قد يبدو غير مألوف في مجتمع محافظ كمجتمع قطاع غزة أن تجد امرأةً تحمل ساطوراً أو تقود شاحنة، أو تبحر في البحر لتصطاد لقمة عيش محفوفة بالمخاطر. فحتى الأمس القريب، كانت هذه المهن حكراً على "الذكور" لكنها لم تعد كذلك، فالنساء أصبحن شريكات الرجال فيها.
الحدادة أم مصطفى
أم مصطفى ابراهيم (35 عاماً) تعمل مع زوجها في ورشة حدادة صغيرة مساحتها لا تتجاوز أربعة أمتار. قالت لرصيف22: "منذ عشرين عاماً، أعمل في هذه المهنة. صباح كل يوم نأتي إلى الورشة وأبدأ بطرق الحديد ويقوم زوجي بتشكيله. وبرغم أن هذه المهنة تحتاج إلى قوة بدنية فقد اضطررت للعمل فيها كي أساعد زوجي في إعالة أولادنا السبعة".
"نظرة المجتمع لا تؤكّلنا ولا تشرّبنا". بهذه الكلمات تجيب عن سؤال عن نظرة الناس لها. فهي، برغم إقرارها بعدم ملائمة مهنة الحدادة للمرأة، مصرة على ممارستها، فالظروف المادية الصعبة أقسى من أن تسمح لأم مصطفى بعيش "حياتها الأنثوية"، كما تقول.
مواضيع أخرى:
سوريون يبحثون عن الأمان في غزة
غزة تتاجر بالطيور أيضاً
أم مصطفى على مشارف وضع طفلها الثامن، وبرغم ذلك لم تترك زوجها في حرفته وحيداً وتتحمل متاعب المهنة الشاقة التي تظهر على ملامحها، في سبيل "لقمة العيش". وأشارت إلى أن "العمل في هذه المهنة أثّر بشكل كبير على صحتي لا سيما على نظري الذي يتراجع شيئاً فشيئاً، وأيضاً على ظهري".
كل يوم جمعة، تذهب أم مصطفى مع زوجها إلى سوق اليرموك الشعبي في غزة لبيع الأواني والمعدات التي صنعاها طوال الأسبوع، وقالت: "أحياناً يهوّن العائد المادي أتعاب العمل. لكن عملي، برغم كل المخاطر الصحية ونظرة المجتمع السلبية تجاهي، لا يأتي على عائلتي بعائد مجدٍ. ومع ذلك لن أتخلى عن مهنتي لغياب البديل".
سميرة صيام سائقة الشاحنات
اقتحام النساء ميدان العمل في "مهن الرجال" قد لا يكون بدافع الظروف المادية الصعبة. فهناك نساء لديهن هوايات تقودهنّ إلى تحدي تقاليد المجتمع المنغلقة بهدف صقل هواياتهن. سميرة صيام ( 55 عاماً) هي إحدى هؤلاء النساء. نشأت في بيت مع أب وأخ يعملان في قيادة الشاحنات، وكانت تتابعهما وتساعدهما في الفحوص اليومية للتأكد من سلامة الشاحنات، وهذا ما نمّى لديها فضولاً لاقتحام هذا المجال، ثم امتلكت رخصة لقيادة الحافلات وأصبحت أول مدربة على قيادة الشاحنات في قطاع غزة. تفاخر صيام بحصولها على "رخصة رقم 7 تجاري"، ووفق قولها لرصيف22، "هي الرخصة الوحيدة التي تملكها امرأة في الأراضي الفلسطينية".
تعيش صيام مع زوجها وأبنائها الثلاثة في مخيم جباليا للاجئين. أكّدت أن عائلتها شجعتها على تحقيق أمنيتها هذه، فزوجها يعمل أيضاً مدرباً على قيادة السيارات. وأضافت: "لا أجد حرجاً في تعليم الرجال قيادة الشاحنات ودفعهم إلى كسر حاجز الخوف من قيادة المركبات الثقيلة".
