أؤمن بحرّية الآخرين في أن يظهروا بالطّريقة والشّكل اللّذين يرتضونهما، في الواقع أو في المواقع. ففيسبوك أو غيره حساب شخصيّ، من حيث المبدأ، شبيه بالبيت الشّخصيّ تماماً. ولا الأذواق والأعراف ولا القوانين تسمح بأن أصادر حقّ أحد في أن يرتّب بيته كيفما شاء.
بالمناسبة، هل هناك فرق بين النّطاق الواقعيّ والنّطاق الافتراضيّ في الفضاء العربيّ؟ فقد باتت العلاقات الإنسانيّة فيه منتعشة في مواقع التّواصل الاجتماعيّ أكثر منها في الواقع، إلى درجة أنّنا نستطيع العثور على شابّ عربيّ يعرف كلّ شيء عن صديقه الافتراضيّ من مدينة/ دولة/ قارّة أخرى أكثر ممّا يعرف عن جاره الذّي يشاركه العمارة ذاتها.
وهناك شريحة مسكوت عنها في واقعنا هي شريحة الشّباب التّي تستيقظ، بعد منتصف اللّيل، فتأكل مباشرةً من ثلّاجة المطبخ، إذ لا تشارك في المائدة العائليّة إلا نادراً، ثمّ تنخرط في الأفق الافتراضيّ مباشرةً. بالموازاة مع غياب يكاد يكون تامّاً للأطراف المعنيّة برصد التّحوّلات في الأفكار والسّلوك والقاموس، ووضع "واقٍ من الصّدمات" لها، حتّى نجنّب مجتمعاتنا الثّمار السّوداء لانفصال شبابها عن راهنها ومستقبلها.
هل انتبهنا إلى مؤشّرات/تجلّيات هذا الانفصال الشّبابيّ عن واقعه؛ معارضة ورفض منه لهذا الواقع الأبويّ المتسلّط والمُصادِر للرّغبات والحرّيات الشّخصيّة ، بدءاً من الأسرة، مروراً بالشّارع، ووصولاً إلى المشهد العامّ؟
من ذلك انتشار مقاطعة الأكلات العائليّة ذات الرّوح الأبويّة، (الكسكسيّ في الجزائر مثلاً)، وتعويضها بما تقدّمه محالّ الأكل السّريع، ومقاطعة وسائل النّقل الجماعيّ، وتعويضها بالدّرّاجات الهوائيّة، والميل إلى الشّواطئ الصّخريّة غير المقصودة عائليّاً، بالمقارنة مع الشّواطئ الرّمليّة التّي تقوم على الرّوح الجماعيّة.
ثمّ هل انتبهنا، خارج المحاكمة الجاهزة، إلى اللّغة التّي باتت مستعملة في منصّات الدّردشة الشّبابيّة؟ حيث الخطّ لاتينيّ والمضمون عربي محكيّ، مع اللّجوء إلى التّرميز في الكلمات والجمل، على الطّريقة التّي يستعملها رجال الأجهزة المخابراتيّة؟
وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات المستجدّة معطى انتشار الاسم المستعار، في الوسط الشّبابيّ العربيّ، مع مراعاة التّفاوت بين المشاهد العربيّة في هذا الباب، سواءً في الواقع أو المواقع، فإنّنا نقف على حقيقة الهوّة التّي باتت تسيّر أجيال الحياة الاجتماعيّة العربيّة، بين شابّ يملك الاستعداد للتخلّي عن اسمه أصلاً، مقابل ممارسة الحياة بحريّة، في مقابل مثقّف كلاسيكيّ متشبّث باسمه ولقبه مضافاً إليهما لقبه الأكاديميّ مثل "الدّكتور" أو الأدبيّ مثل "الشّاعر"، في مواقع هي أصلاً للتّواصل الاجتماعيّ والإنسانيّ.
