شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف أُقنع الغول في داخلي بأن يكفّ عن ابتلاعي؟

كيف أُقنع الغول في داخلي بأن يكفّ عن ابتلاعي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 ديسمبر 202002:17 م


  • ماذا تريد من مشاهدة الأفلام؟

    • أن أرى العالم بعين جديدة.

  • ما الذي تريده من الكتابة؟

    • أن أستمرّ في فعلها.

  • وماذا تريد من القراءة؟

    • أن أعرف وجهي.

  • ماذا تريد من الحياة؟

    • أن أستمر بالحلم.

  • وماذا تريد من الأحلام؟

    • أن أعيش.

أن أعيش الحياة بتفاصيلها المملّة، مثلاً كأن أشرب كأساً من النبيذ الأبيض على مهل وأنا أستمتع بموسيقى نصير شمه في ليلة مقمرة، من دون أن أفكر بالعالم وحروبه ومآسيه، كأن مثلاً أعثر على رسالة مخبأة في خزانة قديمة اشتريتها للتو من سوق الأدوات المستعملة، رسالة قديمة مُرسلة من امرأة مجهولة إلى رجل مجهول، يبدو من أوراق هذه الرسالة الطويلة ومن الخط الذي كُتبت به بأنّها رسالة قديمة جداً قد تعود إلى فترة ما بين الحربين العالميتين. تُظهر الرسالة أنّ المرأة كانت تنتظر الرجل في مقهى ما في برلين، أكاد أرى أخشاب الطاولات والشموع فوقها والمرأة تجلس هناك وتكتب لحبيب تنتظره منذ زمن بعيد وكأس النبيذ لم تُلمس مذ أن بدأت الكتابة، أرى أضواء البار الضعيفة والزبائن القليلي العدد في هذا البرد البرليني القارس. أرى الشارع شبه الفارغ برغم أنّ الوقت ما زال باكراً، لكنّ الظلام الذي يحلّ مبكراً في هذا الجزء من الكوكب المترافق مع البرد الذي يصل العظام، حتى كأنّ هذه العظام لم تعرف الدفء يوماً، قد جعل الناس يهربون إلى بيوتهم سريعاً.

تجلس المرأة في البار وتكتب لحبيبها الذي غاب عنها قبل سنوات طويلة، ربما بلعته آلة الحرب الهائلة، أو هرب إلى مدينة أخرى وارتبط بامرأة أخرى وهي حامل الآن بابنتهما الأولى. تجلس امرأة البار وحيدة وتفكر في حياتها، تلمس رقبتها وأذنها والقُرط الذي يزينها ببطء، وتفكر بالكلمة التي تريد أن تكتبها وبما تريد أن تقوله لحبيبها الغائب. تريد أن تقول إنّها وحيدة وإنّ الوحدة تأكل أحشاءها وإنّ في داخلها هوّة تبتلع الكون. هل تكون هوّة هذه المرأة هي هوّتي، لكن في حياة أخرى؟

الحياة في برلين تغري بالحريّة. يفعل فيها الإنسان ما يشاء من دون أن يبدو/ تبدو غريباً/ة عنها. أشعر بأنّ برلين لا تعرف الغرباء، لا يشعر الواحد منّا كذلك في مدن أخرى. في برلين أستطيع أن أكون من أشاء من دون خوف

هكذا أبعثر أفكاري. أفكر بامرأة من زمن بعيد، وأنا أنظر إلى سماء برلين الرماديّة. الموسيقى لا تفارقني. أتذكر أبي وهو يقول لي حين كنتُ مراهقاً: "يا لكَ من مثالي! في هذه الدنيا المثاليّة والأحلام لا تنفع". لكن هذه المثاليّة وهذه الأحلام أنقذتني في أيام الكورونا هذه.

لا أحتاج أحداً في هذه العزلة. في هذه العزلة التي نفتقد فيها أصدقاءنا وأحبابنا وأمكنتنا المفضلة، أحلُم. 

صحيح أنّني أشتاق إلى الحياة السابقة، أو الأحرى إلى حيوات سابقة. أشتاق، مثلاً، إلى حارة بيتنا في الشام. أتذكر نفسي عائداً إلى البيت عند ساعة الغروب في يوم رمضاني طويل، روائح الطعام الشهيّة تطير في الهواء هاربة من أسوجة النوافذ المعدن لتصل إليّ، أصوات صحون وصياح أطفال ورجال ونساء يتحدثون ويضحكون وهم يشاهدون القنوات التلفزيونيّة المختلفة. يجلس عامل التنظيفات أمام بيت أحد الجيران وأمامه طعام شهي، منحه إياه جارنا الطيب. أصل إلى البيت. العائلة مجتمعة حول المائدة. هذا كان قبل أن يهجم الخراب كذئبٍ جائع على البلاد.

أشتاق كذلك إلى حياة أخرى لم أعشها، أشتاق لحياة في رواية. ما انفكّ عن تخيّل نفسي حياً في رواية ما، أكتب مثل باقي شخصيات رواية مشغولة تفاصيلها بدقة لا نلاحظها في حياتنا اليوميّة. لكن…

لكن، يوماً إثر يوم بدأتُ أعتاد حياتي الجديدة. أفعل أشياء لم أفعلها من قبل. أتعرّف على شكل وجهي الجديد وملامحي الجديدة وعلى شخصيتي الجديدة. هذه العاديّة الجديدة أصبحت روتيني اليومي. لا أخرج من البيت إلّا من أجل الأشياء الضروريّة، أحبّ عُزلتي. أغني لنفسي، أسمع الموسيقى وحيداً، أقرأ وأقرأ وأقرأ، أكتب كثيراً عن أشياء لا تهمّ سواي، أصبحت أعيش في قوقعتي الصغيرة جداً، لا أغادرها ولا تغادرني.

الحياة تغري بالحريّة. الحياة في برلين تغري بالحريّة. يفعل فيها الإنسان ما يشاء من دون أن يبدو/ تبدو غريباً/ة عنها. أشعر بأنّ برلين لا تعرف الغرباء، لا يشعر الواحد منّا كذلك في مدن أخرى. في برلين أستطيع أن أكون من أشاء من دون خوف، ربما برلين كانت أحلى مدينة كبيرة للعيش فيها، رغم ما يقوله فرج سليمان ومجد كيّال ورفاقهما عن مدينتهم حيفا بأنّها أحلى من برلين.

 يبدو أنّ زمن كورونا قد شارف الانتهاء، فكيف نعود إلى حياتنا السابقة؟ لكن، هل نريد حقاً أن نعود إلى حياتنا السابقة أم أن ندخل في حلم جميل ونعيش فيه أو أن نغرق في تفاصيل رواية لا تنتهي؟

أستطيع أن أفعل ما أريد في برلين، مقارنة بما أستطيع فعله في مدن أخرى، لكنّني أُفضل هذه الزاوية الضيقة التي أعيش فيها، وأراقب منها العالم. أعيد فكرة قديمة لي، كنتُ قد ركنتها في زاويّة حادة في رأسي: " الأشياء الغبيّة تحتل مساحة كبيرة من الحياة وعادة ما تكون الأصوات الغبيّة عاليّة ومزعجة، خاصة حين يعتقد أصحابها بأنّهم يعرفون كلّ شيء".

حسناً أيها العالم، يبدو أنّ زمن كورونا قد شارف الانتهاء، فكيف نعود إلى حياتنا السابقة؟ لكن، هل نريد حقاً أن نعود إلى حياتنا السابقة أم أن ندخل في حلم جميل ونعيش فيه أو أن نغرق في تفاصيل رواية لا تنتهي؟

كثيرة هي الـ"لكنّ"ـات في هذا النص، وفي حياتي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image