"عندما لا تحظى بالاهتمام الكامل من شخص بعينه، ينتهي بك الأمر متسولاً من الجميع"، هذه الجملة الحقيقية والحزينة في الوقت نفسه من كتابة لانج لييف، ترجمتها ضي رحمي. عندما اصطدمت بقراءتها على فيسبوك لأول مرة طرقت جميع الأبواب المغلقة بداخلي عن معنى "الاحتياج" وعن تداعياته، ومن قبلها كل التساؤلات الخاصة به.
أبسط معاني الاحتياج
طالما حلمتُ بشخصٍ بعينه أجد معه كل شيء دون أن يُعطيني أي شيء، فهو مجرد احتياج صارم لوجوده حقاً، قد يتلخص هذا الوجود في كلمة منه مطمئنة، وسماع الكلمة نفسها من غيره لن يُجدي شيئاً، احتياج للاختباء بين ذراعيه، لاحتضانه، بعدها يُصبح كل شيء على ما يرام... وما يُحجم من حدة الاحتياج أمران، أولاً أن نكون على معرفة حقيقية بالشيء الذي نحتاج إليه، ثانياً إن كنت تحتاج لهذا الشيء من إنسان بعينه فليكن هذا الإنسان إلى جانبك ولديه القدرة على توفير احتياجك، فهما شرطان أساسيان لتلبية الاحتياج، لأنه إن لم يتم بهذين الشرطين عامة، والشرط الثاني خاصةً، سيؤول بنا الأمر إلى تسول هذا الاحتياج من الجميع كما قالت لانج لييف، فاحتياج الاهتمام هنا من أحدهم لن يقدر أي شخص آخر على تلبيته، وستظل الخانة فارغة حتى يملأها الشخص المراد.
كثيراً ما يجهل الإنسان ما يحتاج إليه، فيشعر طوال الوقت أنه يبحث عن شيء، وبحاجة إليه، لكن هذا الشيء بالنسبة إليه أمر مجهول، فهو لا يعرف عن أي شيء يبحث لكنه شعور بأن هناك ما ينقصه، فيظل يبحث ويبحث عن شيء مبهم
الرغبة في إنسان بعينه
في فيلم preparations to be Together for an Unknown Period of time، وهو فيلم مجري، شاهدته أثناء عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثانية والأربعين، أي الماضية، كانت بطلة الفيلم تحب شخصٍ ما يُنكر من الأساس معرفته المسبقة بها، وخلال الفيلم والأحداث يُظهر أحد الأشخاص اهتمامه وإعجابه بها، وفي أحد المشاهد يُحاول التقرب منها وتقبيلها، فتستجيب في البداية ثم تتراجع عن الاستمرار، وتطلب منه ألا يتصل بها مرة أخرى، فرغم حاجتها كأنثى لهذا ولإنسان يتقرب منها ويهتم بها، ورغم ضعفها في إحدى اللحظات، تعرف جيداً أنها لا تحتاج للحب والاهتمام إلا من شخص بعينه، فهي تعرف ماذا تريد ومن مَن، كانت تُفضل أن يُشخصها طبيبها النفسي أن لديها اضطراباً نفسياً يجعل كل ما تشعر به وتتذكره مجرد خيالات على أن تصدق أن حبيبها بالفعل يتنكر لها لأن في هذا الحالة سيصبح إحساسها بالحب والاحتياج إليه ضعفاً بات يؤرقها، وستظل حبيسته إن لم تطور الأمور لصالحها.
وبخصوص الجزء الثاني من الشرط الثاني "كون الشريك قادراً على تلبية احتياج شريكه أم لا" كانت لدي صديقة تُعاني دائماً في علاقتها مع حبيبها من أن كلاً منهما يحتاج إلى شيء مختلف تماماً عن الآخر، وأن كلاً منهما ليس لديه القدرة على تلبية احتياج الآخر لأنهما في البداية كانا يجهلان أساساً ما يحتاجه كل منهما، وأدركا هذا بعد أن كان الأوان قد فات فانتهى كل شيء، فمعرفة كل من الشريكين بما يحتاج إليه شريكه، وما يحتاجه هو نفسه يقصر المسافات بينهما كثيراً.
معرفة احتياجك يقصر المسافات
من هنا نعود إلى الشرط الأول، الذي ربما يواجه الكثيرون مشكلة عدم توافره، فكثيراً ما يجهل الإنسان ما يحتاج إليه، فيشعر طوال الوقت أنه يبحث عن شيء، وبحاجة إليه، لكن هذا الشيء بالنسبة إليه أمر مجهول، فهو لا يعرف عن أي شيء يبحث لكنه شعور بأن هناك ما ينقصه، فيظل يبحث ويبحث عن شيء مبهم، ونصف المشكلة حلها في أن تعرف الشيء الذي تحتاج إليه، لأنك قد تمر على ما تحتاج إليه أثناء رحلة بحثك، ولا تتوقف عنده، وبالتالي لن تصل إلى مرحلة الإشباع منه، لأنك ببساطة لم تكن تدري أن هذا الشيء هو الذي كنت تبحث عنه منذ البداية.
عبرت الكاتبة إريكا يونغ في الجزء الأول من سيرتها الروائية "الخوف من الطيران" عن هذا المعنى في سياق آخر، فقالت "إعطاء اسم للشيء، جعله أقل إثارة للخوف" فكلما فهمت معنى إحساسك، أعطاك ذلك إحساساً بالارتياح، فيقل الضباب، وتتضح أمامك صورة ولو لم تكن مُكتملة.
كما يتجلى هذا المضمون كله خلال صفحات هذا الجزء من السيرة الروائية الممتلئة بالأحاسيس والمشاعر المتضاربة التي تنتج جميعها من فقد المعرفة الحقيقية بما تحتاج إليه إريكا، فلمَ تعددت علاقاتها؟ لمَ كانت تشعر بالنقصان؟ فعمَّ كانت تبحث؟ عن رجل؟ حب؟ جنس؟ أمان؟ كانت بحاجة إلى شيء لا تعرفه لتشعر بالاكتمال، وفي كل مرة كانت تظن أنها وصلت إلى ما تريد لا يمُر وقت ليس بطويل حتى تشعر أن ما بين يديها ما هو سوى سراب وليس الحقيقة التي تبحث عنها.
كانت كلمات إريكا يونغ جميعها تحمل إحساسها بالاحتياج دون ذكرها بشكل صريح، وبالطبع لم تذكر احتياجها لا لشعورها بالخجل من ذكره، فأريكا من أكثر الكاتبات التي عبرت عن نفسها بصدق دون الشعور بالخزي والخجل لكن السبب كما ذكرنا أنها لا تعرف حقاً ما تحتاج إليه، على أثر هذا قالت في أحد فصول كتابها: "أحياناً يستحق الزواج تحمل سيئاته كلها فقط من أجل هذا: صديق واحد في عالم لا مبالٍ" وكأن الجملة كان أصلها "... فقط من أجل هذا: الاحتياج لصديق واحد في عالم لا مبالٍ" وإنما حذفت كلمة "الاحتياج" لأنها لا تثق تمام الثقة أن هذا كل ما تحتاج إليه.
وتابعت هذا الحديث في فصلٍ آخر نتيجة هذا التخبط بفقرة من التساؤلات: "لماذا ينبغي أن يكون الزواج السيىء أفضل كثيراً من عدم الزواج؟ لماذا أتشبث ببؤسي بقوة؟ لماذا اعتقد أنه كل ما أملك؟" ولو أني سأجيبها عن هذه التساؤلات، فستكون إجابة واحدة لثلاثة أسئلة، وهي لأنكِ لا تعلمين ماذا تحتاجين.
في فيلم "هيستيريا" بطولة أحمد زكى وعبلة كامل، وإخراج عادل أديب، كانت هناك علاقة تربط بين فوزية (نهى العمروسي) وزين (أحمد زكي)، لا أستطيع أن أصنف العلاقة بينهما علاقة عاطفية أو جنسية أو حتى صداقة حميمية، لأنهما هما نفساهما لم يفهما طبيعة العلاقة بينهما.
الاعتراف بالاحتياج لشيءٍ أو شخصٍ ما ليس عيباً أو ضعفاً إنما العيب والفظيع هو التظاهر بأننا لسنا بحاجة إلى ما نحتاجه إليه، وربما بل الأكيد أن يضيع ما نحتاج إليه في ظل وجود حب مزيف، حب إنسان أو شيء لا يعطينا كما يأخذ منا
في أحد المشاهد، عندما سألها زين عن طبيعة العلاقة بينهما، قالت: "مفيش راجل ملى عيني قدك، معرفش ليه مليش نفس لأي راجل تاني غيرك"، ورغم إجابتها هذه التي تحمل في طياتها شهوتها المشتعلة تجاهه لكنها حتى آخر الفيلم لم تستطع تأطير احتياجها له داخل سياق معين، في حين أن وداد (عبلة كامل) التي أحبت زين منذ النظرة الأولى كانت تعرف جيداً لما اختارت زين تحديداً، فهو يشبهها في لحظات الجنون، ومُقدر لنظرتها الجنونية للحياة ولطبيعتها وتلقائيتها، يشبهها في لحظات الحب، إنسان لديه حنان هائل يظهر في عينيه قبل كلماته، وربما هذا كان كل ما تحتاج إليه وداد كما قالت في أحد المشاهد "أنا ممكن لا أكل ولا أشرب ولا أنام لكن الراجل اللى أحبه يطبطب عليا ويقولي سلامة رجلك من الوقفة يا وداد"، وهذا بالضبط ما كانت تجده مع زين.
فناء الاحتياج وسط ما يسمى "بالحب"
"يبدو لي الأمر كما يلي: إنه شيء فظيع- أعني قد يكون فظيعاً، لكنه ليس مدمراً، لن يقتلنا أن نستغني عن شيء واحد نحتاج إليه حاجة ماسة... الفظيع هو أن نتظاهر بأن الرديء جيد؛ بأننا لا نحتاج إلى الحب ونحن نحتاج إليه؛ أو بأننا نحب عملنا ونحن نعلم علم اليقين أن باستطاعتنا أن نقوم بعمل أفضل منه." جزء من كتاب "المفكرة السوداء" لدوريس ليسينغ، ترجمة أسامة منزلجي.
الاعتراف بالاحتياج لشيءٍ أو شخصٍ ما ليس عيباً أو ضعفاً إنما العيب والفظيع كما قالت دوريس هو التظاهر بأننا لسنا بحاجة إلى ما نحتاجه إليه، وربما بل الأكيد أن يضيع ما نحتاج إليه في ظل وجود حب مزيف، حب إنسان أو شيء لا يعطينا كما يأخذ منا، وبالاسم نحب، ونحن في الحقيقة لا نعرف أن تلبية الاحتياج هو جوهر أي حب، فإذا أحببت عملك فستعطيه أقصى ما عندك وستنتظر المقابل، كذلك إذا أحببت إنساناً فستعطيه كل ما تستطيع، وستنتظر وجوده فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون