يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
أسفل عمارة شامخة مرّ على تشييدها قرون، ذات بنيان بطراز أوروبي عتيق، يقع المقهى الشهير "جروبي"، على بُعد أمتار قليلة من تمثال رجل الاقتصاد الأشهر في مصر، طلعت باشا حرب، مُحافظًا على اسمه الغربي، وسط مكان سعى رجال ثورة يوليو جاهدين لِمحوِ كلّ ما يعود أصله إلى الأجانب الذين سكنوا مصر بالنصف الأول من القرن العشرين.
بالاقتراب من مبنى المحلّ، في الطابق الأرضي ستُطالعكم واجهته برسوم مُبهجة، على خلفية مكعبات الفسيفساء، وبمجرّد دفعكم للباب الزجاجي، سترون ثلاجات مخصصة لحفظ الحلوى والشوكولا، اللتين يشتهر بها "جروبي"، ذو الأصول السويسرية.
جاكومو جروبي... الحلواني السويسري يغزو قلب القاهرة
ولد جاكومو جروبي (أو غروبي) السويسري الأصل في بلدية روفيو عام 1863، تعلّم صناعة الحلويات من أقاربه في لوجانو، ثمّ بمرسيليا، وبحسب الفيلم الوثائقي "رحلة نجاح جاكومو جروبي وعائلته في مصر"، الذي بثه التلفزيون السويسري عام 2009، فإن انتقاله إلى مصر جاء وهو في السابعة والعشرين من عمره.
جاكومو غروبي
يقول آكيلي غروبي، ابن شقيقة جاكومو، في حديثه للتليفزيون السويسري، إن خاله تشجّع للذهاب إلى مصر، بعد سماعه للأخبار الجيدة التي كانت تصله عن مرحلة النموّ الاقتصادي، وخاصةً بعد افتتاح قناة السويس. فرحل إليها وانضمّ لأقاربه من عائلة "جيانولا" من قرية بيسوني السويسرية.
وتوسّع نشاط "غروبي" في مصر، عندما اتّخذت بريطانيا قرارها بنقل قادة جيوشها في البحر المتوسط، والشرقين الأوسط والأقصى، إلى القاهرة، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، فعاش "غروبي" أزهى عصوره وأكثرها ربحاً.
يرى ماركو غروبي (31 عاماً) وهو من الجيل الرابع بعائلته، أن نجاح المقهى ومحلّ الحلويات الأشهر في مصر سببه أن القاهرة "كانت في ذلك الوقت في قلب العالم وكان غروبي في وسط القاهرة"
ويرى ماركو غروبي (31 عاماً) وهو من الجيل الرابع بعائلته، في حديثه لمجلة "نيوز ويك" الأمريكية، أن نجاح المقهى ومحلّ الحلويات الأشهر في مصر سببه أن القاهرة "كانت في ذلك الوقت في قلب العالم وكان غروبي في وسط القاهرة".
مكان المشاهير ومقرّ الطبقة الراقية
"لا تخلو الأفلام العربية القديمة من حوار لطيف، يقول فيه البطل لحبيبته: هستناكِ في جروبي الساعة خمسة". بتلك الجملة أكّد الكاتب الراحل مكاوي سعيد، في كتابه "مقتنيات وسط البلد" على مدى التأثير الذي تركه "جروبي" على المجتمع المصري، وخاصة أبناء الطبقة الأرستقراطية في أربعينيات القرن الماضي.
ولم تتغير مكانة جروبي بعد وفاة مؤسسه جاكومو عام 1947، وتولي ابنه آكيلي مهمة تطويره، فأضحت مناضده شاهدة على اتفاقات فنية وسياسية، تُبرم بين ثنايا دخان مشروباته الساخنة، وحلوياته النادرة، فيقول مكاوي سعيد: "أمّ كلثوم كانت تُفضّل تناول إفطارها في غروبي، وأسمهان كانت لها ترابيزة (منضدة) مُفضّلة فيه، وعيزرا وايزمان، الذي صار فيما بعد رئيساً لإسرائيل، كان يتناول إفطاره يومياً في غروبي طوال فترة وجوده في مصر كجنديّ يهودي في الجيش الإنكليزي".
لم يكن جروبي مجرّد مقهى أو مطعم مبني على الطراز الفرنسيّ، إنما كان مشروعاً ثقافياً يُرسي ذوقاً وتقاليد جديدة، وفقاً للراوئي يوسف حسن يوسف، الذي أكّد في روايته "جروبي" الصادرة عام 2013 ، أنه: "اعتُبِر مركزًاً من مراكز الحداثة والرقي في المجتمع المصري".
ويستطرد: "هنا كانت تجلس المطربة أسمهان (أخت فريد الأطرش)، وعلى هذه المائدة كان يجلس كامل الشناوي، يقرأ جرائد الصباح، ويكتب الشعر، ويشرب عصيره المفضل. وكان الفنان أحمد رمزي يتردّد على جروبي بصفة شبه يومية مع أصدقائه، وفي إحدى المرّات، كان مع أحد زملائه في الدراسة، وشاركهما اللقاء مخرج شابّ اسمه يوسف شاهين، فحدثت الصدفة التي قدّمت للسينما العربية والعالمية نجماً شهيراً، هو عمر الشريف".
غروبي ضحية "السبت الأسود" ومؤامرات الجواسيس!
انتماء مقهى جروبي لمؤسسين أجانب جعله عُرضة لمناوشات وأعمال شغب من قِبَل رافضي وجود المحتلّ بمصر، مُعتبرين أنّ كلّ ما يحمل عنواناً غربياً فهو تابع للدولة البريطانية المحتلّة، ففي الخامس والعشرين من يناير عام 1952، قبيل اندلاع ثورة يوليو، حدث ما عُرِف وقتئذ بـ"السبت الأسود"، عندما استيقظ المصريون على حرائق شتّى تلتهم الكثير من بنايات القاهرة، قدّرتها مجلة "نيوز ويك" بثلاثمائة متجر، فضلًا عن المعالم، بما في ذلك دار أوبرا القاهرة.
ويروي شاهد عيان لـ"نيوز ويك" أن البعض تسلّق مقهى جروبي، وخلع اللافتة، ثمّ نزع الشعار الملكي Confiserie de la Maison Royale.
لم تُثنِ تلك الحرائق أبناء جروبي عن إكمال المسيرة، خِشية تشريد 1800 عامل ــ بحسب ماركو غروبي في تصريحه لمجلة "نيوز ويك"ــ وضخوا مبلغًا ضخمًا لترميمه.
كان الفنان أحمد رمزي يتردّد على جروبي بشكل شبه يومي مع أصدقائه، وفي إحدى المرّات، كان مع أحد زملائه في الدراسة، وشاركهما اللقاء مخرج شابّ هو يوسف شاهين، فحدثت الصدفة التي قدّمت عُمر الشريف للسينما العربية والعالمية
بينما يُشير مكاوي سعيد إلى أن استهداف "جروبي" تكرّر بعد عامين من حادث "السبت الأسود"، حين هدّدت جماعة محظورة ـ لم يُسِمَّها ــ بنسفِه مع الجامعة والسّكك الحديدية، وأُحبطت محاولة تفجيره.
وبعد جلاء المحتلّ البريطاني على يد الضباط الأحرار، نجا "جروبي" من التأميم بأعجوبة، وظلّ ملكًا لأصحابه، لأنهم كانوا "يُلبّون حاجات الملوك والرؤساء"، وفق تصريح فرانكو غروبي (56 عاماً) لـ"نيوز ويك".
وفي عام 1960، كان مقهى جروبي على موعدٍ بحادث جلل، اشتهر وقتها بـ"عملية سمير الإسكندراني"، الذي أسقط شبكة جواسيس تعمل لصالح الموساد الإسرائيلي، كان أحدهم يعمل بالمقهى، ويُدعى "جورج استاماتيو"، بحسب رواية الأديب يوسف حسن يوسف..
"خلية النحل" لم تعد بنفس الكفاءة
في مدخل المحلّ حالياً، بمجرّد فتح بابه العتيق، سيجد الداخلون تحت أقدامهم جُملة من كلمتين بارزتين: "قفير النحل"، التي قد يحسبها الناظرون إليها للوهلة الأولى تميمة حظّ؛ لكن المعنى المراد منها هو "خلية النحل" التي تعمل بكفاءة منقطعة النظير، ولا تكِلّ رغم المجهود، ولا تملّ رغم تكرار الفعل ذاته يومياً، وفق ما أشار إليه أحمد يسري، المدير الحالي لمقهى جروبي، في حديثه لـرصيف 22.
لكن "خلية النحل" تلك، لم تعٌد على حالها الآن، فعدد الزبائن لا يكاد يتخطى أصابع اليد الواحدة، لأسباب أوضحها أمين سعيد، أقدم عُمّال جروبي، قائلًا في حديثه لـرصيف 22: "الزبائن حاليًا لا ينتمون للطبقة الأرستقراطية كما في السابق، وهي طبقة اختفت من مصر بالأساس، وحلّ مكانها الأثرياء الهاربون من زحام وسط البلد، ولا تعنيهم عراقة المكان"، مُضيفًا: "هناك من يخشى دخول جروبي، على خلفية معرفته بتاريخه الأرستقراطي، ويقينه بأنه لا يقدر على دفع فاتورة مشروبات المقهى إلا الأثرياء".
تَبدُّل حال جروبي ليس وليد اللحظة، حيث يرى مكاوي سعيد في كتابه "مقتنيات وسط البلد" أن تدهور حالته الاقتصادية عام 1981، أثّر بالسلب على المقهى العريق، فاضطرّوا لبيعه إلى عبد العظيم لقمة، أحد قيادات الإخوان المسلمين، وفق رواية "جروبي" ليوسف حسن يوسف.
ولعل آخر خبر ذُكِر فيه اسم عائلة "جروبي" السويسرية، كان في مارس من عام 2009، حين عرض ورثة المقهى 160 قطعة من مقتنياتها الفنية بمتحف "أنتيكوم موزيوم" للآثار، الواقع في مدينة بازل السويسرية. وأقيم المعرض تحت عنوان "أطايب من القاهرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...