نقرأ في رواية "أحب ديك" لـكريس كروس، ما يشبه اليوميات أو المراسلات، وتُستخدم بكثرة صيغة المضارعة لوصف الشخصيات والعلاقات بينها والأحداث التي تقع في تلك الفترة، وخصوصاً تلك التي تتعلق بـ "ديك" الذي لا نعرف كنيته، وكأنه "صورة". فـ"ديك" هذا أسر كريس وأذاب عقلها، لكن ما يلفت الانتباه في الكتاب أن هناك مقاطع مكتوبة بالزمن الماضي، ونقرأ فيها، على لسان كريس، وصف ديك وسحره وفتنته، تلك المقاطع تصف فيها كريس كيف وقعت في حب "ديك" وكأنها "تتذكر" في كل مرة تفكر به في غيابه.
التنويعات بين اليوميات والمذكرات والرسائل التي تفترض تقاطع الزمنين "الماضي والحاضر" لحظة الكتابة تُكسب الرواية حيويّة محببة، لكن الحب في الزمن الماضي هو ما يثير الانتباه. السبب، وكما في كل حكايات الحب، هناك لحظات أو صورة من الماضي تشكّل الفانتازم المؤسّس للحب، تلك الحكاية الذاتية التي ننسجها حين نقع بحب أحدهم (أو كراهيته)، وعلى أساسها تتحرّك مشاعرنا، وهنا يكتسب الزمن الماضي قيمة أخرى، هو علامة على التخييل، على تدخل الأنا الخاصة في وصف هذا الآخر موضوع الرغبة، بل نقرأها بوقاحة وبذاءة ووضوح حين نقرأ رسائل جيمس جويس إلى نورا، إذ يقول: "أتذكر الآن تلك الليلة حين نكتك لوقت طويل من الخلف. كانت أقذر مرة نكتك فيها... شعرت حينها بمؤخرتك تحت بطني ورأيت وجهك المتورد وعينيك الغاضبتين...".
هذا الفانتازم يحدد إدراك المُحب للآخر الذي يحبه، ويؤثر أيضاً على إدراك المُحب للواقع. وأساس هذا المتخيل هو "الجهل"، أي عدم إدراكنا الكلي لهذا الآخر، وكلما اكتشفنا شيئاً جديداً عن هذا الأخير، إما دُعمت الصورة أو تلاشت. فهذا الجهل يمنع اختبار الواقع من الحصول، وهنا نفهم أن الحب أعمى، بصورة أدق، الحب "أجهل"، إذ نختار عدم المعرفة للحفاظ على الصورة، كحالة زوج آنا كارنينا الذي تجاهل كل ما تفعله آنا وحبيبها وكل ما يخبره به الناس، فقط لأنه يحبّها!
هذا الجهل والحدّ من تدفّق المعلومات، يظهر بوضوح حين نقرأ نسوياً الأدب: الرجال يفضلون موضوعات حبهم أن تكون صامتة، لا تتحدث، لا يريدون أن يعرفوا عنها وإلا فقدوا عقولهم، فالجهل يدلل صورة الحبيب المتخيّلة، ويمنع المحبوبة من قول ما يدور في عقلها، لأن أحياناً معلومة واحدة قد تهدد هذا الحب وتنفي كل الصورة المتخيلة لدى الذكور. يشير سلافوي جيجك إلى هذه المعلومة في فيلمه "دليل منحرف إلى السينما"، فحين يناقش فيلم "eyes wide shut"، يخبرنا أن أليس هارفورد (نيكول كيدمان) لم تفعل شيئاً سوى أنها همست لمن تحب، زوجها، د. وليام هارفورد، بفانتازم جنسيّ راودها حين رأت ضابطاً في الحفلة التي كانوا فيها. كلمات فقط، نسيتها هي نفسها، دفعت زوجها في حمى الغيرة، وبسبب تلاشي "الجهل"، إلى الانضمام إلى حفلة أورجي غريبة الأطوار، انتقاماً من هذه الكلمات.
هي قالت له فقط ما تفكر به، لم تتصرّف أو تنفّذ ما راودها من شهوات، لكن صمتها كان أفضل من وجهة نظره، لأنه يحافظ على فقاعة الجهل والصورة المؤسّسة للحب التي يمتلكها عنها: الزوجة المطيعة، التي يتفاخر بها أمام الناس، ولا تمانع غزله مع أخريات في الحفل، لكنها في السرير ملكه وحده، جسداً ومخيّلةً.
تلك الأمثلة السابقة عن الصورة والفانتازم ترتبط بما يسميّه جاك لاكان "الشغف بالجهل" ذا الدور الهام في التحليل النفسي، وعلى أساسه نكتشف أن غياب المعرفة يغذّي الصورة المتخيلة عن الحبيب، ذاك الفانتازم الذي يملؤه الفرد بما يرغب، لا الآخر موضوع الرغبة.
الجهل هنا أسلوب للإنكار والنجاة والحفاظ على العلاقة، وفي الكثير من الأحيان أساس العلاقات بين الأحباء. الكثيرون يتفقون على الصمت المتبادل فيما يخص مغامراتهم الجنسية السابقة، في اختيار واع للجهل من أجل الحفاظ على علاقاتهم، سواء كان يتعلق بالتفاصيل اليومية المقيتة أو الصورة الكلية عن الشخص.
يبدو الأمر مثيراً للشفقة، لكن الجهل في العلاقات وكما في الفيلم السابق، هو تدفق عاطفيّ، لا يحكمه العقل ولا يمكن السيطرة عليه ولا على نتائجه. نشاهد صورته الأسوأ والعقلانية في مسلسل "YOU" الذي بثّ على نيتفليكس. فيه نشاهد أسلوب صناعة الكذبة، وكيف يلعب صاحب المكتبة البريء على الجهل لنصب فخه، ويلعب دور الرجل اللطيف والحنون الذي ما إن تكتشف ضحيته أنه مترصد منحرف حتى يختلف كل شيء، ويتحول إلى عدو، في حين كان هو موضوع الرغبة.
الوعد الفارغ بالحبّ
يثير جاك لاكان الغيظ حين نقرأ عن مفهومه للحب، فهو يراه "وعداً نقدمه للآخرين بأننا سنعطيهم ما لا نمتلكه، بانتظار أن يقدموا لنا ما لا يمتلكونه أيضاً"، هذا الوهم المتبادل بين الاثنين يحرّكه فانتازم الحب، الذي يشوش ويغطي هذا النقص التراجيدي. هو جهل طوعي أو خيار بالجهل، أساسه، ربما، إدراكنا العميق بالعجز الذي نستبدله بـ"اتفاق" على هذه الصورة المتخيّلة، وهذا ما نراه في مواقع المواعدة المختلفة: نحن حرفياً نختار صوراً مفلترة ومنسّقة، تقدم وعداً بالجمال، "الكوول" أو الجاذبية الجنسيّة.
يثير جاك لاكان الغيظ حين نقرأ عن مفهومه للحب، فهو يراه "وعداً نقدمه للآخرين بأننا سنعطيهم ما لا نمتلكه، بانتظار أن يقدموا لنا ما لا يمتلكونه أيضاً"
المضحك في هذه المواقع والتطبيقات أن علينا أن نكتب مواصفاتنا وما نحب وما نكره، لكن حقيقة، ولو اخترنا شخصاً يحب ذات الأفلام، هل حقيقة نشاهدها بنفس الطريقة؟ الأهم، أننا إذ نختار، أو "سحبنا لليمين"، الصورة التي نراها متخيلة، والتي يقدمها الفرد ذاته عن ذاته، بالتالي نحن نراهن على الجهل ذاته، وقدرته على "تحوير" الواقع، مسلمين بأن ما يقوله الشخص عن ذاته قابل للتفاوت، يستحيل أن يتطابق مع ما نريده.
بما أننا صور وكلمات على هذه التطبيقات، الجهل يتعمق بسبب هذه الخوارزميات التي توظف رد الفعل الآني الذي نقوم به: "نعم أو لا"، والذي يمكّننا أن نتجاهل من "لا يعجبنا"، أو أن نصرّ على من "نعجب به". لا نفكر لأكثر من ثوان بمن نتوقع أن نتطابق معه قبل اختياره. هناك زمن تم اختزاله، لكن في ذات الوقت يحذف منه الشخص كلياً، وتبقى الصورة التي لا يمكن العودة إليها، أي بعكس العلاقات الواقعيّة: يمكن لمن شربنا معه كأساً أن نتواصل معه بعد عام، وربما "نجح الأمر" بعدها، لكن في حالة "تيندر"، ولو تذكرنا صورة شخص بعد ساعة، لا يمكن لنا العودة إليها إن لم يحصل "Match".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...