شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شكهم ويقيننا...الدراما التاريخية وأسئلة الهوية والتفوق

شكهم ويقيننا...الدراما التاريخية وأسئلة الهوية والتفوق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 29 ديسمبر 202003:33 م

في السنوات الأخيرة، تم عرض مجموعة من المسلسلات التاريخية الأوروبية، التي ركزت على تاريخ الشعوب "البربرية" التي انتشرت في أوروبا في مراحل مختلفة من الألفية الأولى لميلاد المسيح، مثل الفايكنج والجرمان وغيرهم من شعوب الشمال.

بالمقابل، نجد أن نماذج من الدراما التاريخية الشرق أوسطية، العربية، التركية والإيرانية، قد قدمت مجموعة من الأعمال الموازية التي مجّدت فيها سلفها، المسلم، الغابر، بكل وسيلة ممكنة. تُرى ماذا يعني هذا؟ هل له دلالة ما؟

مسلسلات أوروبية تعيد النبش في حفريات السلف (القومي)، مقابل مقاربات تعتقد أن بدايتها مرتبطة بالتحول للإسلام فحسب: شك وتساؤل مقابل يقين وإيمان.

هل تشير تلك المفارقة إلى وجود عطب ما فيما يخصّ إدراكنا ووعينا بهويتنا الجمعية؟ هل تصلح تلك الملاحظة لالتقاط طرف الخيط نحو فهم أفضل لسيرورة الحركة التاريخية، باعتبارها حركة تطورية تراكمية تراكبية معقدة؟

بطلهم: راعي البقر الذي يبحث عن ذاته

كثيرة هي الأعمال الدرامية التاريخية التي أنتجها الغرب في السنوات القليلة المنقضية، وهو أمر مفهوم إلى حد بعيد، في ظل تطور وازدهار صناعة الدراما التلفزيونية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام، خصوصاً مع اشتداد حدة التنافس بين شركات الإنتاج والتسويق الأكثر شهرة، مثل Netflix, HBO, FOX.

من أهم أعمال الدراما التاريخية التي ظهرت في تلك السنوات، المسلسل الأيرلندي- الكندي Viking، والذي تم عرض الحلقة الأولى منه في 2013م، وامتد على مدار ستة مواسم كاملة بمجمل 79 حلقة، والمسلسل البريطاني The Last Kingdom، الذي تم عرض الموسم الأول منه في 2015م، وامتد على مدار أربعة مواسم كاملة بمجمل 36 حلقة، هذا فضلاً عن المسلسل الألماني Barbarians، الذي عُرض موسمه الأول في 2020م.

كعادة الدراما الغربية التي تولي اهتماماً واضحاً بالانتشار والرواج، وتضع معايير الربح والخسارة بالمقام الأول. اهتمّ صنّاع الأعمال الثلاثة بإضافة قدر كبير من التشويق والإثارة لأعمالهم، إذ ظهر البطل في كل مسلسل من المسلسلات الثلاثة على كونه فارساً قوياً شجاعاً، يقتحم ميادين المعارك اقتحاماً، ويصرع الفرسان تباعاً، وقد أوتي قدراً كبيراً من الذكاء والفراسة، هذا بالإضافة إلى دخوله في الكثير من العلاقات الغرامية، وهو الأمر الذي قد يزيد من بريقه وألمعيته من جهة، ويثبت فحولته الجنسية من جهة أخرى.

كل ما سبق يأتي متسقاً مع منهجية وروح الحياة الاستهلاكية الغربية، التي عملت منذ فترة بعيدة على إعادة إنتاج صورة راعي البقر (الكاوبوي) الأميركي بأشكال متعددة، تتماشى مع ظروف الفترة التاريخية التي يُقدم فيها العمل الدرامي، فقد يخلع الكابوي قبعته ويرتدي الأزياء الإغريقية القديمة ليجسد دور البطل الأسطوري أخيل في فيلم كـ Troy من إنتاج 2004م، وقد يُجبر على التردد على صالات الألعاب كثيراً لتكتسب عضلات بطنه منظراً مهيباً، كالتي ظهر بها الممثل الأسكتلندي جيرارد باتلر، أثناء تجسيده لدور ليونيداس، ملك مدينة إسبرطة في الفيلم الشهير 300، إنتاج 2006م.

مشاهد المسلسلات سابقة الذكر، سيجد أنه ورغم حضور تلك الخلطة الهوليودية التقليدية النازعة للأسطرة والمبالغة في البناء الدرامي لكل من الأبطال الثلاثة، إلا أنها لم تكن السمة الأهم للبطل، بل تركت مكانها لسمة أخرى جديدة، ألا وهي الحيرة والبحث عن الذات والهوية.

في الأعمال الثلاثة المذكورة، يظهر البطل الرئيس للمسلسل في صورة إنسان حائر، مُمزق، بين أصل قديم اكتسبه بحكم الانتساب العرقي والقبلي وحاضر جديد وصل إليه من خلال الظروف والسياقات التي أُجبر عليها.

في مسلسل المملكة الأخيرة، المبني على رواية "قصص السكسون" للكاتب البريطاني برنارد كورنويل، يقف البطل السكسوني أوتريد بن أوتريد، والذي تم اختطافه من الغزاة في صغره، لينشأ بينهم ويكتسب تقاليدهم وعاداتهم، بين العالمين السكسوني والدانماركي.

فيتجاذبه كل منهما حيناً، ويخضع هو بشكل كامل لتلك التجاذبات، فيعيش تائهاً بين عالم مسيحي يبحث عن بناء إنجلترا الموحدة في القرن التاسع للميلاد، وعالم وثني لا يفهم سوى لغة القتال والغزو، ويعبر صنّاع المسلسل عن حيرة أوتريد وبحثه عن هويته الضائعة بجملة "القدر هو كل شيء"، والتي اعتاد أوتريد على ترديدها قُبيل بداية كل حلقة، ربما ليذكرنا بالقضية الأكثر حضوراً في العمل.

القضية تظهر بشكل واضح أيضاً، في مسلسل البرابرة، والذي يحكي تفاصيل معركة غابة تويتوبورغ، التي انتصر فيها البرابرة الجرمان على فيالق الإمبراطورية الرومانية، في بدايات القرن الأول للميلاد، وذلك من خلال قصة الطفل آري، ابن زعيم أحد القبائل، والذي يُقاد إلى روما لتتم تربيته في قصر أحد القادة، وليتحول شيئاً فشيئاً إلى الطابع الروماني، ويتغير اسمه إلى أرمينيوس، حتى إذا ما شبّ وبلغ مبلغ الرجال وجد نفسه في مواجهة قبيلته، وتحتم عليه الاختيار بين أصوله الجرمانية وثقافته الرومانية.

في الوقت الذي قدم فيه الأوروبيون الدراما التاريخية التي احتشدت فيها أسئلة الشك والريبة ، نجد بالمقابل مسلسلات تركية وعربية وإيرانية، مغرقة في طابعها البراغماتي النفعي من جهة، وسماتها الدوغمائية الواضحة من جهة أخرى

إذا ما تغافلنا عن البعد الاستهلاكي الحاضر بقوة في تلك الأعمال، وأمعنا النظر في الخلفية الفكرية التي بُني عليها ذلك النوع من الدراما التاريخية، لوجدنا أن المحاولات الجادة التي يقوم عليها صنّاع الدراما الأوروبية لتقديم واستعراض بعض الفترات التاريخية الضبابية والحرجة في تاريخ القارة البيضاء العجوز، تتماشى تماماً مع السعي الجاد والحثيث نحو الإجابة على سؤال الهوية والمصير، وذلك بدون أي تخوف مما ستسفر عنه تلك الإجابة من إثارة لنقاط تنطوي على قدر كبير من الحساسية.

الأعمال الثلاثة التي تمت الإشارة إليها، تناولت ثقافات وجماعات عرقية تعود لفترة ما قبل سيادة المسيحية الكاثوليكية في أوربا، إذ انتشرت جماعات الجرمان/ الفايكنج/ قبائل الشمال، في مناطق مختلفة من القارة، ودخلت في صراعات متعددة في سبيل الحصول على فرصة للاستقرار والوجود، وهو ما تحصلت عليه بالفعل بعد خوض الكثير من المعارك الشرسة ضد القوى الأكثر تنظيماً وقوة.

نحن إذن أمام استعراض ضخم لتاريخ التشكل الديموغرافي والعرقي للقارة الأوروبية، أوروبا التي لا نعرفها، والتي تختلف كثيراً عن أوروبا الكاثوليكية الإقطاعية التي ستظهر فيما بعد بقرون عدة، والتي اصطدمت بالشرق المسلم في حروب طويلة عُرفت بالحملات الصليبية.

البطل إذن كان يعبّر عن السياق، ويرمز بوضوح لطبيعة تلك اللحظات الدامية التي عرفها الأوروبيون قديماً، لحظات المخاض الصعبة المريرة، التي عانت فيها تلك المجتمعات كثيراً، ووجد الناس أنفسهم أمام سؤال الشك والهوية المُلحّ مراراً، وهو السؤال الذي لم تكف الحضارة الأوروبية عن طرحه مراراً على طاولة البحث.

بطلنا: ملائكي حسم قراره منذ اللحظة الأولى

في هذا السياق، قدمت الدول الإسلامية، في السنوات القليلة السابقة، مجموعة من المسلسلات التي قُدّر لها أن تحظى بقدر هائل من الذيوع والانتشار، ولعل من أبرزها كل من المسلسل الإيراني "مختار نامة" إنتاج 2010م، والثلاثية التركية "قيامة أرطغل" إنتاج 2014م، و"قيامة عثمان" إنتاج 2019م، و"قيامة السلاجقة" إنتاج 2020م، هذا فضلاً عن المسلسل الإماراتي "ممالك النار" إنتاج 2019م.

منذ اللحظة الأولى لمتابعة تلك المسلسلات، نجد أن صناع الدراما التاريخية العربية، الإيرانية والتركية، قد وقعوا في فخ التنميط واستخدام القوالب الجاهزة سريعة التحضير. البطل في جميع تلك الأعمال لا يكف عن إبهارنا بشجاعته وفروسيته وإقدامه على القتال والدفاع عن الضعفاء والمساكين والتصدي للأشرار وأهل الغدر، بمعنى أن النموذج البطولي في تلك الأعمال قد تشابه كثيراً مع ذلك النموذج الاستهلاكي الغربي، الذي أشرنا له في المحور السابق من هذا المقال.

المسلمون المنشغلون بالصراعات والمنافسات السياسية والأيديولوجية المحتدمة فيما بينهم، عرفوا ما في الدراما من قوة ناعمة مهيمنة على الأذهان، فاستغلوها في معاركهم 

هذا مع مراعاة أن تتسق البطولة مع معايير الثقافة الإسلامية الحاكمة، فلا يمكن تقديم المشاهد الحميمية الجريئة التي اعتاد الغربيون على تقديمها، كذلك لا يمكن الاستغراق في عرض تفاصيل القتل والدماء التي قد تثير حفيظة الكثير من المشاهدين.

إذا ما تجاوزنا تلك النقطة، والتفتنا للخلفية الفكرية التي بطّنت ذلك النوع من الدراما، لوجدنا أنها، وعلى النقيض التام من مثيلتها الغربية، قد صدرت قدراً هائلاً من الإجابات اليقينية للمشاهدين في كل فرصة ممكنة، وذلك من خلال الأبطال الذين يعرفون جيداً ماذا يريدون، والذين اعتادوا على المضي قدماً في طريقهم المُحدّد سلفاً، دون أي مراجعة لهذا الطريق أو مجرد التفكير في تغييره.

في مسلسل "مختار نامة"، اختار صنّاع المسلسل أن يظهروا بطلهم، المختار بن أبي عبيد الثقفي، في دور الرجل الذي حدد مصيره منذ اللحظة الأولى، فهو من كبار الشيعة وأكثرهم إخلاصاً وتفانياً في خدمة أئمة آل البيت، وهو الذي فعل كل شيء ليأخذ بثأر الإمام الحسين بن علي، ومن هنا، فقد اختار القائمون على المسلسل أن يتغاضوا تماماً عن جميع الروايات التي تتحدث عن شك المختار، وعن تقلب حاله وموقفه فيما يخص أهل البيت العلوي، للدرجة التي دفعته، بحسب بعض الروايات، للتفكير في خيانة الحسن بن علي، وتسليمه لمعاوية بن أبي سفيان.

هذا اليقين الدوغمائي، يظهر بصورة واضحة كذلك في الثلاثية التركية التي تحدثت عن "قيامة أرطغل وعثمان والسلاجقة"، وذلك في صور ومشاهد متعددة لا يمكن تفسيرها جميعاً بقانون الصدفة. في مسلسل "قيامة أرطغل"، يختار صنّاع المسلسل أن يبدؤوا عملهم بمساندة أرطغل وفرسانه الشجعان لفرقة سلجوقية تصارع عدواً صليبياً أقوى وأكثر عدداً، هذا في الوقت الذي تؤكد فيه الرواية التاريخية أن أرطغل قد اتبع حدسه عندما اختار النزول لحلبة القتال وقتها، وأنه لم يكن يعرف هوية المتقاتلين.

يجري تأصيل هذا كله ودعمه من خلال ظهور شخصية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، الصوفي الأكثر شهرة في العصور الوسطى، ليصبح مرشداً روحياً لأرطغل، وليقدم له إجابات يقينية شافية مع كل سؤال أو موقف محيّر يقع فيه بطلنا، رغم أنه لا يوجد دليل تاريخي واحد يشير إلى لقاء أرطغل بابن عربي.

في مسلسل "نهضة السلاجقة"، يختار القائمون على المسلسل أن يتجاوزوا الفترة الأولى من عمر تلك الدولة التركية، فيضربون صفحاً عن أصول تلك القبائل وتاريخها الوثني القديم، قُبيل اجتيازها لنهر جيحون واستقرارها في إيران ودخولها لقلب العالم الإسلامي، فيبدؤون قصتهم بقصة الوزير نظام الملك الطوسي والسلطان ملكشاه وأخبار الصراع مع الشيعة الإسماعيلية المارقين، وظهور حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.

اعتاد الغرب على أن يقدم تاريخه للمساءلة، وينظر إليه بعين يملؤها الشك، باحثاً في طياته عن إجابات لأسئلة الهوية والمصير، وهي أسئلة مهمة حاضرة في ميادين البحث العلمي الأكاديمي الغربي منذ فترة موغلة في القدم

هكذا إذن تبدأ القصة دائماً من المنتصف، ويضع المؤلف النقطة المرجعية التي يجب الانطلاق منها، دونما اعتبار للسياق التاريخي نفسه، وهو الأمر الذي ظهر بشكل أكثر وضوحاً في مسلسل "ممالك النار"، عندما قُدم السلطان المملوكي طومان باي، على كونه مصرياً قلباً وقالباً، فلم يُظهر المسلسل أي مشاعر مضطربة تعتمل في صدره، وهو الطفل المُختطف من أهله الجركس في شمال القوقاز.

التاريخ والهوية... وتبقى الأسئلة عالقة بين الثقافتين

وضح في النماذج السابقة أن فارقاً جوهرياً يفصل بين التعامل مع التاريخ الغربي ومثيله الإسلامي، وأن هذا الفارق قد ظهر في الدراما التاريخية المعاصرة باعتبارها تجسيداً لمفاهيمنا وتصوراتنا عن الماضي والتاريخ.

لو تغافلنا عن الطابع الاستهلاكي المميز لعالم ما بعد الحداثة، لوجدنا أن الغرب قد اعتاد على أن يقدم تاريخه للمساءلة، وأنه قد نظر له بعين يملؤها الشك، باحثاً في طياته عن إجابات لأسئلة الهوية والمصير، وهي أسئلة مهمة حاضرة في ميادين البحث العلمي الأكاديمي الغربي منذ فترة موغلة في القدم، وربما يعبر عنها ما ذكره الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت "أنا أشك، إذن أنا موجود"، بما يشير إلى حاكمية المنهج العلمي، واعتباريته وأولويته عن أي دوغمائية، دينية كانت أو قومية.

ثمة فارق جوهريّ  بين الوعي التاريخي الغربي ومثيله الإسلامي، وإنّ هذا الفارق قد ظهر بوضوح في الدراما التاريخية المعاصرة باعتبارها تجسيداً للمفاهيم والتصورات عن الماضي والتاريخ

على النقيض التام، اختارت النماذج التي اخترناها، من إيران وتركيا والعالم العربي، أن تتغاضى عن الكثير من الأسئلة الإشكالية التي قد تؤرق بالها وتقضّ مضاجعها، فلم تتح الفرصة لتنامي العقل المتسائل، وأحاطت ذاكرتها الجمعية بسياج قوي من المقدسات التي لا يجوز المساس بها، فحولت المسلسل التاريخي إلى ملهاة تراثية بيد حراس المعبد، من الساسة ورجال الدين، الذين دأبوا على اجترار القديم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image