شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
طبيبة الأسنان الجميلة والحمار المسكين وجنّة الوطن المؤجّلة

طبيبة الأسنان الجميلة والحمار المسكين وجنّة الوطن المؤجّلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 15 ديسمبر 202003:08 م

خلعتُ ضرساً كان يُزعجني. وهو ما كان يجب أن أفعله قبل زمنٍ لولا الهيبة المعجونة بالإهمال. كم ضرساً من هذا النّوع كان يجب علينا أن نخلعه، في السّياسة والثقافة والإعلام والتّعليم والرّياضة والتّجارة، منذ عقودٍ سابقةٍ« لكنّنا لم نفعل تهيُّباً منّا وإهمالاً؟ متى ننتبه، نحن الجزائريّين والعرب عموماً، إلى مرض خطير فينا هو قدرتنا على التّصالح مع الأمور المؤدّية إلى العلل والاستمتاع بالشّكوى منها، حتّى إذا أتتنا فرصة للتخلّص منها أجهضناها بالدّفاع عن المتسبّب فيها؟

لن أتخفّى وراء رومانسيّة الكلمات، فأقول إنّه سيأتي علينا حينُ قريب من الدّهر نكتشف فيه فداحةَ إجهاضنا للحراك الشّعبيّ والسّلميّ، ليس بوصفه فرصةً سياسيّةً فقط، بل بوصفه فرصةً حضاريّةً أيضاً؟

لماذا توقّفنا عن المبادرات المدنيّة التّي انتعشت في بدايات الحراك؟ ألم يكن جديراً بنا أن نحافظ على الثّمار الحضاريّة للحراك، حين كنّا شارعاً موحّداً، ونشترك جميعاً في رعايتها، حتّى تصبح ثقافةً عامّةً بيننا، رغم اختلافنا لاحقاً على المخرجات السّياسيّة؟

من تلك الثّمار الإقبال الجماعيّ على تنظيف وتزيين وتشجير الفضاءات العامّة، حتّى أنّنا كنّا ننام ونصحو على مشاهد رائعة يتباهى بها الجميع في مواقع التّواصل الاجتماعيّ، بما أشّر على أنّ المواطن باشر قطيعةً مع الأوساخ والبشاعة وفوضى الأمكنة. ثمّ فجأةً وقعت استقالة معنويّة، "فطلعت ريحتنا" من جديد، بما أشّر على أنّ علاقتنا بفعل التّنظيف علاقة سياسيّة مشروطة، وليست علاقة فكريّة ووجدانيّة لا تخضع للمعطيات الخارجيّة.

إنّه معطى على المنظومات المعنيّة بتغيير السّلوك العامّ أن تنتبه إليه، وتضع على أساس ذلك الانتباه برامجَ تهدف إلى إصلاحه بهدف الوصول إلى مرحلة لا يربط فيها المواطن حفاظه على المصلحة العامّة بمدى رضاه عن الحكومة. فهو بذلك يخسر معاً سلوكه الحضاريّ وما كان سيصيبه شخصيّاً من مساهمته في الحفاظ على تلك المصلحة العامّة.

بعد أن وضعت الطّبيبة ذاتُ العينين اللّتين تَشَرَّبَتا اخضرارَ الربيع، المخدِّرَ الموضعيَّ في فكّيّ، وطلبت منّي أن أنتظر وقتاٌ في قاعة الانتظار، أحسستُ بأنّني فقدت فمي، فرحت أبحث عنه.

ما معنى أن يمرّ ستّون عاماً من الاستقلال، مع بقاء جهل المواطن الجزائريّ في الشمال بشريك المواطنة في الجنوب، والعكس صحيح تماماً، وكأنّهما لا ينتميان إلى دولةٍ واحدةٍ ومصيرٍ واحدٍ؟

ماذا لو استيقظ الشّعب الجزائريّ يوماً، وليكن غداً، لیجد نفسَه بلا أفواه؟ هذه الأفواه التّي لا شكّ في أنّها قالت ما لا يجب أن يُقال، في الواقع والمواقع، وصمتت عمّا لا يُصمت عنه، لن تعود موجودةً. يا لها من تجربة مثيرة! ستتكيّف القواميس بالضّرورة. منها قاموس السّلطة الذي سيتخلّى عن عبارة "أدلى الشّعب بصوته في الانتخابات". فلم تعد للشّعب أفواه. أصلاً هي عبارة مغلوطة. فلو كانت سلطةً ديمقراطيةً فعلًا لقالت: "أدلى الشّعب بأصواته"؛ ذلك أنّه متعدّد في مواقفه، لا أدلى بصوته كما تريده هي أن يكون.

وسيكفّ عن الاستهزاء من يستهزئ بالشّابين صاحبَيْ الحمارين اللّذين انطلق أحدُهما بحماره من الجزائر العاصمة، بينما انطلق الآخر من إليزي، 2300 كيلومتر جنوباً، على أن يلتقيا في مدينة حاسي مسعود، 800 إلى الجنوب من الجزائر العاصمة. وهي المنطقة التّي توفّر معظم البترول الجزائري. يا لهما من شابّين ذكّيين في تمرير الرّسائل لشعب لم يعد يُحسن قراءة الرّسائل، في مقابل براعةٍ منه في إجهاضها!

فما معنى أن يمرّ ستّون عاماً على استهلاك نفط حاسي مسعود، من غير أن ننجز قطاراً سريعاً يربط شمالنا بجنوبنا؟ رغم أنّ هذا الحلم ينتعش في كلّ حملة انتخابيّة، على أفواه المترشّحين للانتخابات البرلمانيّة والانتخابات الرّئاسيّة، كان آخرَهم الرّئيسُ الحالي شفاه الله؟ أليست مباشرةُ رحلةٍ على حمارين لربط الشّمال بالجنوب أفضلَ طريقةٍ للتّذكير بهذا الحلم البسيط المعلّق؟

ما معنى أن يمرّ ستّون عاماً من الاستقلال، مع بقاء جهل المواطن الجزائريّ في الشمال بشريك المواطنة في الجنوب، والعكس صحيح تماماً، وكأنّهما لا ينتميان إلى دولةٍ واحدةٍ ومصيرٍ واحدٍ، حتّى أنّ عدد الغربيّين الذّين يزورون الصّحراء الجزائريّة أكبرُ من عدد الجزائريّين الشّماليّين الذّين يتوافدون عليها، في مقابل اعتبار المواطنين الجنوبيّين الذّين تُتاحُ لهم زيارة البحر صيفًا زاحفين؟

ما معنى أن نشاهد آلاف الزّيجات، بين أمريكيّين بِيضٍ وآخرين سُمرٍ، رغم أنّهم في الأصل من قارّات مختلفة، حتّى بات الزّواج المختلط بين البشرتين موضةً في الشّارع الأمريكيّ، بينما لم نشهد إعلاميّاً وفيسبوكيّاً زيجةً واحدةً من هذا النّوع في الجزائر، رغم أنّنا من وطن واحد وقارّة واحدة؟ بل إنّنا إذا اطّلعنا على قوائم الصّداقة في فيسبوك، وهذا معطىً اجتماعيّ غير مرصود، فإنّنا سنكتشف كونَ قوائم الفسابكة الشّماليّين تكاد تخلو من فسابكة جنوبيّين؟ والعكس موجود أيضاً.

تأمّلٌ بسيط في طقوس الاحتفال برأس السّنة الأمازيغيّة سيجعلنا ندرك أنّها كلَّها تصبّ في توطيد علاقة الإنسان بالأرض وبخدمتها والانتماء إليها. فلماذا فشلنا، خلال عقود، في تعميم رمزيّة المناسبة حضاريّاً، ونجحنا، خلال شهور، في تعميم شيطنتها سياسيّاً؟

ما معنى أن تبقى مدوّنة الدراما الجزائريّة، بعد ستّين عاماً من الاستقلال، خاليةً من مسلسل واحد فضاؤه المكانيّ مشترك بين الشّمال والجنوب؟ أمّا إذا أحصينا عدد الوجوه الجزائريّة الجنوبيّة التّي تشرف على تقديم برامجَ ونشراتٍ تلفزيونيّةٍ؛ في منابرَ تُوصف بكونها وطنيّةً، فسوف لن نحتاج لعدِّها إلى أكثر من أصابع اليد الواحدة!

فمن أولى بالاستهزاء؟ المنظومة السّياسيّة والثّقافيّة والسّياحيّة والإعلاميّة التّي عجزت عن خلق تقاربٍ فعليٍّ وفعّالٍ؛ بين شركاء المواطنة الواحدة، أم الشّابّان صاحبا الحمارين اللّذين قد يكون لقاؤهما في منتصف القارّة الجزائريّة أبرزَ تظاهرةٍ، من حيث عمق الدّلالة، تصبّ في تكريس الوحدة الوطنيّة.

من الأولى بأن يثير الشّفقة؟ الحمار المستعمل في هذه الرّحلة الرّامزة، أم المواطن الذّي يقضي أسبوعاً في حافلة غير مكيّفة، حتى يصل من وإلى الجنوب؟

حين طلبت منّي طبيبة الأسنان أن أعود، كنت غارقاً أيضاً في هذا الخيال: إذا فقد الجزائريّون جميعاً، شماليّون وجنوبيّون أفواهَهم؛ هل ستتحرّك أذرعُهم قليلاً؟ إذ علينا الاعتراف بكون أذرعنا باتت تتحرّك إلى السّماء طلبًا للدّعاء، وتكتفي بذلك، أكثرَ ممّا تتحرّك نحو خدمة الأرض طلباً للغذاء.

 لقد تحوّل ارتباطنا بالله العظيم إلى مخدّرٍ لنا وقد كان محفّزاً عند أجدادنا! فتأمّلٌ بسيط في طقوس الاحتفال برأس السّنة الأمازيغيّة سيجعلنا ندرك أنّها كلَّها تصبّ في توطيد علاقة الإنسان بالأرض وبخدمتها والانتماء إليها. فلماذا فشلنا، خلال عقود، في تعميم رمزيّة المناسبة حضاريّاً، ونجحنا، خلال شهور، في تعميم شيطنتها سياسيّاً؟ ما معنى أن يستنكر بعضُنا الاحتفالَ بمناسبة وطنيّة عميقة تحرّضنا على استغلال الأرض، ولا يُحرّك فيه نبضاً كوننا نستورد سنويًّا 10.8 مليون طنّ من القمح، 6 منها من فرنسا؟

غادرتُ قاعة طبيبة الأسنان، وأنا ألملمُ مخّي بهذا السّؤال: هل فقدتُ الإحساسَ بالألم بسبب مفعول المخدّر؟ أم بسبب غرقي في ربيع العينين؟ حيث رأيت الجنّة تطلّ منهما. فمتى نجعل أوطاننا جِناناً؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard