لو ألقيت برأسي إلى الماضي هل كنت سأرى المرّة الأخيرة التي كان فيها شعري مكشوفاً تحت الشمس؟ هل سأتذكر لون الغطاء الذي وضعته فوقه أول مرة؟ ما شكله؟ هل كان جديداً أم مستعملاً، استخدمتْه واحدة من أختيّ الأكبر عمراً؟ في أي يوم من الأسبوع كنّا؟ هل كان سيفرق لو كان اليوم يوم الاثنين؟ أي وقت في اليوم، صباحاً أم في الظهيرة؟ من قال: "أحلام ستضع الغطاء على شعرها هذا اليوم؟" هل أتى من الباب أم أرسل قوله مع مرسال؟ هل وضّحت رسالته الأسباب؟ هل وضعتُ الغطاء وحدي أم وضعتْه معي أختي التي تصغرني؟ كان بيننا عامان، فهل كان العامان كفيلين بجعلنا في مظهرين مختلفين مع أننا كنا نفعل الأشياء كلها معاً، نأكل من الصحن ذاته، ونستحمّ في الطشت نفسه؟
لقد اختفى كل ذلك تماماً من ذاكرتي. أدقُّ الأسئلة في رأسي لعلي أجد ذكرى هنا أو هناك تحت هذه العظمة أو تلك، لكني لا أجد. كأن الغطاء عندما وضع فوق رأسي لم يتمّ بفعل فاعل. كأن الغطاء قطعة من جسدي كانت تنتظر عمراً محدداً لتطلع وحدها، فجاء هذا العمر فطلعت، كالشَّعر تحت الإبطين، أو فوق العانة، أو كانت صغيرة ثم كبرت، كالنهدين: يبدآن كرزتين، ثم يصبحان تفاحتين.
كأنني صحوت من النوم في أحد الأيام فمددت يدي لألمس شَعري فلمستُ شيئاً غير مألوف. رأيته على الأخريات من قبل، لكنني لم أسألهن عنه، ولا من أين أتين به، ولا ما الذي جاء به، ولا كيف جاء، فهل فغرت فمي مستغربة في ذلك الصباح، أم فرحت لأنني أصبحت مثل الأخريات الأكبر عمراً، وهذا يعني أنني كبرت؟ فهل فرحت لأني كبرت، وأنني أصبحت أمتلك الدليل؟
كل ذلك اختفى تماماً، واحتفظت ذاكرتي بآخر صورة لشَعرى مقصوصاً. كنا نمضي أنا وأختي من الشارع الذي يفضي إلى بيتنا، ثم تفضي إطلالته إلى مئذنة المسجد القديم وسط القرية. كنا نسير وحدنا، كأننا في قصة، على واحدة من صفحاتها مطبوعة صورة طفلتين فرحتين، لا أعرف لماذا أعتقد أننا كنا ذاهبتين في تلك الصورة للقيام بعمل واحد من هذه الأعمال الثلاثة: إحضار مقصّ الشعر، أو إرجاع مقصّ الشعر، أو رمي شعرنا المقصوص بعيداً عن البيت.
كان ينبغي دوماً الاحتفاظ بالشَّعر المقصوص في مكان آمن، فلربما حصل عليه عدوّ واستخدمه في تغيير مصير صاحبه، بالسّحر وأعماله. كانت تتغير المصائر في ذلك العالم البعيد بالشّعر، فكان الشَّعر المقصوص يُحرق أو يُدفن، كان يعامل بكثير من الرهبة، كأنه يد قطعت أو عين سقطت عن شرفة الوجه.
حظيت الخراف والسّخول في بيتنا بمقصّ، وكان الصبيان يذهبون إلى الحلاق للحلاقة. أما البنات فمنذ البداية لم يتوفر في البيت مقصّ لقص شعورهن، لقد توفرت الإبر لخياطة الألحفة، والمسلات لخياطة الشوالات، والمقصات للأقمشة، لقد اختفت من البيت ضمادات الجروح، فاستعنا بخرق القماش، واختفت مقصّات الشعر، فاستعنّا بمقصات الأغنام.
كأن الغطاء قطعة من جسدي كانت تنتظر عمراً محدداً لتطلع وحدها، فجاء هذا العمر فطلعت، كالشَّعر تحت الإبطين، أو فوق العانة، أو كانت صغيرة ثم كبرت، كالنهدين: يبدآن كرزتين، ثم يصبحان تفاحتين
تتحوّل وظائف الأدوات على الدّوام في أيدي النساء من فعل إلى آخر، فأدواتهن أقلّ، لكن كلّ أداة كانت تقوم بأكثر من وظيفة. كان هذا ومازال مهارة تتصف بها النساء. إنهن ساحرات عندما يحوّلن أغطية رؤوسهن إلى وجوه لأوعية العجين، أو ناموسيات لحراسة نوم أطفالهن!
كان أخي الأوسط من قصّ شعرنا. هل قصّه بمقصّ الغنم فعلاً؟ هل كان يتسلّى؟ فكلما تذكرت الصورة وجدتُه يضحك فيها. لا أتذكر لماذا فعل ذلك، ولا كيف وافق والداي. كان الفصل صيفاً. لم يكن خريفاً تتساقط فيه الأوراق عن الأشجار، ولا ربيعاً تنفر فيه البراعم من لحائها.
لقد كان قصّ الشعر من المحرمات، لذلك ربما سأعتقد أن حبوباً نبتت في جلدة رأسينا، وأن القصّ كان العلاج الذي رضيت به العائلة مجبرة. فهل نبتت الحبوب في جلدة رأسينا معاً في الوقت نفسه؟ أم أن أخي فعل ذلك لنا الاثنتين لأننا كنّا بالطول نفسه؟ ولا اتذكر أن أمي كانت حزينة. بل أتذكّر أن قصّ شعرنا كان حدثاً جعل الجميع يحكون فيه، ويبنون حوله المزيد من الحكايات.
ولماذا فرحت؟ هل لأنّ شكلي سيتغير؟ لكني لا أتذكر أني نظرت في المرآة التي يستخدمها أبي لحلاقة الشعر عن وجهه لأرى ذلك التغيّر، ولم تكن لدى أمي مرآتها لأرى شكلي فيها. ربما فرحت لأن حدثاً جديداً حصل في العائلة فأخرجها عن رتابتها، وهذا يعني أن الرّتابة التي تأخّر اكتشافي للكلمة التي تعبر عنها يمكن أن يقتلها شيء واحد: الأحداث الجديدة.
كانت تلك مناسبة جيدة للإحساس بمعنى التغيير، لكن السنوات ستطول قبل أن أجرّب طعم ذلك الإحساس مجدداً. ربما فرحت لأن أخي اقترب مني كثيراً إلى ذلك الحدّ، حتى وصل شعري. ربما كان قصّ الشّعر فعلاً بديلاً للاحتضان الذي غاب تماماً من طفولتي! وربما لأن أبي كان أقلّ تجهماً في ذلك اليوم. فهل لو فعلت ذلك أختي كان سيظلّ أقل تجهماً؟ ربما لأنني بفعل القصّ شعرت بأنّ مواطن الألفة قد تلتحم بأدوات الحماية، في لحظة ما، وهذا سيعطيها شرعيتها، فأخي من قصّ شعري، ولم تقصّه أختي. قصّه رجلٌ ولم تقصّه امرأة.
أظن أنني الآن، أتذكر جيداً لماذا فرحت في أحد الأيام، قبل 36 عاماً؛ لقد ظننت أن تغيري محميّ ممّن سيحاربه لاحقاً، إن لم يكن بمعارضته، فبمعارضة المجتمع وبأسبابه، فشعرت بالأمان. لكنه كان أماناً خادعاً ومؤقتاً!
ركضنا أنا وأختي، في الصورة، فرحتين وأيدينا متشابكة. هل تصدقون أن هذه هي الصورة الوحيدة التي أتذكرها لنفسي في طفولتي وأنا أضحك؟! لقد اكتشفت هذا للتوّ، وأنا أكتبه.
تُردّد أمي أن البنت لها سبع جلوات، تتغير البنت من عمر إلى آخر، كأنها تخلع عنها صورة، ثمّ تدخل في صورة أخرى، وهكذا، حتى تستقرّ في الصورة التي سيعرفها عنها من حولها، لكنها لن تعرف أي صورة ثبت الآخرون هيئتها عليها، لتستمرّ فيها، ولا تعرف متى عليها أن تتوقف في صورتها. فهل هذه هي التي تريد أن تكمل عليها حياتها، وسوف يثبتها لها الباحثون في السير الغيرية للنساء؟
السّنوات ستطول قبل أن أجرّب طعم ذلك الإحساس مجدداً. ربما فرحت لأن أخي اقترب مني كثيراً إلى ذلك الحدّ، حتى وصل شعري. ربما كان قصّ الشّعر فعلاً بديلاً للاحتضان الذي غاب تماماً من طفولتي
لم تردّد أمّي أن للشَّعر سبع دورات، يولد الشَّعر من عالم الغيب على رأس البنت، وأوّل ما تسحل من ذلك العالم الخفي، كأنها سقطت مع شلال، حتى يُنظر أولاً لشعرها، ثمّ يلمس بلمس رأسها، فيتوقع مصيره، بالصمت مرة ومع تعبير: ماشاء الله، فيقال: "هذه البنت شعورة"، أو "هذه البنت حلتة". ثمّ بغبطة ينظر الحاضرون للحلتاء دون ثناء، وتضحك النسوة، ويأسفن على مصير الشعورة؛ فالشعر الكثير سيحتاج جهداً كبيراً من البنت وأمها في الأيام والسنوات القادمة، يُنسى كلّ شيء في تلك اللحظة المهمة لخروج حياة من الحياة وإليها ويتمّ الانتباه إلى الشعر ومصيره، وكأن حياة البنت تختصر في الشّعر، ومنذ تلك اللحظة تبدأ الأم والجدّة والعمّات يفكّرن بالسّكر المعقود على النار، الذي سيصير جبالاً من الذهب، يبنينها خلف الأبواب المغلقة، تلك الأبواب التي سيقضي أطفال العائلة الذكور جزءاً مهما من حياتهم وهم يتلصصون من عيون الأبواب علّهم يعثرون على سرّ ما يحدث خلفها.
تقطع النساء صخرة صغيرة كل شهر من الجبل، لينتفن بها الشعر الزائد. ومنذ ذلك اليوم، ليست الأم وحدها، بل حتى امرأة الجيران، ستبدأ بمراقبة ذلك الشعر: أين ينمو، وكيف، ثم تقيس نمو المخفي منه بالظاهر، فالظاهر، مع وجود الاغطية التي تبدأ بالتوافد على جسد البنت، يصبح الدليل الوحيد على المخفيّ منه.
تنام الوليدة على وسادة صغيرة محشوة بصوف جزه والدها عن ظهر النعجة، وحشته أمها في قماش أبيض نقي، ورسمت عليه خالتها بقطبة الحشوة عصفوراً، ثم يبدأ شعرها يحلق فوق وجه الوسادة. يقشر الشعر عن رأس الوليدة كأنّ رأسها رأس سمكة، فيبدأ الشعر أول دورة من دورات تغيره عندما تكون المرأة سمكة.
كان ينبغي دوماً الاحتفاظ بالشَّعر المقصوص في مكان آمن، فلربما حصل عليه عدوّ واستخدمه في تغيير مصير صاحبه
ثم يبدأ الشَّعر يتحول داخل مصائره الغامضة. كان شعري في طفولتي الأولى ساحلاً مثل الشلال، ثم صار ناعماً كالمخمل، ثم سلك طريقاً غريباً لم يحبها أحد فصار أجعد؛ من هنا تحديداً أظن أنني اخترت أنني سأسير معه، في الطريق التي لم يحبها أحد. ربما كنت دون أن أدري البنت التي سلكت مع شعرها الطريق الغريب. فإلى أين قادني شعري، وإلى أين ذهبنا معاً؟ وهل كان طريق الشعر الأجعد طريقاً للأطفال المنبوذين؟
قبل أن يأخذني شعري في طريقه راقبت شعر رفيقتي في الصفّ. كان شعرها مفلفلاً. كان أشبه بمواليد الفلفل الحلو التي كنا نجدها في باطن أمهاتها الكبيرة بالصدفة، وكانت تفرحنا أكثر مما تفعل أمهاتها المتناثرة حولنا في كل مكان. وكان يشبه حباب البطاطا الصغيرة مجهولة الأم، تلك المتروكة في الأرض، كأنها ولدت وما كان يجب أن تولد؛ حبات بطاطا لقيطة تأكلها الأغنام عندما تمرّ من المزراع الخربة، وترمرم عن وجه الأرض بتأفف ما تركه لها المزارعون.
لكن شعري لم يكن مثل شعر رفيقتي، فبقي شعرها سرّاً من أسرار الطفولة، ولم يكن شعري مثل شعر قريبتي، الذي كان خريصياً، ملوناً معظم الوقت بالحناء، ولم يشبه شعر أمها الذي سيتقدم شعري ذاهباً من طريقه، وسيتلامس كتفاهما، شَعري وشعرها، وسيمضيان، كلّ في طريقه، فطريق الشعر الواحد، لن يؤدي إلى النهاية نفسها.
لقد قضيت طفولتي متسائلة: ماذا لو كان شعري مثل شعر أمي؟ ماذا لو ذهب في طريق الشَّعر الساحل، المروي بالسّواد الحالك، مثل ليل طويل معتم، لم تظهر فيه فجوات البياض إلا متأخراً جداً، حتى أن تلك الفجوات ظهرت في شعر أختي الكبيرة قبل أن تظهر في شعر أمّي. لكن أمي لا أحد مثلها، ولا شعر يشبه شعرها. سيظل لشعر أمي طريق منفرد، مشت فيه، فمشى معها، وذهبا معاً، دون أن تأخذ أمي معها واحدة من بناتها سوى أصغرنا، فكانت بنت أمها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين