من ساحة التحرير في بغداد، وبعد عام على الوجود هناك، خطر في بالي أن أسأل ما الذي تعلمته خلال هذا العام؟
قبل تشرين، كنت على المستوى الواقعي وعلى مستوى نشاطي الافتراضي على فيسبوك، شخصاً تقليدياً محبوساً داخل كتلة نخبوية تضيع داخل الكتب، وتهرب على ظهر المجاز محاولةً خلق حياة أخرى غير تلك الموجودة في الأصل. كل أصدقائي من الفاعلين ثقافياً: شعراء، مسرحيون، تشكيليون، مترجمون، ناشرون، أصحاب مشاريع صحافية، إلخ.
كان ذلك عالماً مغلقاً، أقصى ضغائنه عبارة تتشابه هنا أو هناك وتحدث مشاجرة داخل اللغة، عالماً لا عزاء فيه أكثر من كلمات باردة، سرعان ما تجفّ عندما ترتطم بجدار الواقع. وفيسبوكياً كنت مكتفياً بنشر النصوص والمقالات وبعض الملاحظات الثقافية هنا وهناك، كما أشارك أخبار كتب وإنجازات يقوم بها الأصدقاء.
أغلب مَن كانوا في صفحتي، وربما الأغلبية العظمى، يعرفون إيهاب شغيدل الشاعر المتحفظ الذي لا يقدم عن كونه إنساناً غير تلك الصفة النخبوية! إنجازي إنهاء الصياغة الأخيرة للنصّ كي يكون قابلاً للتداول.
أيام المراهقة، كنت أعرف شباباً تقتصر حياتهم على طعم النرجيلة، شباباً رياضيين وغير منتجين، حسب تصوري، وهذا ما جعل حياتي في الوسط الثقافي نوعاً من الإنجاز.
كنت أنحاز إلى حياتي الجديدة وليس إلى تلك التي كانت أيام المراهقة، وهنا يأتي الدور للحديث عن إيهاب ما بعد تشرين: لقد تعرّفت مرة أخرى على الناس الذين في الجانب الآخر من الحياة. خرج رأسي من عتمة النخبة. خرجت من بلاغة المكتبة واستعارات الشعر، وعثرت أخيراً على الناس الذين لا علاقة لهم بالشعر أو تطور النقد، الناس غير المعنيين بدريدا وبارت ونيتشه وبودلير ورامبو... إلخ، الذين لا همّ لهم غير الحياة الواقعة أمام العين، ربما كان ذلك مزعجاً في الأيام الأولى، وصعبَ التصديق. كيف أتشارك الرؤى مع من لم يقرأ ريلكه بشكل جاد؟!
وهل فهم ريلكه ينفع يا إيهاب وأنت بلا خدمات؟! صراع غريب من نوعه. كيف تقف كتفاً إلى كتف مع مَن لم يجد السياب وسعدي أهم من كل حفنة الأوغاد الذين تشعّ أسماؤهم في الميديا؟ كيف أقف مع "العطوانيين"* في المكان نفسه؟ هل هذه مزحة؟! كتب صديقي زين حسين في مقال قبل تشرين واصفاً إياهم بأنهم "بِيتيون** وإن لم ينتموا"، في 17 آب/ أغسطس 2019، فهل أعجبني أن أستعيد علاقتي بـ"البِيتيين" على حدّ وصف زين؟!
قبل تشرين العام الماضي بشهرين كتبت نصاً عن العربة الصغيرة التافهة التي لا تليق بالعراقيين، "التكتك"، نصاً فيه استهجان كبير وهذا المقطع الأول منه:
عند الخروج من البيت
عليك وضع يدك
لهذه المركبات،
مركبات الاعتقال الضيقة
التي تسمى (تكتك)،
أقصى ما ينتاب المرء
وهو يمارس رياضة الغبار
والكلمات الصادرة من المارة
إنه يبدو مصاباً بالتحجر
حتى تشعر أنك دمية قديمة
مركونة في علبة
"بعد تشرين، خرجت من بلاغة المكتبة واستعارات الشعر، وعثرت أخيراً على الناس غير المعنيين بدريدا وبارت ونيتشه وبودلير ورامبو، إلخ، الذين لا هم لهم غير الحياة الواقعة أمام العين. ربما كان ذلك مزعجاً في الأيام الأولى. كيف أتشارك الرؤى مع من لم يقرأ ريلكه بشكل جاد؟!"
كنت ممّن يعتبرون عربة النخبة هي التي تكتب تاريخ المجتمعات وتراثها الإنساني، وترصد تحولاتها وتفكك مرجعياتها الثقافية، لكن "تكتك" تشرين أتاح لي إعادة النظر في كلّ تلك التفاصيل. ومع ذلك، إنني واثق حتى الآن من أن التكتك وعربة النخبة لن ينقلا الحياة إلى تلك المادة الكثيفة من السلام والسعادة والمحبّة.
لست وحدي مَن يحاول إعادة قراءة الحياة ثانية فهذه فكرة "إيهاب والذين معه"، مقوّساً الجملة لأنها عنوان مجموعة للشاعر محمد مظلوم، في تناصّ مع القرآن.
صياغة أخرى للحياة تودّ تشرين وضعها على طاولة وجودنا الآدمي، صياغة "تشرينيّة" لا تمتّ للمنفعلين وللنّفعيين بِصِلة. "تكتك تشرين" لا تمثله مجموعة أوباش تودّ أن تحصل على "لايكات" مقابل الدماء، وتدفع بالناس نحو الانتحار، كما أني متأكد من أن عربة النخبة ليس كل عجلاتها معوقة على غرار ما نجده في خطابات بعض المثقفين.
يمكننا أن نحصل على صيغة متوازنة: نأخذ من "تشرين" روحها ومن النخب مزاجها الإبداعي، دون أن نصبح انتحاريين أو نخبويين حدّ الاختفاء. ببساطة يمكن لتشرين أن تصبح مرجعية ثقافية لجيل كامل.
"كنت ممّن يعتبرون عربة النخبة هي التي تكتب تاريخ المجتمعات، وترصد تحولاتها وتفكك مرجعياتها الثقافية، لكن تكتك تشرين أتاح لي إعادة النظر في كلّ تلك التفاصيل"
عرفت شباباً في تشرين يحصلون على تأييد حتى عندما يطلقون دعابات ساذجة، كما أعرف من النخب نموذجاً مشابهاً لهذا. لست معهم ولا أريد أن يغيّروا حياتهم لأجلي، لكنْ حان الوقت لتشكّل مزاج بعيد عن أوهام النُّخب واندفاع بعض الشباب.
إذا كانت الحدوس والأفكار المهمّة تأتي عبر مغذيات دينية وثقافية واجتماعية، فعلى "تشرين" أن تطرح نفسها كأحد هذه المغذيات ولا تعطي صورة غير هذه. يجب أن نوظف "تشرين" في مناطق اشتغالاتنا، وغير ذلك عبء.
"تشرين" نقطة ضوء ما قبلها ظلام وما بعدها ظلام، كلّ محاولات استيلادها ثانية عبث، لذا هي بالنسبة إليّ شخصياً ستكون مغذّياً ثقافياً وروحياً أحاول أن أضعه داخل النتاج الثقافي. فهل يشاركني الرؤية الذين معي؟
*هم مجموعة شباب من مدينة الثورة/ مدينة الصدر الشعبية، يتميزون بسلوكيات معيّنة، منها استخدامهم للتكتك وحبهم للصخب وقصات الشعر والملابس "الغريبة"، وهنالك مصور حفلات اسمه زهير العطواني يشتهر بالتقاطه صوراً مميزة لهم، فاكتسبوا اسم "العطوانيين".
**نسبة إلى جيل بيت الأمريكي Beat Generation، وهم مجموعة كتاب وشعراء أمريكيين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية وتميّزوا بالتعبير عن الاحتجاج على مظاهر الحضارة الحديثة ومحاولة خلق ثقافة بديلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...