شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل الحجاب رمز دينيّ أم مسألة كونيّة؟

هل الحجاب رمز دينيّ أم مسألة كونيّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 27 يونيو 201901:31 م

الحجاب بالنسبة للعرب قبل الإسلام تقليدٌ بديهي أقرّه النبي محمد بالنسبة للنساء، ومثله حجاب الرجل، فهو بدوره تقليد فرضته طبيعة المناخ. والحشمة تِبعاً لما سبق، مسألة طبيعيّة فطريّة "تقليديّة" في العصر السالف، لا تحتاج لمن يأمر بها ويحضّ عليها. ومع ذلك، فالحجاب لدى المسلمين تحوّل، بفعل الكتاب والزمن والفقه وتتالي الأحداث، إلى موضوعٍ ديني من المرتبة الأولى، بل أصبح بالنسبة للمرأة بمثابة جوهر إسلامها، فمعظم الفقهاء أقرّوا بأن الحجاب فرض، بحيث أنه في عصرنا الحداثي العولمي يمكنك أن ترى امرأةً مسلمةً "سبور"، لباساً وكلاماً وسلوكاً وحياةً، لكنها تصرّ على ارتداء الحجاب كغطاء رأسٍ أو جلباب لقناعتها أنه فرض ديني. هنا يصبح الحجاب إضافةً لكونه فريضة، رمزاً دينيّاً ثقافيّاً لدى البعض، وقلّة من المسلمين يقرّون أو يعرفون أنه تقليد اجتماعي، وهو ما ذهب إليه بحثٌ صادر عن الأزهر قبل سنوات قليلة.

إن الكتاب والسنّة حوّلوا تقليداً عربيّاً من كونه تقليداً "قوميّاً" محليّاً إلى تقليدٍ إسلامي كوني.

ومن ناحيةٍ أخرى، قليلاً ما التفت إليها الباحثون، فإن الكتاب والسنّة حوّلوا تقليداً عربيّاً من كونه تقليداً "قوميّاً" محليّاً إلى تقليدٍ إسلامي كوني. لقد تعولم الحجاب بفضل الإسلام كما تعولمت كلُّ الأنماط العربيّة المحليّة، فاختلط العربي بالإسلامي، ولم يعد بالإمكان الفصل بينهما، أو رسم الحدود بين ما هو عربي وبين ما هو مسلم، وأصبحت الثقافة العربيّة، بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة، كما لو أنها جزء من الإسلام، ولا يصحّ الإسلام دونها!

ما سبب وجود الحجاب؟

الحجاب ليس غطاء للرأس فحسب، بل جزء من لباسٍ كاملٍ ارتدته النساء في كلِّ الأزمنة والأمكنة، ومازال قسم كبير منهن يفعل، من شرق الصين حتى جبال الأنديز غرباً.

ولنفهم ما هو الحجاب، لا بد من معرفة سبب وجوده، وهو نفس السبب الذي ابتُكرت لأجله أنواع الثياب المختلفة، لحماية البدن من عوامل الطبيعة، كالبرد وحرارة الشمس والغبار، وكذلك تمَّ تشريع الحجاب طبيعيّاً ونفسيّاً، لحماية النساء من الاعتداء الجنسي، ولتنظيم العملية الجنسيّة في التوقيت الذي يناسب الطرفين.

كان الحجاب ملازماً للنساء العاملات في الحقول والمزارع، وارتدينه في كلّ مكان، في الجبال أو السهوب أو الصحاري، بل كان لباساً رجاليّاً أيضاً، فلم يكن مألوفاً على الإطلاق رؤية رجلٍ بدون غطاء قماشي أو جلدي يلف رأسه.

لكن إذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا رمى الرجل والنساء معاً في أوروبا واليابان الحجاب أو غطاء الرأس؟

هذا صحيح بقدر ما يشكّل الحجاب حامياً لشعر المرأة ورأس الرجل من ظروف الطبيعة والمحيط، فالنساء العاملات في المصانع الأوروبيّة في القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، كن يحتفظن بأغطية رؤوسهن وبثيابهن الطويلة الفضفاضة (المحتشمة) أثناء عملهن، وربما تخلين عنه بالتدريج بإرادة أرباب العمل، حينما بدأت موضة اليونيفورم أو الزي العمّالي الموحّد.

جوهر مفهوم الحشمة المسلم غير مختلف عن المسيحي واليهودي

بوصول دفعاتٍ جديدة من المهاجرات النازحات المسلمات من سوريا، العراق، أفغانستان، المغرب، الصومال وغيرها إلى أوروبا الغربيّة، يعود الحجاب ليصبح ظاهرةً ثقافيّةً كونيّة، فيتصدّر الميديا الغربيّة، مرئيّةً ومقروءةً، إلكترونيّة ومطبوعة، ويشكّل جزءاً مضافاً على فوبيا الإسلام، لكأن الحجاب ظاهرة إسلاميّة، بل إسلاميّة عربيّة فحسب، وليس تقليداً يهوديّاً وأرثوذكسياً وقبطياً وبوذيّاً عريقاً، ولكأنه ليس تقليداً نسويّاً في فارس والعراق قبل ألفي سنة من مجيء المسيح، الأمر الذي ينبش عداءً تاريخيّاً، بين الشرق ممثلاً بالعرب المسلمين، وبين الغرب في طبعته المسيحيّة الصهيونيّة هذه المرّة، بعدما وجدنا تفهّماً من المسيحيّة الأرثوذكسية للحجاب المسلم، لاشتراك الدينيين بهذا التقليد العريق مضافاً إليه مفهوم الحشمة، فمفهوم الحشمة المسيحي الشرقي خصوصاً أنّه لا يختلف كثيراً عن مفهوم الحشمة المسلم، وهذا الأخير يكاد يطابق المفهوم اليهودي.

المشكلة إذاً في الأيديولوجيا الليبراليّة والعلمانيّة اللاييكيّة ممثّلةً في فرنسا "عصر الأنوار"، وفي أيديولوجيا سياسيّة لها جذور دينيّة هي الصهيونيّة البروتستانتيّة، التي تقدّم نفسها كدينٍ كوني جديد، لا شيء يعيقه سوى الإسلام، وبقايا نَفَس عند كاثوليكيّةٍ تترنّح تحت ضربات العولمة.

معركة الحجاب كونيّة

من هنا يجب مقاربة مسألة الحجاب في كونه رمزاً دينيّاً ثقافيّاً في عالم تسوده ثقافة عولمةٍ أمريكيّة، لها رموزها وأيقوناتها التي تقاتل لتثبيتها بضراوة، عبر سحق ومحو أي رمز آخر مهما كان. فمعركة الحجاب هي معركة كونيّة إذن، بما تعنيه كلمة كونيّة من محتوى ودلالات، أهمّها النمط الواحد الشمولي، والقوّة المعنويّة المتكئة على المرجعيّة المقدّسة للحداثة، وليست معركةً دينيّةً كلاسيكيّة. هي معركة كسر عظم وتطويع لشعوب تحاول الحفاظ على رموزها، ومجرّد حفاظها على رموزها يعني أنها شعوب غير مطيعة ولا تتقبّل "الدين الجديد"، لذلك لا بدّ من محو ذاكرتها أوّلاً، وهو أمر ينجح حتى الآن، ومن ثمّ محو رموزها، والحجاب أهمّها، لأنه علامة اختلاف وتعدّد.

كان الحجاب ملازماً للنساء العاملات في الحقول والمزارع، وارتدينه في كلّ مكان، في الجبال أو السهوب أو الصحاري، بل كان لباساً رجاليّاً أيضاً، فلم يكن مألوفاً على الإطلاق رؤية رجلٍ بدون غطاء قماشي أو جلدي يلف رأسه.

إن مفهوم الحشمة المسيحي الشرقي خصوصاً لا يختلف كثيراً عن مفهوم الحشمة المسلم، وهذا الأخير يكاد يطابق المفهوم اليهودي.

في معركة الحجاب تظهر أوروبا ما بعد الحداثة، وكأنها أوروبا العصور الوسطى، حيث محاكم التفتيش وحرق الساحرات تنفّذها سلطةٌ دينيّةٌ سياسيّة باسم الله، بحقِّ مخالفيها المسلمين والمسيحيين.

ردّة إلى الأحاديّة، وكذبة الحرية الشخصيّة

فالعولمة تريد تحويل البشر إلى أرقام، قطيع وآلات متشابهة لا تمايز ولا تنوّع فيما بينها، لا في اللباس ولا الطعام ولا الموسيقى ولا الأفكار ولا السلوك...

معركة الحجاب تتحوّل إلى معركةٍ بين معسكرين: الأوّل معسكر النخب الثقافيّة التي تحافظ على التنوّع الثقافي، ومن ضمنها التقاليد والرموز والفنون، كما تحافظ على التنوّع الطبيعي والبيئة، والثاني معسكر النخبة قائدة العولمة، التي تحلم بتحويل العالم، بشراً وطبيعةً، إلى بلوك واحدٍ، لا لون ولا طعم ولا رائحة له، تحويل العالم إلى "مادةٍ" طيّعةٍ قابلةٍ للتشكّل والابتلاع، ومن ثمّ التقيّؤ على حدِّ تعبير المفكر، الطيب تيزيني. إنها معركة العولمة لتشييء العالم، وفي هذه المعركة تظهر أوروبا ما بعد الحداثة، وكأنها أوروبا العصور الوسطى، حيث محاكم التفتيش وحرق الساحرات تنفّذها سلطةٌ دينيّةٌ سياسيّة باسم الله، بحقِّ مخالفيها المسلمين والمسيحيين، أو المختلفين في الفكر والمشكّكين بأقوال الكنيسة ورجال الدين، هنا في أوروبا المرتدّة إلى الأحادية لا مكان للمختلف، لا سيما إن كان مسلماً أو عربيّاً أو ملوّناً، وفوبيا الحجاب ليست سوى دليل فاقع على قلوب تحنُّ إلى زمن التفتيش في عقول ونفوس وخيارات الناس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard