شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
يعيشون بين إقليمي أمهرا وتيغراي... يوميات الفلاشا في إثيوبيا وعلاقتهم مع محيطهم

يعيشون بين إقليمي أمهرا وتيغراي... يوميات الفلاشا في إثيوبيا وعلاقتهم مع محيطهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 14 ديسمبر 202001:33 م

في قرى متناثرة في إقليمي أمهرا وتيغراي الإثيوبيين المُتجاورين، يعيش بضعة آلاف من المواطنين حياة ضنكة. يعملون، بجانب الزراعة المحدودة، في النسيج اليدوي البسيط وصناعة الفخار والحدادة والصياغة، ويُنفقون نهارهم كله بين المطرقة والسندان والِمنول، فيما تتولى النساء تربية الأطفال وتدبير المنازل.

يأوي هؤلاء إلى أكواخ دائرية مبنية من القش والطين، يُطلقون عليها اسم "توكول"، وما عدا استثناءات قليلة، فكل المنازل المُقدّر عددها بـ500 تتشابه في هذه القرى المتناثرة في نواحي منطقتي بحر دار وشمالي غوندر في مرتفعات الحبشة.

خلا الاختلافات الدينية، فإن لا فروق عميقة تُميّز اليهود الفلاشا عن جيرانهم، إذ يحملون الملامح ذاتها ويلبسون الملابس نفسها، ويعيشون في أنواع مماثلة من المنازل، وينفقون حياتهم بنفس طريقة غيرهم من الديانات الأخرى.

في المقابل، دفع امتهان طوائف منهم للأعمال اليدوية، المُستحقرة في تلك المجتمعات الزراعية، بجيرانهم لأن يشيعوا عنهم أنهم سحرة، ويطلقون عليهم أصحاب العين الشريرة، وهذه ليست فكرة قديمة وانقضت، بل لا تزال ملازمة لليهود الإثيوبيين إلى اليوم، حتى أن البعض يعتبرهم "بوذيين"، فيطلقون على الواحد منهم كلمة "بوداي" التي شُحنّت لاحقاً بمضمون السحر.

ليسوا غرباء

يقول أستاذ التاريخ الإفريقي والحضارة الأكسومية في جامعة كابيلا في الكونغو داويد نيقاسو: "واضحٌ جداً أن لا أحد يستطيع الجزم بحقيقة الأصول المُبكرة لليهود الفلاشا أو بيتا إسرائيل، بيد أنه لا خلاف حول حقيقة أنهم يمثلون واحداً من أقدم المجتمعات الإثيوبية الحالية، ومن أقدم مجتمعات الشتات اليهودي، حيث أشار الكتاب المقدس إلى اليهود الذين يعيشون في المنطقة المعروفة الآن بإثيوبيا، إلا أن مثل هذه الروايات الدينية لا تؤخذ كحقيقة مطلقة، وإنما تبقى قابلة للجدل والنفي".

لذلك، وحسب ما يضيف نيقاسو في حديثه إلى رصيف22، نتحدث عن "وقائع لا افتراضات"، فـ"في الواقع، لا أحد يعرف على وجه التحديد من أين ومتى جاء بيتا إسرائيل إلى هذه المناطق من الحبشة، لكن لا أحد ينكر أنهم من إحدى أقدم المجتمعات التي عاشت على المرتفعات الجبلية حول بحيرة تانا، منبع النيل الأزرق، ولربما لا يوجد الآن من هو أقدم منهم". 

يتابع نيقاسو حديثه حول الفلاشا بالقول: "كانوا ملوكاً، ورغم قلة عددهم، تفوقوا في أوقات كثيرة على القبائل المسلمة والمسيحية من حولهم وفرضوا سيطرتهم عليها، لكن جيرانهم أطلقوا عليهم اسم الفلاشا الذي فسره كثيرون بأنه يعني الغرباء، ولا يوجد في التاريخ ولا اللغات المحلية ما يجعلني أتبنى هذا المعنى الذي روّج له في العقود الأخيرة، لربما أقرب المعاني إليها أنه مشتق من فلش، وهو إله وثني أشارت إليه التوراة".

وحول التسمية، يرجح نيقاسو أن هذه الجماعة كانت وثنية قبل تحولها إلى اليهودية، لكنهم "ليسوا غرباء في أرض إثيوبيا، لأنه لا يوجد دليل تاريخي واضح يمكننا الاعتماد عليه في هذه الصدد، والأرجح بالنسبة لي أن هؤلاء الفلاشا هم فئة صغيرة من قبيلة أغاو اعتنقت اليهودية على يد مهاجرين من جنوب الجزيرة العربية (اليمن) كانوا يدينون بها عندما وصلوا إلى الحبشة بعد انهيار سد مأرب، كما أن الحبشة واليمن كانتا في مراحل تاريخية كثيرة دولة واحدة".

الصلاة بلغة غير مفهومة

منذ ولادتها حتى الآن، تنتظر أباينيش كيبدي (32 عاماً) دورها في الهجرة إلى إسرائيل.

تعتقد خريجة كلية الزراعة في جامعة أديس أبابا أن "الكثير من المكتوب والشفاهي عن بيتا إسرائيل لا يستند إلى حقائق تاريخية، إذ يكتبه أناس متعلمون من وراء مكاتبهم المريحة في جامعات الغرب".

امتهان طوائف منهم للأعمال اليدوية، المُستحقرة في المجتمعات الزراعية، جعل جيرانهم يعتقدون أنهم سحرة، وهو اعتقاد لا يزال ملازماً لليهود الإثيوبيين إلى اليوم، كما أن البعض يعتبرهم "بوذيين"، فيطلقون على الواحد منهم كلمة "بوداي" التي شُحنت لاحقاً بمضمون السحر

تقول كيبدي: "في الواقع، نحن جزء من هذا المجتمع، فقراء مثله، ومتمسكون بيهوديتنا على طريقتنا الخاصة المُتأثرة بالأديان التي حولنا، كما نؤثر عليها، والحياة في قرانا في شمال غوندر وتيغراي لا تختلف كثيراً عن حياة بقية القرى ذات الأغلبيات الأرثوذكسية أو المسلمة، ونتحدث ذات اللغات، الأمهرية والتيغري، فيما لا يزال بعضنا من عرقية كيمانت (Qemant)، شمالي غربي مدينة غوندر في إقليم أمهرا، محتفظٌ بلغته القديمة (أغاو) وإن كانت الأجيال الراهنة تحولت تدريجياً إلى اللغة الأمهرية، كما فعل أسلافنا وصرنا إليه نحن".

ما عدا ذلك، تستطرد كيبدي قائلة في حديثها لرصيف22: "تمضي الحياة في القرى اليهودية رتيبة وروتينية، مثلها مثل بقية القرى حولها، فقط لدينا معابد يهودية ولديهم مساجد وكنائس. أنا شخصياً لست شديدة التدين، لا آبه، لكن أسرتي تفعل العكس، إذ تذهب إلى الكنيس (المعبد) حيث يضع الكهنة أغطية الرأس، ويخلع المصلون أحذيتهم كما يفعل المسلمون، وتجلس النساء منفصلات عن الرجال في مساحة مخصصة لهن أو خلف ستار يحجبهن عن الأنظار".

"أريد الهجرة لتحسين وضعي الاقتصادي والأكاديمي، أكثر مما أريدها هجرة إلى الله، لأنه موجود في كل مكان وليس في القُدس وحدها، وهكذا تمثل الهجرة بالنسبة لجل المهاجرين الإثيوبيين، خاصة الشباب منهم".

في الكنيس، يتوجه الجميع بالصلاة نحو القدس، وتُتلى الآيات باللغة الجئزية، وهي لغة ساميّة قديمة مكتوبة بخط المسند السبئي، لا أحد يفهم منها الكثير عدا الكهنة (الحاخامات)، وهذا ما يثير الدهشة، وفق كيبدي التي تعلّق بالقول: "المصلون لا يعرفون لغة الجئز، فقط يرددون خلف الكهنة، آمين آمين، فكيف تناجي ربك بلغة لا تفهمها أنت نفسك؟".

بالنسبة لكيبدي، فإن الكثير من الأسئلة حول مجتمعها تفتقر إلى إجابات منطقية، لكن، حصلت أم لم تحصل عليها، فإنها تخطط للهجرة إلى إسرائيل، وتنظر هذا اليوم بلهفة أقرب إلى الشغف، وتعزو ذلك إلى الظروف الاقتصادية الطاحنة، والحرب الأهلية الراهنة التي تدور بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية المركزية، إذ أن بعض قرى اليهود ضمن ميدان المعركة.

وتواصل: "أريد الهجرة لتحسين وضعي الاقتصادي والأكاديمي، أكثر مما أريدها هجرة إلى الله، لأنه موجود في كل مكان وليس في القُدس وحدها، وهكذا تمثل الهجرة بالنسبة لجل المهاجرين الإثيوبيين، خاصة الشباب منهم".

لا يوجد لدينا "حانوكا"

تحتفل بيتا إسرائيل بالأعياد اليهودية المنصوص عليها في الكتاب المقدس، لكن ليس تلك التي تم تطويرها لاحقاً، مثل "حانوكا" (عيد الأنوار).

يقول أستاذ التاريخ الأفريقي والحضارة الأكسومية: "يتقيد اليهود الإثيوبيون بصرامة براحة السبت وقوانين الكشروت (الطعام الحلال)، ولا يأكلون طعام غير اليهود ويصنفون المرأة الحائض نجساً ويتم إرسالها إلى كوخ بعيد حيث تبقى به وحدها لسبعة أيام، أما الزيجات فيتم ترتيبها في الغالب من قبل الآباء، والطلاق غير شائع بينهم".

بالنسبة للملكة جوديث التي تقول بعض الروايات التاريخية إنها تنتمي إلى الفلاشا، وإنها قضت على مملكة أكسوم المسيحية في القرن العاشر الميلادي واضطهدت الكهنة ودمرت الكنائس، فإن التحقق من ذلك يحتاج إلى جُهدٍ بحثي وعلمي إضافي، لكن المؤكد أن ملكة من عرق أغاو حكمت إثيوبيا على أنقاض أكسوم لمدة 40 عاماً وأسست سلالة مسيحية جديدة وقوية من نسل أغاو، استمرت في حكم إثيوبيا لأكثر من 300 عام.

لكن كيف تؤسس ملكة يهودية سلالة مسيحية؟ تبدو هذه الفرضية خاطئة، وفق نيقاسو الذي يشرح: "ربما خلط البعض بين كونها من سلالة أغاو التي يدّعي اليهود الفلاشا الانتساب إليها وبين ديانتها، كما بنوا على دلالة اسمها جوديث، فاعتبروها يهودية. على أي حال، فإن جوديث بغض النظر عن يهوديتها، تمكنت من إعادة السلام والنظام إلى البلاد ووقفت على مسافة واحدة من جميع الأديان".

العزلة والاضطهاد تاريخيان

لا إحصائية دقيقة حول عدد أبناء بيتا إسرائيل والفلاشا، علماً أن ثمة فرق بينهم، فهناك فئة ظلت على يهوديتها متمسكة بها، أما الثانية فاعتنقت الأرثوذوكسية تُقيّة، بينما ظلت في السر على يهوديتها، لكن بعض المصادر الحكومية تقول إن زهاء 500 ألف مواطن موزعون بين إقليمي أمهرا وتيغراي، يُعتقد أنهم يهود.

استمر اليهود الإثيوبيون في الحياة، لكن بسبب الاضطهاد والعزلة أصبحت طبيعتهم اليهودية مختلفة إلى حد كبير عن بقية اليهود في العالم، حيث يؤسس الإثيوبيون معتقداتهم على القانون المكتوب (التوراة) وبعض التقاليد الشفوية التي تنتقل من جيل إلى جيل، ولا يعرفون ما هو التلمود.

مع مرور الوقت، أصبحت الحياة اليهودية محصورة إلى حد كبير في منطقة غوندار، شمالي غربي إثيوبيا. وفي عام 1862، خرجت مجموعة منهم بحثاً عن أرض الميعاد، متجهة نحو اليمن، لكن معظمهم مات جوعاً، ومن نجوا قرروا العودة إلى الديار، لكنهم عجزوا، فأسسوا مجتمعاً صغيراً خاصاً بهم في إقليم تيغراي المجاور، وانفصلوا عن مجتمعهم الأم، فاكتسبوا لغة مُختلفة هي التيغرينية.

تقول كيبدي: "يُعتبر مجتمع غوندر الأكثر تماسكاً وتمسكاً بيهوديته، حيث وجد المزيد من الرعاية بسبب الرحالة الغربيين مثل الاسكتلندي جيمس بروس وهنري ستيرن اللذين اكتشفا يهوديته، ونقلا أخباره ومعاناته إلى يهود أوروبا الشرقية وأمريكا، ما أسهم في إنقاذه من خطر الانقراض أو الذوبان الأبدي في المجتمعات المجاورة له".

لاحقاً، مهّد هذا الاكتشاف إلى بذل المزيد من الجهود في تقديم العون والمساندة المتمثلين في الرعاية الصحية والتعليمية لمجتمعنا.

قرى خاوية وفارغة

بعد موجات الهجرة المتتالية إلى اسرائيل والتي كان آخرها في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أصبحت بعض القرى اليهودية فارغة من السكان، فقرية ويلقا فلاشا التي تقع على بعد ثلاثة كيلومترات شمالي مدينة غوندار تم تهجير جميع سكانها عبر السودان عام 1984، حتى صارت خراباً ينعق عليها البوم، قبل أن تدب الحياة فيها مجدداً بعد تولي رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي مقاليد الحكم، عندما أعلنها عام 1996 منطقة سياحية، فصار السياح يزورونها من كل حدب وصوب، من أجل مشاهدة القبور وبعض ما تبقى من منازلها والتسوّق لاحقاً من دكاكين الحرف اليدوية للسكان المحليين في المناطق المجاورة.

لا إحصائية دقيقة حول عدد أبناء بيتا إسرائيل والفلاشا في إثيوبيا، لكن مصادر حكومية تقول إن زهاء 500 ألف مواطن موزعين بين إقليمي أمهرا وتيغراي يُعتقد أنهم يهود... كُتب الكثير عن هؤلاء في سياق الحديث عن هجرتهم إلى إسرائيل واضطهادهم، لكن كيف يعيشون في إثيوبيا وكيف ينظر محيطهم إليهم؟

بالطبع، هناك كنيس واحد في ويلقا فلاشا، عبارة مبنى دائري من "اللبن" (الطين) على جدرانه فسيفساء من الرسومات باستخدام معجون ألوان مصنوع من التربة الحمراء والرماد والماء.

تقول كيبدي إن معظم سكان القرية الذين غادروها 1984 هم من قبيلة كيمينت. والقبيلة هي في الأصل، كما يقول أبناؤها، جاءت من جنوب مصر على الأرجح، رفقة بيتا إسرائيل، بعد أن ساعدتها على نقل تابوت العهد من القدس إلى كنيسة مريم صهيون في إقليم تيغراي في عهد ملكة سبأ، قبل 2500 عام.

متعة المثقفين ولعبة رجال الدين

ترى كيبدي أن مجتمعها لم يتعرض لاضطهاد ممنهج، يستهدفه بشكلٍ خاص، على الأقل هي لم تسمع ولم تر ذلك مباشرة، ربما حدث ذلك في حقب تاريخية قديمة، حيث كان هذا نسق العلاقات بين البشر في العالم كله، فالمنتصر يضطهد المهزوم ويسترقّه.

"أنا لا يمكنني أن أشعر بالحنق لما حدث في سياقه التاريخي، فالفلاشا حكموا أثيوبيا وفقاً للتاريخ نفسه، وعلى الأرجح مارسوا نفس الأمر بحق الآخرين، إلا أنني لم أر اضطهاداً يجبرنا على ترك بلدنا، لكن طالما هنالك طريقة ما تتيح لنا الهجرة إلى إسرائيل سنفعل من أجل تحسين أوضاعنا، فأهلنا الذين هاجروا إلى أرض الميعاد قبلنا، لم ينجوا من الاضطهاد، حتى أن بعضهم هاجر مجدداً إلى الولايات المتحدة الأمريكية البروتستانتية"، حسب كيبدي.

ترى كيبدي أن جميع من هم في إثيوبيا لا يشعرون بالراحة، بسبب حصار الفقر والحرب والتخلف وأنظمة الحكم الاستبدادية، فـ"لسنا وحدنا إذاً، لكننا الوحيدين الذين لدينا ما نحتج به لنبرر هجرتنا، هذا حظنا الجيد، فلنصبر عليه، كما صبرنا على حظوظنا السيئة لقرون طويلة".

"هذا كل ما في الأمر، أما بقية القصة فهي لمتعة المثقفين وألاعيب السياسيين ورجال الدين"، تختم كيبدي حديثها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image