وسط استغراب أهل القرية الجوادية في ريف الحسكة شمال شرقي سوريا، تقود الشابة العشرينية هدية عساف دراجتها النارية متجهة إلى محلها الذي افتتحته قبل حوالى نصف عام لصيانة الأدوات الكهربائية.
خلال فترة قصيرة استطاعت هدية كسب ثقة زبائن كثر في قريتها والقرى المجاورة، وبذلك كانت أول فتاة تعمل في هذه المهنة "الذكورية" ضمن منطقتها. تقول لرصيف22: "لم يحالفني الحظ بنيل الشهادة الثانوية، وبحثت عن مهنة أحبها وأستطيع الاستفادة منها بعيداً عن المهن النمطية لنساء القرية كالخياطة والزراعة والتعليم، وهي مهن لا تستهويني، فاتجهت لتعلم إصلاح الأدوات الكهربائية في مركز مهني بمدينة جل آغا المجاورة".
مع انخفاض عدد الذكور في سوريا، دخلت النساء مجالات عمل جديدة غير مألوفة، ونجحن بها.
في المركز شجع المدرب هدية على قرارها، وداومت سبعة أشهر كانت كافية لإتقان تصليح مختلف الأدوات من الغسالات والبرادات وغيرها.
وتتحدث عن تجربتها الأولى بسعادة كبيرة: "كانت تجربة إصلاح براد لأحد الجيران، وكان متعة الإنجاز الأول لا توصف عندما ذهبت في اليوم التالي للاطمئنان عن نتيجة عملي، خاصة أنه عندما رآني فتاة شكك في قدرتي على إصلاح البراد. بعد فترة أصبح الناس يعرفونني بصورة أكبر وتضاعف عدد الزبائن وبات لدي محل خاص".
هدية عساف أثناء عملها في تصليح الأدوات الكهربائية
ومع كون ممارسة هذه المهنة من قبل النساء في سوريا أمراً غير مألوف، وقد يفرض على الفتاة وصمة اجتماعية، لم تسلم هدية من الانتقادات السلبية التي لم تؤثر في عزيمتها. تقول: "المحيط الاجتماعي في القرية غير ملائم لتقبل التغيير. الجميع وجهوا لي الانتقادات، خاصة أنني أذهب للمنازل لإصلاح الأدوات الكهربائية عند الحاجة. كثيراً ما أسمع السيدات في القرية يقلن إن هذه المهنة تحتاج لرجال، وأن أحداً لن يتقدم لخطبة فتاة تمارسها".
وكانت والدة هدية قد عارضت الفكرة بداية خوفاً من كلام الناس في مجتمع مغلق وصغير كالذي تعيش فيه العائلة، بينما دعمها والدها ورأى أنها مهنة تحقق الاستقلالية. "ساعدني تشجيع عائلتي، وبكل الأحوال لا أصغي لكلام الناس ولا حتى أكلف نفسي همّ التفكير بذلك، لأن مجرد الإصغاء للتعليقات السلبية سيدمر ما بنيته أو حلمت به. أحب مهنتي ولديّ طموح سأحققه من خلالها"، تضيف الفتاة.
أعمل بكرامة ولا أحتاج أحداً
بينما تتجه غزالة مع ساعات الصباح الأولى من منطقة دف الصخر بريف دمشق الشرقي إلى عملها، تحجب كامل وجهها خوفاً من أن يعرفها أحد وهي تقوم بأعمال التنظيف في أحد الشوارع الفرعية بمدينة جرمانا بريف دمشق.
لم ترفض السيدة الخمسينية الحديث، على العكس كانت لديها الرغبة في أن تروي قصتها، فهي "متعلمة" كما تصف نفسها وحاصلة على الشهادة الثانوية وشهادة معهد السكرتاريا، وتتقن بعض مهارات العمل على الحاسب، لكن ظروف الحرب والأحوال الاقتصادية كانت أقوى، لتنقلها من مكان لآخر حتى استقر بها الحال في هذه المهنة التي لا تمارسها النساء عادة في سوريا.
وشرحت السيدة حالها لرصيف22: "في بداية الحرب فُقد زوجي وانقطعت جميع أخباره، وترك لي طفلاً لا يتجاوز عمره سبع سنوات، كنت حينها أعطي دروساً خصوصية لطلاب المرحلة الإعدادية، إضافة للعمل في أحد أسواق الملابس المستعملة، إلى أن أصبحت بحاجة لإجراء عملية في عيني، وهذا ما منعني عن التدريس. في تلك الفترة، أي قبل حوالى عام ونصف، سمعت أن هناك نساء يشاركن الرجال في تنظيف الشوارع، وتقدمت للعمل وحصلت عليه".
ساعدني تشجيع عائلتي، وبكل الأحوال لا أصغي لكلام الناس ولا حتى أكلف نفسي همّ التفكير بذلك، لأن مجرد الإصغاء للتعليقات السلبية سيدمر ما بنيته أو حلمت به. أحب مهنتي ولديّ طموح سأحققه من خلالها
وحسب ما أشار رئيس بلدية جرمانا عمر سعد لرصيف22، فإن بعض مناطق دمشق وريفها شهدت خلال العامين الماضيين دخول نساء لمجال العمل في شركات النظافة الخاصة التي توقع عقوداً مع البلديات وتؤمن عمالاً وعاملات للقيام بالكنس وجمع وترحيل القمامة.
"قبل عامين من الآن لم يكن مألوفاً توظيف سيدات لأداء هذه الأعمال، لكن مع تناقص أعداد الشباب ونقص الكوادر البشرية، أصبح الأمر شائعاً، ودخلت الكثير من السيدات هذا المجال، ومعظمهن نازحات من مدن أخرى، واليوم نجدهن في مختلف المناطق يحملن المعدات ويكنسن الطرق، ونسبتهن 20 بالمئة، ففي مدينة جرمانا لدينة مئة عامل نظافة، من بينهم عشرون عاملة"، يضيف سعد.
عشرون بالمئة من عمال النظافة في بعض مناطق دمشق وريفها هم من النساء - تصوير حسانة سقباني
تداوم غزالة في عملها من الثامنة صباحاً للثانية ظهراً براتب شهري يبلغ خمسين ألف ليرة سورية (حوالى عشرين دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، وهو لا يكفي لتغطية مصاريف عائلتها، فهي تدفع منه بدل إيجار المنزل 20 ألف ليرة، ما يعني اضطرارها للبحث عن مهام إضافية مثل تنظيف أدراج الأبنية، "لكن المهم أني لا أحتاج أحداً" وفق تعبيرها.
وتصف غزالة الظروف التي تعمل ضمنها بأنها "قاسية"، فالشركة لا تهتم بتأمين المعدات وكثيراً ما يضطر العمال لجمع القمامة بأيديهم، ولا تهتم أيضاً بتأمين لباس موحد ليعرف السكان بأنهم عاملو نظافة وليسوا متسولين يبحثون في القمامة كما يظن البعض. كذلك لا يتناسب الراتب مع الجهد المبذول، لكنها ترى في نهاية المطاف أن هذا العمل، رغم أنه يعتبر من وجهة نظر المجتمع ذكورياً، لا ينتقص من قيمتها، بل على العكس يؤمن لها ولطفلها العيش بكرامة.
اختراق نسائي لمهن صعبة
تعمل ميرنا الغالب (31 عاماً) في ورشة لصياغة الذهب داخل قبو بريف دمشق، حيث تقضي تسع ساعات يومياً.
تقول لرصيف22: "نحن في بلد مليء بالصعوبات الاقتصادية، ويجب أن نتأقلم مع الظروف المتغيرة باستمرار. كنت أعمل بمجال التجميل، ومع إغلاق المركز بسبب انخفاض الإقبال، جربت العمل في صياغة الذهب وهو يحتاج جهداً كبيراً، لكن العمل الصعب يستهويني". وفي سوريا، يحتكر الذكور مجال صناعة الذهب بشكل عام، لكن ميرنا لا تعتقد بأن هناك مهناً للرجال وأخرى للنساء في وقتنا هذا، إذ تعمل المرأة أكثر من الرجل، وفق رأيها.
تكمل: "عندما يسألني البعض عن عملي وأجيب "صائغة"، تبدو علامات الاستغراب واضحة على وجوههم وتتولد لديهم أسئلة كثيرة، كما يظنون أني أعمل فقط ضمن المهام البسيطة، لكن أنا أنجز جميع المراحل التي تتطلبها المهنة ومنها اللحام والجلي".
كثير من الأشخاص ينظرون للمرأة التي تعمل بهذه المهنة والمهن المشابهة على أنها "مسترجلة". أستسخف الفكرة كثيراً، فلا يوجد ما يمنع عمل المرأة في مختلف المجالات، والعناية بالذات ليس لها علاقة بنوع المهنة
إبراهيم رزوق هو صاحب ورشة لصياغة الذهب، ترك بابها مفتوحاً لعمل السيدات كما للرجال وفق حديثه لرصيف22: "قديماً لم يكن المجتمع متقبلاً عمل المرأة في ورشة معظم حرفييها من الرجال، وكانت مشاركة النساء نادرة وفي المراحل الأسهل، مثل تطبيق الزرد وهي شريطة ذهبية دائرية تُشد بعضها ببعض لتصبح سلسلة طويلة، وأيضاً تنسيق الموديل وتوزيع الأحجار في مراحلها النهائية".
أما الآن، مع انخفاض عدد الذكور في البلاد، أصبحت المرأة تشارك في جميع المراحل الصعبة لصياغة الذهب من صهر المعادن والبرّادة واللحام والجلي، وهي مراحل كان يقوم بها الرجل لما تنطوي عليه من جهد وخطورة.
فتيات يعملن داخل ورشة صياغة بريف دمشق - تصوير حسانة سقباني
يضيف رزوق شارحاً: "خلال عملية صهر المعادن يسكب الذهب السائل داخل آلة ليتحول لمادة صلبة على شكل شرائط عريضة، وهنا تكون خطورة التعامل مع النار والحرارة العالية، إضافة للحاجة إلى قوة بدنية وقدرة على تحمل الروائح القوية. وفي مرحلة البرادة يُستخدم مبرد حديدي كبير يحتاج جهداً وتركيزاً عالياً، إلى جانب اللحام على آلة مكونة من وقود وهواء ونار، حتى المرحلة النهائية وهي الجلي باستخدام محرك يدور بسرعة فائقة فتسخن القطعة لدرجة عالية، وهنا يحتاج الأمر إلى تحقيق التوازن بين تلميع القطعة وسخونتها".
زينة (34 عاماً) درست في كلية التربية وأيضاً في معهد محاسبة، تعمل في ورشة لصياغة الذهب، تقول لرصيف22 عن نظرة المجتمع السلبية التي تعانيها النساء اللواتي يحاولن دخول مهن غير نمطية: "كثير من الأشخاص ينظرون للمرأة التي تعمل بهذه المهنة والمهن المشابهة على أنها "مسترجلة". أستسخف الفكرة كثيراً، فلا يوجد ما يمنع عمل المرأة في مختلف المجالات، والعناية بالذات ليس لها علاقة بنوع المهنة".
هي مهنة الرجل عندما كان يوجد رجال. نحن بدأنا حين كان هناك انخفاض كبير بعدد الرجال، وهم إما غادروا البلاد أو أُخذوا للخدمة الإلزامية. في الفترة الأولى يكون دخول المرأة أي ميدان جديد مستغرباً ولكن مع الوقت يتم تقبل الأمر
للضرورة أحكام
تعلّمت صفاء عرفات، وهي معلمة في مدرسة الفرح الخاصة بدمشق، قيادة الحافلات مع تسع زميلات لها، نتيجة الحاجة للأمر. تقول لرصيف22: "بدأت الفكرة عندما ازداد طلب الشباب للخدمة الإلزامية، وتحديداً عندما سُحب أحد السائقين للخدمة. مع تكرار الحادثة أصبح لدينا خوف من أن يأتي يوم ونجد أنفسنا من غير سائقين، فقررنا تعلّم قيادة الحافلات".
بدأت المعلمات بالتدريب في إحدى المدارس المخصصة لذلك. كن حينها يتقن قيادة السيارة باحترافية، لكن للحافلة الكبيرة رهبة مختلفة. "هنا الأمر يتعلق بالضرورات، فإذا كنا في موقف يستدعي إيصال الأطفال لبيوتهم، فلن نقف مكتوفي الأيدي لأننا نساء"، تقول صفاء.
وتستذكر المرة الأولى لقيادة الحافلة في شوارع المدينة: "رأينا نظرات الناس المستهجنة لقيادة سيدة حافلة كبيرة كهذه، في حين قام الشبان بالتصفيق والتصفير".
معلمات مدرسة الفرح الخاصة بدمشق أثناء قيادة حافلة الطلاب - تصوير حسانة سقباني
وترى هند جميل، وهي إحدى المعلمات اللواتي تعلمن قيادة الحافلة في المدرسة ذاتها، أن هذه المهنة "هي مهنة الرجل عندما كان يوجد رجال". وتضيف لرصيف22: "نحن بدأنا حين كان هناك انخفاض كبير بعدد الرجال، وهم إما غادروا البلاد أو أُخذوا للخدمة الإلزامية. في الفترة الأولى يكون دخول المرأة أي ميدان جديد مستغرباً ولكن مع الوقت يتم تقبل الأمر. قديماً كانت قيادة النساء للسيارات أمراً غريباً، وكانت بداية خطوة لتقبل المجتمع لمهن جديدة".
وتختم هند: "كنا عشر سيدات وهذا شجعنا أكثر. البعض في المدرسة لم يكن لديهم ثقة بأننا قادرات على ذلك، وكنا نشاهد حالة الترقب لديهم إذا كنا سننجح أم لا، ولكننا استطعنا النجاح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين