّا يخرج "رحمة ونور" على روح المتوفى.

كانت الأُسر في الحضارة المصرية القديمة تعُدّ الطعام لتقديمه لذويهم من الموتى، للتخفيف عليهم في العالم السفليّ المحروس بأنفاس الإله أوزير

في الريف، والصعيد، والصحراء، تختلط الفرحةُ بالشجون والتراحم على الموتى، والألوان الزاهية تمتزج باللون الأسود الكئيب؛ يختلط الأطفال بالكبار، سعفُ النخيل بالصبّار وشوكه، وأصوات قارئي القرآن بالنحيب والبكاء. ورغم ما يخرج علينا كلّ عام من فتاوى وتحريم من مدّعي العلم بالدين وغيرهم من معتلي المنابر إلا أن دونها -أي الزيارة- لا أشعر بالحياة وتصرفاتها معي، فبينما يتوجّه البعض في الأعياد إلى المدن الساحلية والشواطئ ومراكز الترفيه يحرص البعض -وأنا منهم- على التوجه إلى المقابر لزيارة موتاهم ومعايدتهم.

حالة متناقضة، وعرف سائد، توارثه الأبناء من الآباء والأجداد؛ تقليد له من الزمن ما له، يرجعه البعض إلى فترة الحضارة المصرية القديمة، ولأن الأعياد فيها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالزراعة كالبذر والحصاد وبداية الفيضان، فإن منها أيضًا ما ارتبط بالحياة الجنائزية، وعليه كانت الأُسر تعُدّ الطعام لتقديمه لذويهم من الموتى، للتخفيف عليهم في العالم السفلي المحروس بأنفاس الإله أوزير.

وربما من هنا كان كعكُ الرحمة المخبوز في شكل قرص دائري كقرص الشمس المرتبط بالعقيدة المصرية القديمة، حيث كانت النساء تعدُّه للتوزيع على روح المتوفى، شفاعة له. وسُجّلت نقوش على مقبرة الملك رمسيس الثالث بمدينة هابو، توضيحًا لهذه العادات التي لازالت مستمرّة حتى اليوم.

حتى فعل التصدّق يرجع بحاله إلى الاعتقاد في مكافأة ماعت، إلهة الحقّ والعدل، لمن يساعد الفقراء. فكان من شأن أيّ مبلغ يعطيه المرء مهما كان بسيطًا أن ينقذ حياة ذويه في العالم الآخر. واستمرّ ذلك ولازال، مثلما استمرت الزيارة التي أحاول جاهدًا أن أواكب معها هذا التسارع القاتم لوتر الحياة والموت.

تذكرني الأشياء هنا بما آل إليه حالي وذلك الخوف المستوطن من الموت للحيِّ المنسي، لكنني شبعتُ مما أنا فيه؛ فلا شيء فيّ يعجبني ولا شيء يدوم. ألتمس الونس كلّما سنحت الفرصة بالزيارة لذلك الجبل الذي يحتضن قبور الأحبة.

فمن خلال البحث عرفت أن هذه الزيارات واجبةن بل ولازمة، خصوصاً مع حضور المناسبات الموسمية العديدة مثل أيام الجمعة بعد طقس الصلاة الجامع فيها، ووقفة عرفات والأعياد في الدين الإسلامي، وكذلك الأمر مع شقيقه المسيحي؛ فحين توفي أبي مارستُها مع الدعاء والعطاء والرحمة، ومع رحيل أخي الصغير انفطر قلبي، وبكيت بكاءً لم أبكِه من قبل.

ذهبت إليهما كثيرًا، في أيام الجُمع. حدّثتُهما، وأنتظرتهما أمام ضريحيْهما، في وقفة عرفات علّهما يرجعا. طلبتُهما بعد كلِّ صلاةٍ لكلِّ عيد، فلم يجبا. أمّي تعدّد عليهم وتنوح كما الحمام كلّما اصطحبتني مع سعف النخيل الأخضر ووعاء "قرص الرحمة" التي توزّعها على روحهما، وأرواح كلّ أحبابنا الراحلين، مثلما تفعل النساء الأخريات من أجل ساكني قلوبهن المفقودين.

هذه الصور محاولة توثيقٍ صغيرة لمشاهدَ عشتُها وصورٍ أُخذَت من الجبل الحاضن لمقابر الموتى بمنطقة إطسا الواقعة في محافظة الفيوم أثناء زيارة المصريين لذويهم وأحبابهم المفقودين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard