كانت جدتي مولعةً بشجرة الكينا التي نمت قرب بيتها. في الليالي الصيفية تراقبها عدة ساعات، وفي الليالي الشتوية تحلم بها، وتحكي لي: اليوم زار شجرتنا خمسون عصفوراً، وسقطت عن هذا الغصن ثلاث ورقات، ودبّ على جذعها خمس قوافل من النمل... من الصعب علينا نحن البشر أن نفهم الألم الذي يلازم الأشجار ويصير جزءاً من حياتها الطبيعية. ألمٌ تحدثه قوافل النمل ذات الأرجل الرقيقة الدقيقة، فللأشياء الصغيرة قدرة هائلة على افتعال ألم حقيقي، الأشياء التي نظنّ أن لا أثر لها، أشياء تجرحنا من الداخل دون أن نستطيع تحديدها.
كنت أستمع إلى حديثها الشغوف وأنا أحس بجذور شجرة الكينا تضرب عميقاً في قلبي. كبرت وأنا أؤمن أنَّ أقرب الأشياء للكمال هي الأشياء التي نهتم بها ونتحدث عنها بقلب كامل، وروحٍ كاملة أيضاً، هي الأشياءُ التي ندخلها وننفجرُ دونَ أن نهتمَّ كيف كان شكل حياتنا قبلها، أو كيف سيكون بعدها .
يقولون إنّ الحبّ وحده قادر على إحداث ذلك الأثر فينا، الحبّ الذي لا يمسنا بل يخترقنا، الذي يزيح القلب ناحية اليمين قليلاً ليتمدد كما يشاء. يتفننون بوصف الحب وطقوسه، لكنهم ينسون أنّه للنساء الوحيدات اللواتي لديهن طقوس خاصة أيضاً، طقوس شديدة السرية، إذ يتفننّ في تغذية أنوثتهن، إذ تطعم المرأة جسدها من شغفها كما تطعم العصافير صغارها من الفم إلى الفم.
النساء الوحيدات في الليالي الصيفية يكنّ جاهزات للحب، متهيئات له، بشرة رقيقة ناعمة، مدهونة بزيت اللافندر، عينان أكّولتان متّقدتان، جسد متوهج، يدان توّاقتان للعناق، وأصابع شقيّة
النساء الوحيدات في الليالي الصيفية يكنّ جاهزات للحب، متهيئات له، بشرة رقيقة ناعمة، مدهونة بزيت اللافندر، عينان أكّولتان متّقدتان، جسد متوهج، يدان توّاقتان للعناق، وأصابع شقيّة.
فساتينهن شديدة الشفافية، مزيج من الحرير والدانتيل والشيفون المثير، أقمشة شديدة التواطؤ مع الجسد الأنثوي، تظهر القليل وتدع العين توّاقة إلى الأقل الذي تخفيه. والصيف في أحياء مدننا الشرقية تميزه رائحة لاذعة، تجد شبابيك مطابخها مضاءةً. فالمطابخ بروائحها وألوانها، بملحها وسكرها، وبهاراتها، هي المكان الذي يلوذ به أغلب السكان هرباً من حرائقهم الداخلية، وغالباً ما تنبعث من شبابيك النساء الوحيدات رائحة مميزة، رائحة قلب يشوى على نار هادئة مع الكثير من البهارات والتوابل، وجسد يأكله الصدأ وفساتين ذابلة، ومع ذلك تنعم المدينة بليال هادئة وكأنها فقدت أي حس بالرجولة.
محال بيع البهارات والأعشاب في اللاذقية من أكثر المحال اكتظاظاً بالزبائن، فأهل هذه المدينة ينسجون حكايات الحبّ مطعّمةً بالبهارات، منكّهةً بروائح الأعشاب. فالنساء يعشقن اللافندر رغم ارتفاع سعره لأنه يزيد أنوثتهن بعطره اللطيف. الذين تعرضوا لخيانة يدمنون الفلفل الأسود والزنجبيل والكركم لإعادة الإثارة إلى العلاقات الباردة. الكمون للحكايات الهادئة اللطيفة، القرفة لأول نظرة، الزعفران للذين يعانون مرارة الرفض، الكينا لآلام القلوب المكوية بنار الحب، الكاري لليالي الحب المحمومة، ولأن قصص الحب في هذه البلاد لا تخلو من المغامرة اختُرعت خلطة السبعة بهارات.
كذلك لا يخلو مطبخ من مطابخ الأمهات الحنونات من علب البهارات على أنواعها، فهنّ لا يتقيدن بوصفات الطبخ الجاهزة التي تحدد بدقة نوع البهارات اللازم لكل طبخة، بل يضفن البهارات حسب حالاتهن المزاجية، فتصير الطبخة حكاية. ليست البهارات وحدها هي التي تعطيها النكهة، بل الضحكات والدموع والقلق والعيون الحالمة بأحلام مؤجلة. الحب عندنا مرتبط بالبهارات منذ القدم، ففي نشيد الأنشاد يقارن الحبيب محبوبته بمجموعة من البهارات، يقول:
"أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة، فاغية وناردين"
"ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان، مر وعود مع كل أنفس الأطياب"
بينما تستنجد الحبيبة بالزبيب والتفاح لإنعاش القلب المريض:
"أسندوني بأقراص الزبيب... أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حبّاً"
الذين تعرضوا لخيانة يدمنون الفلفل الأسود والزنجبيل والكركم لإعادة الإثارة إلى العلاقات الباردة. الكمون للحكايات الهادئة اللطيفة، القرفة لأول نظرة، الزعفران للذين يعانون مرارة الرفض، الكينا لآلام القلوب المكوية بنار الحب
كريستوف كولومبس عندما اكتشف محبوبته أمريكا تحدث عن بهاراتها، يوسف الجميل الذي قطعت النساء أصابعهن من شدة جماله بِيع إلى قافلة محملة بالبهارات، كما جاء في رواية سليمان رشدي "تنهيدة المغربي الأخيرة" خلال حديثه عن الهند: لم نكن شبه قارة كثيراً، بل شبه توابل.
وطالما لم يخلُ هذا الكوكب من البهارات والتوابل، ومن النكهات الحارة واللاذعة والمرة، وطالما تخفي الجبال بين صخورها أعشاباً نادرة، والسهول تنضح بأعشابها الرقيقة، وطالما هنالك قلب بشري ينبض بالحياة لا يمكن أن تموت رغبتنا بالحب، ولو تجاوزت أعمارنا المئة، ولأن الحب معجون بالبهارات تستطيع المرأة أن تشمَّ رائحة امرأة أخرى تحاول الاقتراب من حبيبها كما تشمّ الحيوانات المفترسة رائحة الفريسة، وفي هذا الصدد اختُرِعت عبارة: "أنفي لا يخطئ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...