خِصالٌ كثيرة وعلاقةٌ عميقة جمعت بين الإنسان العربي والحمام، ليكون الأخيرُ حاضراً على مدار التاريخ في يوميات العرب وأشعارهم، خاصةً الغزلية منها، رسولُ المحبين وأنيسُهم، أما صوتهُ فتارة مَقامٌ للنشوة والطرب وأحياناً كثيرة للحنين والشجن. نوحُ الحمام ثيمةٌ عبَّر فيها الشعراء العرب عن لهيب الحب ولوعة الفراق، في صورٍ شعريةٍ وشّتِ التراثَ الأدبي ولاتزال تتردَّد على الألسن حتى اليوم.
الحمام.. قوة العواطف والشهوة
"الحمامُ أنشطُ مايكون وأفرح، وأقوى مايكون وأمرح، مع الزهو والشكل واللهو والجذل" عبارةٌ يصفُ فيها الجاحظ الحمامَ في كتابه "الحيوان" مضيفاً أنه "طائرٌ مألوف ومُحبّب، موصوفٌ بالنظافة، حتى إن ذَرْقَه –فضلاته- لا يُعاف ولا نتِن". الجاحظ يُعرّف ماهيةَ الحمام بقوله "الحمام وحشيٌّ، وأهليّ، وبيوتيّ، وطوراني –منسوب لطور سيناء-. وكلُّ طائر يُعرف بالزواج، وبحُسن الصوت، والهديل، والدعاء، والترجيع فهو حمام، وإن خالفَ بعضه بعضاً في بعضِ الصوت واللون، وفي بعض القدّ ولحن الهديل. ومن مناقب الحمام حبُّه للناس، وأُنسُ الناس به، وأنَّك لم ترَ حيواناً قط أعدلَ موضعاً، ولا أقصدَ مرتبةً من الحمام، وأسفلُ الناسِ لا يكون دون أن يتخذها، وأرفعُ الناس لا يكون فوق أن يتخذها. وقد زعمَ أفليمون –فاضل في فنون الطبيعة- أن الحمامَ يُتخَّذُ لضروبٍ: منها مايُتخذُ للأنس والنساء والبيوت، ومنها مايُتَّخذ للزجال والسباق". ضفافٌ كثيرةٌ تجمع بين الحمام والإنسان بحسب "الحيوان"، منها قوة العواطف والشهوة، فيقول "قوةُ الشهوة لدى الحمام يفوق بها جميعَ الحيوان، لأن الإنسان هو أكثرُ الخلق في قوة الشهوة، وفي دوامها في جميع السنن، وأرغبُ الحيوان في التصنع والتغزل والتقبيل.. وليس التقبيل إلا للحمام والإنسان". ربما لذلك كان الحمامُ حاضراً في حياة الإنسان وجزءاً من يومياته وظروفه وأحواله، كأن يكون رسولاً بين المحبين، ففي "طوق الحمامة" يقول ابن حزم الاندلسي "وإني لأعرف من كانت الرسولَ بينهما حمامةٌ مؤدبة، ويُعقَدُ الكتابُ في جناحها، وفي ذلك قال: تخَيّرها نوحٌ فما خاب ظنُّه لديها وجاءت نحوه بالبشائر سأودعُها كتبي إليكِ فها كِها رسائلَ تُهدَى في قوادم طائرِ ولما يكون الحمام ثالث الحبيبين يبقى مابينهما طيَّ السرّ، يؤكد ابن حزم "هذا السر الدقيق يأبى إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماءِ في يَبيس المَدر" معللاً بأن كتمانَ الحب من دلائل الوفاء وكرم الطبع، مشبهاً هذا الحبَّ بصوت الحمام المنثور على الأغصان، يُطرِب السامعَ دون فهمِ سرّه وجوهره: درى الناس أنّي فتىً عاشقٌ كئيبٌ مُعنَّى ولكن بمنْ إذا عايــنــوا حــالتي أيقنوا وإن فتشوا رجعُوا في الظِّنن كــخـطٍّ يُـــرى ظـــاهــراً وإن طلبوا شرحَه لم يبِن كصوتِ حمامٍ على أيكةٍ يرجِّعُ بالصوت في كلّ فن تلذُّ بفحواه أسماعُنا ومعناه مُستجعمٌ لم يَبِنِ شقيق بن سليك الأسدي حريصٌ على كتمان وجده أيضاً إلا أنَّ نوح حمامةٍ كان سبباً في هيجان دموعه فيقول: ولم أبِك حتى هيجتني حمامةٌ بعَبْنِ الحمامِ الورقِ فاستخرجتُ وجدي فقد هيجتْ مني حمامةُ أيكةٍ من الوجدِ شوقاً كنتُ أكتمه جُهدِي بيتا الشاعر الإسلامي تخللا كتابَ "الزهرة" لمحمد بن داوود الظاهري، الخاص بالحب، مظاهره وآثاره وأحكامه، في بابٍ حمل عنوان "نوح الحمام أُنسٌ للمنفرد المُستهام".صوت الحمام.. نشوة الحب ولهيب الفراق
صوت الحمام كان مرآةً لحال المحبين، وصورة عبّر فيها الشعراء عن لواعج قلوبهم، خاصة لوعة الحنين وحرقة الجوى. لكن للحمام نوحاً وهديلاً وتغريد أيضاً كما يذكر الجاحظ في كتابه "الحيوان": "يقال: هدرَ الحمام يهدِر، ويقال في الحمام الوحشي من القُماري والفواخت والدبّاسي وماأشبه ذلك: قد هدلَ يهدل هديلاً .. فإذا طرّب قيل غرّد يغرد تغريداً، والتغريد يكون للحمام والإنسان وأصله من الطير.. في موضع آخر يقول أصحابنا: إن الجمل يهدِر والحمام يهدل".كان الحمامُ حاضراً في حياة الإنسان العربي وجزءاً من يومياته وظروفه وأحواله، كأن يكون رسولاً بين المحبين، ونوح الحمام ثيمةٌ شعرية في التراث الأدبي، عبّر فيها الشعراء عن لهيب الحب ولوعة الفراق.
"من مناقب الحمام حبُّه للناس، وأُنسُ الناس به، وأنَّك لم ترَ حيواناً قط أعدلَ موضعاً، ولا أقصدَ مرتبةً من الحمام، وأسفلُ الناسِ لا يكون دون أن يتخذها، وأرفعُ الناس لا يكون فوق أن يتخذها" من كتاب "الحيوان" للجاحظوعن العلاقة بين نوح الحمام ولهيب الشوق أوردَ الجاحظ أبياتاً لجهم بن خلف تقول: وقد هاج شوقي أن تغنّت حمامةٌ مطوقةٌ ورقاءُ تصدحُ في الفجر تغنت بلحنٍ فاستجابت لصوتها نوائحُ بالأصياف في فَنَنِ السّدرِ إذا فترت كرّت بــلــحنٍ شجٍ لها يُهَيّجُ للصبّ الحزين جوى الصدرِ كذلك صوت الحمام يعود بالشاعر المخضرم حميد بن ثور الهلالي إلى حبه، تغريد الحمام يفجر أشواقه ويسيل دموعه، يسمعه بقلب جريح نتيجة حالة نزاع وترك بينه وبين محبوبته، فنراه يُجري مقارنةً بين وصال الحمام والهجر الذي يعيشه. إذا نادى قرينتـَــــــــــه حمامٌ جرى لصبابتي دمعٌ سَفوحُ يُرَجِّعُ بالدعاء على غصونٍ هَتوفٌ بالضحى غَرِدٌ فصيح هفا لهديله مني – إذا ما تغرّد ساجعاً – قلبٌ قريح فقلتُ حمامةٌ تدعو حماماً وكلُّ الحب نزاعٌ طموح الشاعر الأندلسي ابن زيدون يستحضر ليالي الحب التي تزدادُ نشوةً بشدو الحمام، حين كان الليل يسدل ستاره على لقائه بالحبيب، لقاءٌ من شدة وهجه تنثني له الأغصان سُكراً ويُغنّي له الحمام طرباً ونشوة: كم بات يدري ليلَه الغربيبا لما انثنى في سُكره قضيبا تشدو حمامُ حَلْيه تطريبــا وفي قصيدة أخرى لابن زيدون حملت عنوان "أفدي الحبيب" يفجّرُ نوحُ الحمامة دموعَه ويزيد حزنَه، هي التي كانت تطربه يوماً بتغريدها، لكن الفراق أضناه وعززته الهموم وقد ولى زمن كان فيه حبيبٌ يسلِيه ويعينه على الحياة. وإن أفاض دموعي نوحُ باكيةٍ فكم أراه يُغنيني، فيُشجيني وإن بَعدتُ وأضنتني الهمومُ، لقد عهدتُهُ وهو يُدنيني فيُسليني والـلـه مــافــارقوني باختيارهم وإنما الدهرُ بالمكروه يرميني
الحمام ينوح في التراث الغنائي أيضاً
كثيرون يرددون أبيات المتنبي التي يخاطب فيها محبوبته وقد شاركته الحمامة لوعة الحب، المغني العراقي ناظم الغزالي قدم الأبيات في موال بات من تراث بلاد الرافدين: أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَةٌ: أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟ معاذَ الهوى ما ذُقتِ طارقة النوى وَلا خَطَرَتْ منكِ الهُمومُ ببالِ أتحمــلُ محــزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غُصُنٍ نائي المسافة ِعالِ؟ أيا جارتا، ما أنصفَ الدهرُ بيننا تعالي أُقاسِمْكِ الهُمومَ، تعالي تعالي تـرَي روحــاً لدَيّ ضَعيفة ترَدّدُ في جسمٍ يُعَذّبُ بَالي الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي يسائل الحمام عن سبب نواحه، معللاً بأنه قلّب أوجاعه، كلماتٌ قدمت من صعيد مصر ليشدو بها الفنان محمد منير في صورة متكاملة عن العلاقة بين نوح الحمام والشوق للأحباب: ياحمام بتنوح ليه؟ فكّرت عليا الحبايب يا حمام ضاع منك ايه؟ دوبتني كده فوق ما انا دايب دا العمر و أحلى ما فيه كان حلم و طار من يدي والحلم أنادي عليه لا بيسمع ولا بيهدي هنا لابد من التعريج على موال من الفلكلور السوري، يغنيه الفنان صباح فخري للحبيب الأسمر الذي علمه جفاه نوحَ الحمام، راجياً إياه زيارةً حتى لو خلال المنام، لعلّه يجلو مايعتمل في صدره من لوعةٍ وحرقة: خالي العذار بوجنتيه أسمر ويا ناري عليه ما عدت أنا طيق الجفا يا منيتي داخل عليه علّمتني نـــــــوح الحمام أسقيتني صــــــــافي المُدام زرني ولو كان في المنام يا راية بيضا عليه زرني ويا وجه البشوش واغسل لي صدري من الوشوش اكشف على صدري وشوف مكتوب يا ما شاالله عليه قال مثنى بن زهير –إمامٌ بصري- "لم أرَ شيئاً قطّ في رجل وامرأة إلا وقد رأيتُ مثلَه في الذكر والأنثى من الحمام"، تشابهٌ وتقاطعٌ يتعدى فيه الحمام كونه طائراً أليفاً ليصبح رمزاً يختزل معانٍ شعريةً كثيرة، قد يكون نوح الحمام غيضاً من فيضها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.