يمكن في الفضاء العربيّ أن تصدر كتب أدبيّة تشكّل قطيعة جماليّة مع السّائد، فلا تحظى بحرف أو كلمة أو إشارة أو التفاتة أو عرض أو استضافة، ما عدا في حالات نادرة، بما يشير إلى أنّ هناك إجماعاً على إجهاض الصّوت الجديد والمختلف، مستغلّين حياءَ المبدعين الحقيقيّين وبعدَهم عن كعكة العواصم الكبرى. ذلك أنّ العاصمة في المشرق والمغرب معاً لم ترقَ بعد، بالنّظر إلى بِنية الحكم السّياسيّ القائم على المركزيّة، إلى أن تكون المصباح المشعّ على ما حوله، بل بقيت تلك البحيرة التّي تصبّ فيها جميع الرّوافد، حتّى ساد منطق أنّ لا مجد خارج العاصمة. إنّها حقيقة لم تتغيّر منذ عشرينيات القرن العشرين.
في مقابل حفاوة مغشوشة، بكتب أقلّ ما يُقال عنها إنّها أرقام مكرورة في سلسلة موروثة. أقول هذا، وفي ذهني عشرات التّجارب من كلّ الدول العربيّة، سواءً تلك التّي لعبت دور مركزيات ثقافيّة في العقود السّابقة، ثمّ أصابها التّرهّل لأسباب موضوعيّة كثيرة، فبقيت تقتات على ماضيها، من غير أن تبذل جهداً في تطوير نفسها أو يكون لها استعداد لأن تسمح لغيرها بأن يخلفها في الإشعاع، أو تلك التّي تغذّت على روح الهامش، فطوّرت المواهبُ فيها نفسَها، بما جعلها تشكّل جيوباً إبداعيّة جديدة وثريّة.
وإنّ العزاء في أنّ هؤلاء وأمثالهم، من المواهب المنطلقة من رؤية كونيّة في الكتابة، لا يكتبون للأضواء، بل ليُعطوا للظلّ معنى الشّمس. فهم خرّيجو الهوامش ولها ينتصرون بما منح لهذه الهوامش صوتاً إبداعيّاً راح يواكب تفاقم شعورها بالغبن واستعدادها لممارسة فعل الثّورة بمفاهيمه المختلفة. قلّةً فقط انتبهت إلى رمزيّة اندلاع ثورات الرّبيع العربيّ، بغضّ النّظر عن مآلاتها التّي تُناقش في سياق آخر، من مدن عربيّة هامشيّة، لا من العواصم، مثل سيدي بوزيد في تونس ودرعا في سوريا.
وحده الصّدق مع الكتابة ومع النّفس، ما يفرض على المبدع الحقيقيّ أن يقوم بالواجب تجاه الإبداع والمبدعين، إذ لا يمكن أن يواجهوا بياضَ الورقة، ليكتبوا نصّاً جديداً، وهم قد اقترفوا إقصاء نصٍّ آخر يروه جديراً، أو أشادوا بنصٍّ يؤمن في قرارة نفسه بهزاله، لأيّ سبب من الأسباب الشّخصيّة البعيدة عن الحسابات الإبداعيّة.
ليت البعض من هؤلاء، يكتفي بتجاهل إنجازات غيره، بعدم التّعليق أو التّهنئة، بل إنّه ينبري لتتفيهها وتسفيهها والتّقليل من أهمّيتها. إنّهم "يموتون" في أخذ الكلمة خلال المحافل التّي تحتفي بمبدعين راحلين، لم يقولوا فيهم كلمة خير واحدة أثناء حياتهم
مرّةً، أرسلتْ لي إحداهنّ رابطاً فايسبوكياً، يتضمّن نصّاً جديداً لها، طالبةً منّي التّفاعل معه بالإعجاب والتعليق، فقلت لها إنّني "لا أستطيع فتحه، ولا التّفاعل معه، لأنّني لم أعد قادراً على تصديقك، فقد رأيتك في المنبر الإعلاميّ الذّي تشرفين عليه، تستضيفين أصواتاً هزيلة، لتحاوريها في مواضيع تعلمين أنّها لا تملك الكفاءة المعرفيّة والرّصيد الجماليّ اللّذين يمنحانها الحقّ في أن تكون في ذلك المنبر، خلفاً لأصوات حقيقيّة، أنت تعرفينها جيِّداً، وتملكين أرقامها وإيمايلاتها وحساباتها الفايسبوكيّة. كيف أفهم هذا، ما عدا أنّك تعملين على حماية اسمك بتكريس نخبة مغشوشة؟"
لقد بات فيسبوك مرآةً. وقليلًا من المتابعة، يجعلنا ندرك كيف يتفاعل كثير من نخبتنا الإبداعيّة، انطلاقاً من حسابات غير إبداعيّة، فالسّيّد "خ" مثلاً -وضعت هذا الحرف اعتباطيّاً-، يبدي إعجابه بصورة قطّةٍ ترضع كلبةً، وضعتها فتاة تضع اسماً وصورة مستعارين، أو خاطرة تافهة لها، لكنّه يمرّ مرور اللّئام لا الكرام على نصّ جميل لاسم جميل، يعرفه في الواقع، أو حوار عميق! بل إنّه لا يكلّف نفسه بواجب التّهنئة على منشور يعلن فيه صاحبه المبدع أنّه أصدر كتاباً جديداً، أو افتكّ جائزة وازنة، أو شارك في نشاط حقيقيّ. أمّا إذا حدث أن بات مشرفاً على منبر ما، فإنّه يسهر اللّيالي، ليحصي الأسماء الجيّدة والجادّة التّي ستصبح معنيّة بتهميشه في منبره، وكأنّها ستُمحى من الوجود حين لا يستضيفها. أقصد حين لا يعطيها حقّها في الاستضافة، لأنّ المنبر عموميّ أصلاً، وما هو فيه إلا وسيط.
وليت البعض من هؤلاء، يكتفي بتجاهل إنجازات غيره، بعدم التّعليق أو التّهنئة، بل إنّه ينبري لتتفيهها وتسفيهها والتّقليل من أهمّيتها. ومن غرائب هذا النّوع من المثقّفين، كونُهم سبّاقين إلى الحديث عن النّزاهة وضرورة الدّفاع عن الجودة والجمال! بل إنّهم "يموتون" في أخذ الكلمة خلال المحافل التّي تحتفي بمبدعين راحلين، لم يقولوا فيهم كلمة خير واحدة أثناء حياتهم، هذا إذا لم يكونوا متورّطين في الإساءة إليهم وتعكير صفو أيّامهم وقطع أرزاقهم.
كنتُ في معرض للكتاب، في إحدى الدّول العربيّة، وصادف أن التقيت كاتباً جزائريّاً "كبيرًا" في الرّواق، فاندفعت عفوياً إلى مصافحته، فإذا به يطعنني بهذا السؤال: "بوكبة. ما الذّي أتى بك؟". نظرت إليه نظرة استهزاء وقلت له: "لو كنتَ منسجماً مع نفسك ومع صفة الكاتب التّي تحملها وتصرّ على إلصاقها باسمك، حتّى في حساباتك على مواقع التّواصل الاجتماعيّ التّي لا تنسجم مع الألقاب والفخفخات، لكنتَ أنت سبب وجودي هنا، ووجود نخبة أخرى من الشّباب المبدعين، بالنّظر إلى نفوذك، لا أن تستنكر وجودي في معرض كتاب. هل وجدتني مشاركاً في معرض للخُضر والفواكه حتّى تندهش؟".
أتصوّر أنّ العدوّ الأكبر لهؤلاء ليس الفقر والمرض والحرب والدّيكتاريّة والأمّيّة وما شابهها من قيم يُعاديها المثقّف بالضّرورة، بل هو الفتى مارك مخترع "فيسبوك" الذّي جعل كاتباً شابّاً في قرية نائية يتواصل مباشرةً مع ناشر أو ناقد أو صحفيّ أو مشرف على فعالية أدبيّة، من غير وساطة أو توصية!
لقد تعوّد هذا النّوع من الأسماء الأدبيّة التّي جاءت بسبب الفراغ، على أخذ الشّرعيّة من لعب دور ملئ الفراغ، في مسعى الدّولة الوطنيّة، بعد الاستقلال الوطنيّ، إلى أن يكون لها مشهد ثقافيّ وأدبيّ، فهم يبذلون جهوداً صارخةً لأجل تخييط السّاحة الأدبيّة على هواهم، ويشعرون بالخطر على حظوظهم وحضورهم كلّما أتيح لغيرهم حظّ أو حضور خارج تزكياتهم هم.
أتصوّر أنّ العدوّ الأكبر لهؤلاء ليس الفقر والمرض والحرب والدّيكتاريّة والأمّيّة والتّسلّط وما شابهها من قيم يُعاديها المثقّف بالضّرورة، بل هو الفتى مارك مخترع "فيسبوك" الذّي جعل كاتباً شابّاً في قرية نائية يتواصل مباشرةً مع ناشر أو ناقد أو صحفيّ أو مشرف على فعالية أدبيّة، من غير وساطة أو توصية!
هنا علينا أن نواجه الطّرح القائل إنّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ منحت الحقّ في الكلام للغوغاء والتّافهين، وقد صدر هذا الحكم عن إمبرتو إيكو نفسه، بالقول إنّ الحلّ ليس في حجب هذه المواقع أو مراقبتها، فذلك بات مستحيلاً، بل في العمل على تهيئة المشهد الاجتماعيّ المحلّي لأن يتواصل بمنطق إنسانيّ راقٍ، وهذا واحد من أدوار النّخبة المثقّفة التّي تتبرّم من جرعة الحرّية غير المألوفة التّي منحتها هذه المواقع للنّاس، بما يضعها أمام هذا السّؤال الصّافع: لأيّ هدف كنتم تكتبون وتفكّرون، إن لم يكن من أجل تحرير أصوات البشر؟
وحدث مرّةً، أن كنت في مكتب ناشر عربيّ في بيروت، وإذا به يتلقّى مكالمة من كاتب، يحذّره فيها من أن ينشر رواية كاتب آخر، بحجّة أنّه متابع أمنيّاً بسبب ميولات أيديولوجيّة مرفوضة، وسوف لن يسمحوا له بإدخال روايته إلى السّوق في تلك البلاد، بالتّالي سوف يخسر معه من النّاحية المالية. ولم يكن الهدف من تلك المكالمة سوى استغلال صاحبها لثقة النّاشر فيه لقطع الطّريق على كاتب منافس.
إنّ لهذا الواقع الثّقافيّ العربيّ الإقصائيّ للصّوت الجديد والحديث والحرّ والمتشنّج منه، مسبّبات كثيرة تحتاج إلى دراسة علميّة عميقة، ترصد جملة السّياقات التّي أدّت إليه. فهو ليس ثمرة غريبة عن طبيعة البنية العامّة التّي تُشكّل هوّية المشهد العربيّ العامّ، وطبيعة النّظام السّياسيّ القائم على الاستثمار في صراعات الجهات والوجوه والاتّجاهات، في ظلّ غياب تامّ لمشروع حضاريّ يُلاقي بين الكفاءات لتحقيق الرّهانات القوميّة الكبرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...