قبل أيام، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بموجة استهزاء وسخرية من حادثة تصارع نائبين في قضاء أبو غريب، غرب العاصمة بغداد. انتشر فيديو ظهر فيه تطوّر الصراع إلى حد استخدام السلاح بين النائبين اللذين يدّعي كل منهما أحقيته في الإشراف على تعبيد شارع في المنطقة.
هذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. اعتاد الشارع العراقي قبيل كل انتخابات على التنافس الانتخابي المبكر عبر توزيع المال أو عبر وعود المرشحين بتقديم خدمات قبل أن يختفوا ويبدّلوا شرائح هواتفهم عقب فوزهم بالانتخابات.
حادثة أبو غريب كانت شاهداً على تحركات المسؤولين المبكرة للظفر بأصوات المواطنين، قبل ستة أشهر من إقامتها، ويعود ذلك ربما إلى غموض الظروف الحالية وتعدد الصراعات السياسية والحزبية.
شاهد عيان من أبناء المنطقة فضّل عدم الكشف عن اسمه شرح لرصيف22 تفاصيل الصدام بين عناصر حماية النائبين وأوضح أن موكب النائب طلال الزوبعي وموكب النائب كريم أبو سودة اللذين ينتمي كل منهما إلى حزب منافس، التقيا دون تنسيق للإشراف على تعبيد شارع يدّعي كل من النائبين أنه يُعبَّد بفضله.
وأشار الشاهد إلى أن التفاهم غاب بين العناصر وسادت الفوضى وتبادل الطرفان إطلاق النار، في أجواء شكلت صدمة لأهالي القضاء الذي وصف وجهاؤه الأمر بالمحزن.
ولاقى النائبان موجة من السخرية والانتقادات بسبب ردة فعلهما على مشروع صغير نفّذته الحكومة المحلية ضمن واجباتها.
ألاعيب مكشوفة
كثيراً ما يغيب عن بال المسؤول أن بعض التحركات التي يجريها تزامناً مع الانتخابات أصبحت مكشوفة. قبل الحادث المذكور، غرقت بغداد بمياه الأمطار، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصور عدد من النواب الذين ارتدوا ملابس واقية من المطر ووقفوا بجانب عجلات سحب المياه التابعة لأمانة بغداد، في محاولة لإظهار الاهتمام بالواقع الخدمي، مع أن هذه الأعمال من مهام الوزارات والمؤسسات الخدمية في الدولة.
يشير الكاتب والصحافي العراقي زياد وليد إلى أن الأساليب التي تتبعها الأحزاب بدأت بالانكشاف، وليست جديدة على العراقيين هذه المظاهر المستهلكة من قبل الأحزاب السياسية، سواء الغوص في مياه الأمطار أو تعبيد الشوارع وغيرها من المشاريع الخدمية.
ويضيف لرصيف22 أن النواب يستهدفون فئة معيّنة من الجماهير تنطلي عليها تلك الحركات، ويستغلون الغياب شبه التام لأبسط أساسيات الحياة في معظم المحافظات العراقية.
ويلفت إلى أن ما زاد من حماسة النواب للقيام بمثل هكذا أعمال هو النظام الانتخابي الجديد الذي قسّم الدوائر الانتخابية إلى دوائر ضيّقة ومحددة مناطقياً وعشائرياً، ما يجعل النائب يركّز على وحدة جغرافية صغيرة.
اللعب على أحلام الفقراء
الوعود الكاذبة تتهافت على الناخبين العراقيين، خصوصاً أبناء الطبقات الفقيرة، وبالأخص أولئك الذين يسكنون في العشوائيات.
وحتى الآن، لا يزال الكثيرون من أبناء العشوائيات في بغداد وباقي المحافظات يحتفظون بوثائق غير رسمية وزّعها عليهم في انتخابات عام 2010 رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والمرشحون في حزبه، وتعدهم بأنهم سيتملّكون بيوتهم غير النظامية. ولكن بعد الانتخابات تبيّن لهم أن السندات الممنوحة لهم وهمية.
ونجح اللعب على أحلام الفقراء إذ تمكّن المالكي من الفوز بالانتخابات. وانقضت عشرة أعوام على تلك الوعود، ولكن سكّان العشوائيات لا يمتلكون سوى وثيقة بالية لا تقيهم من الغارات اليومية التي يتعرضون لها من قبل أفراد القوات الأمنية التي تطالبهم بالرحيل وترك منازلهم كونها غير نظامية.
قانون الانتخاب العراقي الجديد هو لصالح رجال الدين وشيوخ العشائر وأصحاب النفوذ، على حساب الشخصيات العلمانية التي لا تستطيع المنافسة في إطار جغرافي ضيّق، وسيؤدي التنافس الشديد الذي يخلقه إلى لعب السلاح والمال دوراً كبيراً في الانتخابات
يصف الكاتب والصحافي أسعد حسين حادثة المالكي وغيرها من الحوادث المشابه بأنها "أكبر دليل على الضحك الذي يمارسه السياسيون على ذقون الفقراء وعلى أحلام الشباب والمهمشين وأبناء الطبقة التي تعاني من الفقر والتهميش ونقص الخدمات".
ويقول لرصيف22 إن الإغراءات السياسية والوعود الانتخابية "للأسف لا تكتفي بإغراءات المال بل لها بعدان: الأول الحصول على وظيفة؛ والثاني الحصول على سكن، و"نرى في كل عملية انتخابية وعوداً وتعهدات وتدخلات من شيوخ عشائر، فينتخب المواطن العراقي، ولكنه لا يجد بعد صدور النتائح إلا هواتف مغلقة".
وكمثال على استغلال المواطنين من قبل المرشحين للانتخابات، حذّر وزير العمل والشؤون الاجتماعية محمد شياع السوداني، في انتخابات عام 2018، المواطنين من تصديق وعود المرشحين والأحزاب بتسجيلهم في قوائم وزارة العمل واستلام رواتب الحماية الاجتماعية التي تُمنح للفقراء، مؤكداً أنه لا يمكن لأي حزب أو مرشح أن يضيف أسماء مواطنين بشكل عشوائي إلى القوائم لأن الوزارة تعتمد آلية محددة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، عادت إلى الواجهة الزيارات الاجتماعية التي يجريها السياسيون الذين ينوون الترشح في مناطق ترشحهم، وعقدهم لقاءات وتجمعات مع مواطنين، وحضور تجمعات في مضافات شيوخ العشائر، وعقد الندوات وإظهار نوع من الاهتمام بالمنطقة المستهدفة وأهلها.
ولكن كل ذلك سرعان ما سينتهي بعد إعلان النتائج. ومهما كانت النتيجة، سينتهي الاهتمام بالناس بكل الأحوال وستبقى معاناة المواطنين اليومية وستتلاشى الأحلام المبنية على وعود السياسيين.
القانون الجديد يشعل المنافسة
بعد ثورة تشرين واستقالة حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، جرى تعديل قانون الانتخابات، وحددت حكومة مصطفى الكاظمي شهر حزيران/ يونيو المقبل موعداً لانتخابات مبكرة.
يقوم قانون الانتخابات الجديد على أساس تقسيم كل محافظة عراقية إلى 18 دائرة انتخابية (على أساس الأقضية والمدن)، لكل منها أربعة أو خمسة مقاعد حسب الكثافة السكانية (مقعد لكل 100 ألف نسمة)، ويفوز المرشحون المتنافسون الحاصلون على أعلى الأصوات، ولا يستفيد أعضاء اللائحة من مجمل الأصوات التي تحصل عليها اللائحة مجتمعة، لأن الترشيح يتم على أساس فردي.
وكان القانون السابق يعتمد الدائرة الانتخابية الواسعة (المحافظة) والنظام النسبي، ما يعني أن الأصوات كانت تُمنح للائحة بشكل عام.
أشعلت الدوائر الصغيرة المنافسة بين المرشحين. ويرى الخبير القانوني طارق حرب أن هذا النظام الانتخابي سيحرم أي علماني من الفوز في الانتخابات المقبلة وسيغيب أصحاب الهويات الوطنية عن المشهد السياسي المقبل.
ويقول لرصيف22 إن القانون الجديد هو لصالح رجال الدين وشيوخ العشائر وأصحاب النفوذ، على حساب الشخصيات العلمانية التي تمتلك حضوراً على المستوى الوطني ولكنها لا تستطيع المنافسة في إطار جغرافي ضيّق.
وسيؤدي التنافس الشديد بين الأحزاب الذي ولّده القانون الجديد إلى لعب السلاح والمال دوراً كبيراً في الانتخابات المقبلة.
عودة الطائفية إلى المشهد
زادت ثورة تشرين من الانقسامات السياسية، خصوصاً داخل "البيت الشيعي". ومع تحديد موعد الانتخابات المبكرة انطلقت دعوات لإعادة ترميم البيت الشيعي، أبرزها دعوة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. كذلك، شهد "البيت السنّي" جلوس رئيس البرلمان محمد الحلبوسي مع أكبر خصومه، رئيس المشروع العربي خميس الخنجر. كما ظهرت دعوات كردية لتوحيد القوى السياسية والأحزاب الكردية ضمن "البيت الكردي"، للنزول بقائمة انتخابية واحدة
حكومة مصطفى الكاظمي
واعتبر رئيس مركز التفكير السياسي في العراق الدكتور إحسان الشمري أن الشارع غير مهيأ حالياً لتقبل فكرة البيوتات الطائفية والعودة إليها، فالانتصار على داعش وما أعقبه من صعود للهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية، وثورة تشرين التي رفضت الطائفية، كانا عامليْن دفعا الرأي العام إلى رفض الطائفية التي تتمسك بها بعض الأحزاب في محاولة للحفاظ على امتيازاتها.
تشكيلات جديدة في ثورة تشرين ستقف في وجه الأحزاب وتمنعها من تسييس الثورة وسرقتها في الانتخابات القادمة، وهنالك تنسيقيات تذهب إلى المشاركة مع جهات سياسية وأخرى تفضّل عدم المشاركة والاكتفاء بأداء دور المراقب
ولكن المشكلة في العراق أن اختيار رئيس الوزراء لا يتم بديمقراطية ولا بحسب رغبات العراقيين. يقول السياسي المستقل والنائب السابق في مجلس النواب ضمن التحالف الوطني في دورة 2006-2010 نديم الجابري إن منصب رئيس الوزراء لا تحدده الانتخابات، ومن الصعب أن يتولى شخص منصب رئيس الوزراء من خلال نتائج الانتخابات.
وضرب مثالاً على ذلك ما حصل مع إياد علاوي، إذ فازت كتلته الانتخابية (القائمة العراقية) في انتخابات 2010 بالمرتبة الأولى، ولكنه لم يحصل على منصب رئيس الوزراء، بعد أن تغلبت التوافقات السياسية على رغبات الناخبين، مستندة على تفسير للمحكمة الاتحادية شككت فيه بعض الأحزاب والشخصيات السياسية وما زال إلى الآن محل جدل.
ويضرب مثالاً آخر هو اكتساح نوري المالكي لانتخابات عام 2014 دون أن يتمكن من ترؤس الحكومة، بعدما ذهب التوافق السياسي إلى حيدر العبادي الذي هو ضمن حزبه السياسي.
ويضيف الجابري لرصيف22 أنه بعد عام 2018 صار يأتي إلى منصب رئيس الوزراء حتى مَن لم يشارك في الانتخابات مثل عادل عبد المهدي الذي تولى رئاسة الوزراء بعد انتخابات 2018 ضمن توافق سياسي، وكذلك رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي الذي لم يكن هو أيضاً مرشحاً للانتخابات.
ويخلص نديم الجابري إلى أن الدور البارز في وصول شخصية إلى منصب رئيس الوزراء تلعبه المرجعية الدينية في النجف الأشرف وموافقة إيران، ولدى أمريكا حق الفيتو وبدون موافقتها تحل الفوضى، أما عامل الانتخابات فهو مساعد لا أساسي.
واعتبر الجابري أن لا وجود لقاعدة جماهيرية لأي حزب في السلطة، فنسبة المشاركة في الانتخابات السابقة لم تتجاوز 15 إلى 20% من الناخبين العراقيين، و"لو حصلت انتخابات شفافة لوجَدَت الأحزاب البارزة في الساحة السياسية في العراق نفسها خارج الحراك السياسي".
ثورة تشرين والانتخابات المقبلة
يعتبر كثيرون أن تأثير ثورة تشرين على الانتخابات المقبلة سيكون واضحاً، فمثلما دفعت إلى استقالة حكومة وتعيين أخرى وتعديل قانون الانتخابات، فهي ستدفع بأحزاب السلطة إلى تغيير بعض وجوهها وإطلاق تسميات مدنية في محاولة لمجاراة الثورة.
يتحدث الناشط المدني مشرق الفريجي لرصيف22 عن تشكيلات جديدة في ثورة تشرين ستقف في وجه الأحزاب وتمنعها من تسييس الثورة وسرقتها، مشيراً إلى أن تنسيقيات الثورة تنقسم في الرأي، فمنها مَن يذهب إلى المشاركة مع جهات سياسية وبعضها يفضل عدم المشاركة والاكتفاء بأداء دور المراقب.
وعن تصوراته للانتخابات المقبلة، توقّع الفريجي أن الغلبة ستكون للأحزاب المسيطرة على السلطة بسبب النفوذ والسلاح والمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...