قناعتي إذاً في التّعاطي الافتراضيّ هي أنّنا أحرار ما لم نضرّ. غير أنّ حرّيتنا لا تمنعنا من الشعور بالتقزّز، أو حتّى علنيّاً في سياقات معيّنة، ما دامت حساباتنا مفتوحة، من التّصرفات التّي نراها محتاجةً إلى أن تخضع للذّوق والمنطق. أليس المحسوبون على الفنّ والأدب والإعلام والثّقافة هم أكثر الشّرائح مطالبةً بتوفير الذّوق والمنطق في كلّ ما ينشرونه؟ أليسوا يتدخّلون في الصّغيرة والكبيرة في شؤون النّاس، عادةً ما تكون تدخّلاتٍ محكومةً بروح الوصاية. فما الذيّ يمنحهم الحقّ في أن يكونوا نائين عن تدخّلات الآخرين في منشوراتهم؟
هناك شريحة مسكوت عنها في واقعنا هي شريحة الشّباب التّي تستيقظ، بعد منتصف اللّيل، فتأكل مباشرةً من ثلّاجة المطبخ، إذ لا تشارك في المائدة العائليّة إلا نادراً، ثمّ تنخرط في الأفق الافتراضيّ مباشرةً
هنا نجد أنفسنا أمام جملة من الأسئلة التّي تطرح نفسها بنفسها، لكثرة دواعيها. ويطرحها الجيل الجديد من الشّباب، في معرض تعليقه على التّعاطي الافتراضيّ لمن يُسمّون "النّخبة" في الفضاء العربيّ، خاصّة بعد مقارنة باتت متاحة جدّاً بينها وبين نظيرتها في الفضاء الغربيّ. وهي المقارنة التّي أثمرت سيلاً من النّكات. علماً أنّ النّكتة السّاخرة من شريحة ما هي مؤشّر على اهتزاز صورة تلك الشّريحة في المخيال الشّعبيّ العام، بما يمهّد لتجريدها من أيّ سلطة للتّأثير أو قدرة على التّغيير، ويُلحقها بالتّراكم بقائمة الأعباء التّي يسعى الجيل الجديد إلى إزاحتها من طريقه.
وقد يخطئ طريقة الإزاحة/الإطاحة، في ظلّ منظومة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة لا تملك برنامجاً لتثقيف مسارات التجاوز والتّغيير، فيعمد إلى ممارسة العنف المادّي. وهو المعطى الذّي يجب أن نقرأ على ضوئه حوادث ضرب المعلّمين وقتلهم أحياناً من طرف تلاميذهم وطلبتهم.
من جملة تلك الأسئلة؛ ما معنى أن يسافر مثقّف إلى مكان ما، فيضع صورةً له معلّقًا: "أنا في المكان الفلانيّ"؛ من غير أن يُعطي لمحةً عن المكان لمن لا يعرفه؟ بل إنّه لا يسمح لملمح واحد من ملامح المكان المقصود بالظّهور في المشهد إلى جانب ملامحه هو، فجسده يستعمر الصورةَ كلَّها. هل يريد أن يقول إنّه سائح جيّد؟ علماً أنّ الصّورة نصّ له أصولُه وتقنياته وأحاسيسه الخاصّة التّي يفترض أن المثقفّين والكتّاب يوفّرونها في صورهم بشكل عفويّ، إذ ليس منسجماً مع المنطق أن نكون حداثيّين وناضجين في حقل ثقافيّ ما وجَهَلة في حقل آخر، إلى درجة أن نقبل استعمال صورة غير محترفة جماليّاتٍ وتقنيّات.
لقد عانيتُ وما أزال، على مدار السّنوات العشر التّي تعاملت فيها مع منابر إعلاميّة محترفة تشترط جودة الصّور المرافقة للمقال أو الحوار، بالنّظر إلى أنّ قطاعاً واسعاً من النّخب التّي حاورتُها أو استجوبتها أو كتبت عنها لا توفّر لي الصّور المطلوبة. بل إنّ البعض لا يملكون فكرة أصلاً عن كون الصّورة تملك حجماً يدخل في تحديد مدى جودتها. وإذا حدث التّساهل مع الحجم، بحيث يمكن الأخذ من ألبومات الشّخصيّة المعنية، في فيسبوك أو إنستغرام، فعادةً ما أجد نفسي في مواجهة معيقات أخرى.
ما معنى أن يضع المثقف طبقاً ما أمامه، ويكتفي بالقول: "هيّا.. تفضّلوا"، من غير أن يعطي فكرة أو مادّة ثقافيّة عن الأكلة لمن لا يعرفها؟ هل يريد أن يقول إنّه يأكل بشكل جيّد؟ علماً أنّ الثّقافة في عمقها هي فنّ العيش. ويأتي الطّبخ في طليعة تجلّيات هذا الفنّ.
ما معنى أن يدجّج الصورة بأولاده أو أحفاده أو أصحابه، من غير أن يضعنا، على الأقلّ، في السّياق الحميميّ للّحظة الإنسانيّة؟ هل يريد القول إنّه ليس منبوذًا في الحياة؟
ما معنى أن ينشر صورة له في فضائيّة من الفضائيّات أو إذاعة من الإذاعات، من غير أن يذكر الأفكار التّي ناقشها، لأنّه في الأصل ذهب من أجل ذلك؟ هل يريد القول إنّه مشهور وليس راكداً في سوق الإعلام؟
ما معنى أن ينشر صورة له في فضائيّة من الفضائيّات أو إذاعة من الإذاعات، من غير أن يذكر الأفكار التّي ناقشها، لأنّه في الأصل ذهب من أجل ذلك؟ هل يريد القول إنّه مشهور وليس راكداً في سوق الإعلام؟ هكذا يصبح الأمر ذا جدوى واحدة هو أنّه أعطى خبراً عن مكان تواجده. وهو خبر لا يعني إلا زوجته ووالديه وأولاده، حتّى لا يقلقوا عليه. وهو الهدف الذّي كان قادراً على تحقيقه بمكالمة هاتفيّة.
ما معنى أن ينشر صورة يحمل فيها كتاباً، أو يجلس في مسرح، من غير أن يقول جملة عن الكتاب أو العرض؟ هل يريد القول إنّه قارئ/متتبّع جيّد؟
ما معنى أن يُطلق صورة يظهر فيها مع نجم من النّجوم، من غير أن يُرفقها بانطباع واحد عن فنّ ذلك النّجم؟ هل يريد القول إنّه نجم أيضاً؟ إنّها موضة باتت شائعة في معارض الكتاب العربيّة، حيث يتهافت "كتاكيت الكتابة" المولعون بالشّهرة غير المسنودة بمضامين وأرصدة حقيقيّة، على الوجوه المكرّسة، حتّى يعطوا انطباعاً بأنّهم حاصلون على تزكية من هذه الأسماء.
كنت مرّةً في معرض الكتاب بالجزائر العاصمة، فسألت كاتباً أصدر كتابه السّرديّ الأوّل، وقد طلب منّي أن ألتقط له صورة مع الرّوائيّ رشيد بوجدرة: هل قرأت له؟ قال: لا. قلت: ماذا تفعل بالصّورة معه؟ قال: أنشرها في حسابي. قلت: ما أشبهك بالأمّ الفقيرة التّي تغلي الماء في القدْر لتوهم صغارها بأنّها تطبخ لهم طعاماً حتّى يناموا!
بالموازاة، قلّما يحصل هذا في حسابات أشخاص لا علاقة لهم بإنتاج الفنّ والكتابة والأفكار، أو من يُسمّيهم "المثقّفون" العرب بالعامّة/الغوغاء! بل إنّنا نقف في أحيان كثيرة على منشورات وصور لهم تقطر جمالاً وذكاءً وإحساسًا. وعلينا الانتباه إلى/الاعتراف بكون قطاع واسع جدّاً من نجوم مواقع التّواصل الاجتماعيّ العرب، خاصّة يوتيوب وإنستغرام هم من الطّبقات غير المحسوبة على الإنتاج الثقافيّ. وكثيراً ما نقرأ لمثقّفين عرب ونسمع منهم شكوى من هذا الواقع الذي يسبغون عليه صفات من قبيل "متفسّخ" و"مبتذل" و"رديء".
إنّنا بصدد مفصل عربيّ تحوّل فيه مجرى النّجوميّة من وجوه النّخب الكلاسيكيّة؛ مفكّرون وكتّاب وشعراء ومطربون ومذيعون وكتّاب صحافيّون، إلى وجوه الحياة العادية التّي تقدّم مادّة مرتبطة بالحياة والمعيش بلغة الشارع ومنطقه وميله إلى الفكاهة و"الفرفشة"، أي ما هو مفقود في المدوّنة الثّقافيّة الرّسميّة التّي تريد أن تستمرّ في الحضور رغم أنف التّحوّلات.
وهو المعطى الذّي أسّس لهوّة بين هذا النّوع من المثقّفين العرب وشارعهم، بحيث بات يقابلهم بالسّخريّة والاستهزاء والتّنكيت، فلم يجدوا من وسيلة لحماية حضورهم واستمرارهم إلا تزكية منظومة القدامة التّي عادة ما يرعاها السّياسيّون الفاشلون في تسيير حاضر ومستقبل شعوبهم. فلم يعودوا مستقيلين من مهمّة الاستشراف فقط، بل باتوا مستقيلين من مهمّة المواكبة والتأقلم أيضاً.
لنتركْ جانباً الهوامشَ السّلبيّة التّي رافقت تجربة "الرّبيع العربيّ" وتلك التّي ترتّبت عنه، وتعالوا نقرأه من زاوية مساهمة النّخب الكلاسيكيّة فيه، بحسب موقف كلّ وجه ثقافيّ قبولاً أو رفضاً؛ حينذاك سنقف على حقيقة صارخة هي أنّ النّخبة الثّقافيّة الكلاسيكيّة لم تستشرف الحدث قبل حصوله. ولم تواكبه أثناء حصوله؛ ولم تُرَسْمِله بعد حدوثه، من خلال الغربلة والتّحليل والتّمحيص، ونقع بالنهاية أمام هذا السّؤال: ماذا يُطلق على مثقفٌ لا يساهم في خلف اللّحظة ولا يتأقلم معها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...