وهي تستعد لتدريب شاب على قيادة إحدى الشاحنات، قالت: "خطوت خطواتي الأولى في قيادة الشاحنات من دون الاكتراث لنظرة المجتمع الرافضة، وكنت أول مَن تمرّدت على العادات والتقاليد لأن ليس لها أساس ديني، فالإسلام يمنحني هذه الحرية ما دمت أتقيد بتعاليمه".
وتابعت: "أرفض التناقض في نظرة مجتمعنا إلى أمور الحياة. فهو يتحفظ على عملي كمدربة شاحنة، في حين يتقبل الأفكار الغربية الهدامة لعقول الشباب والفتيات من لباس خليع وثقافة انفتاح لاأخلاقية. الحري بنا استقبال الأفكار البناءة من الغرب كاحترام عمل المرأة أياً كان بحدود الدين، وليس ما يهدم المجتمعات ويؤخر تقدمها".
صيام التي بدأت مزاولة مهنتها كمدرّبة على قيادة المركبات الثقيلة، منذ العام 1992 لفتت إلى أن تجربة العمل علمتها عدم التراجع إلى الوراء. عادت في ذاكرتها إلى أول مرة قادت فيها شاحنة عام 1987 واستعادت نظرات الناس لها الملأى بالرفض والامتعاض. لكن هذا لم يمعنها من مواصلة الطريق. الآن، بعد 23 عاماً من الخبرة، لا تزال تشعر برغبة في التحدي، وتطمح إلى تأسيس مدرسة لتدريب الفتيات والشباب على قيادة المركبات.
بنت البحر الصيّادة
قد تجتمع الأوضاع المادية الصعبة والهواية ليشكلا دافعاً قوياً للعمل وتحدي الظروف. هذه هي حالة مادلين كلاب (21 عاماً)، بنت البحر التي نشأت في عائلة ربّها يعمل في مهنة الصيد. ونظراً لكونها البنت الكبرى لوالديها، تعلمت منذ نعومة أظافرها الإبحار في مياه البحر ومواجهة مخاطره. قالت لرصيف22: "علّمني والدي الصيد منذ صغري، وتدرجت في مراحله إلى أن صرت قادرة على قيادة المركب والإبحار وحدي، وأصبحت أعرف الأماكن المسموح بها للصيد. أبدأ رحلتي منذ ساعات الصباح الأولى بغزل الشباك للصيد. وبعد أن أتأكد من سلامة المعدات أستعد للإبحار لأصطاد ما قسمه الله لي من رزق".
منذ أن أصاب المرض والدها ومنعه من الإبحار وممارسة مهنته، وجدت الابنة الكبرى نفسها أمام قرار صعب. قالت: "كان يجب أن اتخذ قراراً بأن أكمل عملي في البحر وحدي أو أن أتوقف. فقررت بدعم من عائلتي الاستمرار، برغم شعور والدي بالألم لتحملي العبء كله. لكني أخبره دائماً أنني اعتدت البحر وعشقته حتى أصبح الصيد هواية".
ولفتت إلى أن الصيادين في ميناء غزة يتعاملون معها كإبنة وأخت ويحترمون رغبتها في مزاولة هذه المهنة ويشجعونها على المواصلة.
"شو يعني نظرة مجتمع؟"، تقول وتضيف: "العمل ليس عيباً ولا حراماً، مع أن كل زملائي في المهنة هم من الرجال. ويكفيني فخراً أنني أحمي عائلتي من ذل الفقر وعواقبه".
كلاب التي اعتادت البحر لا تملك أحلاماً وردية ولا طموحاً إلى إكمال دراستها. كل ما تريده هو حماية حقوق الصيادين والسماح لهم بالصيد ضمن المساحة المسموح بها.
في مجتمع تضيق فيه فسحة العيش وتزداد الظروف المادية صعوبةً، لم تقف الغزاويات مكتوفات الأيادي بل فرضن على الواقع ظاهرة جديدة لا تزال في أولها لكنها مرجحة للارتفاع.
نشر الموضوع على الموقع في 05.06.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...