كان ذلك في اليوم السادس من رمضان، التاسع من تشرين الأول سنة 2005. مات أخي الصغير بعد عيد ميلاده الحادي عشر بخمسة عشر يوماً.
مات بحادث سير. سيارة نقل جنود عسكريّة دهسته حين حاول اللحاق بالكرة التي سبقته إلى الشارع العام.
لاحقاً مات الجندي السائق أيضاً بذبحة قلبية، مما زاد من هول الفاجعة.
حين وصلتُ إلى المستشفى القريب من بيتنا، وكنت ثالث أفراد العائلة وصولاً وأول من سمع بالخبر، كان رجال المخابرات وعناصر الجيش والشرطة منتشرين في المكان، وبالمقابل كان الكثير من شباب حارتنا هناك.
بعد أقل من ساعة، اكتظت باحة المستشفى برجال حارتنا ممن نعرف وممن لا نعرف، جاءوا من أجل المساعدة بأيّ شيء يقدرون عليه، وكانت قوات الجيش متأهبة خوفاً من أن يتسبب موت الطفل الكردي بحدث ما في المدينة.
تفاصيل كثيرة جرت في تلك الأيام ولم يزل صداها يتردد في ذاكرتي المقبرة.
اجتمع في بيتنا العشرات من الرجال والنساء من أصدقائنا وجيراننا الأقرب بعد ساعات قليلة من الحادثة. جيراننا في المبنى الذي نحتل طابقه الثالث أعدوا لنا الطعام وأرغمونا على تناوله. آخرون اهتموا باستقبال الناس وآخرون بالقهوة المرّة.
حارتنا الكردية الشامية كانت تشبه كلّ شيء في هذا العالم، ولكنها لم تكن تشبه إلا نفسها...
كانت حارتنا إحدى الحارات التي تحمل الهويّة الكرديّة في العاصمة دمشق لكنّها كانت مختلطة بشكل كبير
في تلك الأيام، لم تكن عائلتنا مؤلفة من أشخاص يربطهم الدم فقط. كانت عائلتنا كبيرة وبيتنا كان كلّ بيوت الحارة. الحارة التي اسميها أحياناً الحارة الخرابة.
جدران بيوت هذه الحارة، التي تحتل جزءاً من الجبل المطلّ على دمشق، غير مطليّة. بيوت سكن عشوائي مبنية على عجل لا ألوان زاهيّة لها. الرماديّ هو سيد الألوان هنا.
كنّا نلعب كرة القدم في هذه الشوارع الضيّقة التي لا تكاد تتسع لمرور شخصين جنباً إلى جنب. كنا نخترع لعباً لا تكلف أهلنا الكثير. بيوتنا متلاصقة وبالكاد يعرف الغريب عنها حدود كلّ بيت، ويكاد كلّ شخص من الحارة يعرف شكل بيوت الآخرين من الداخل.
نلعب في كلّ مكان ونتعارك ونتضارب ثم نتصالح. كلّ رجال الحارة آباؤنا وكلّ نساء الحارة أمهاتنا، كلّ الشيوخ أجدادنا وكلّ العجوزات جداتنا.
كانت حارتنا إحدى الحارات التي تحمل الهويّة الكرديّة في العاصمة دمشق، لكنّها كانت مختلطة بشكل كبير. عائلات فقيرة من كلّ المحافظات عاشت هناك، عائلات فلسطينيّة وعراقيّة، طلاب، فنانون يبحثون عن فرصتهم نحو الشهرة، كتّاب مغمورون، موسيقيون لم يجدوا طريق النجاح بعد، عاشقون تائهون.
كان يسكن في حارتنا مهربو سجائر ومهربو أسلحة وعناصر مخابرات. وكان في حارتنا ممثلون ومخرجون وكتّاب ومترجمون ولاعبو كرة قدم. كان في حارتنا الكثير من أساتذة المدارس والخياطين وأصحاب الدكاكين الصغيرة وأصحاب المهن والحرف اليدويّة.
وكان في حارتنا الكثير الكثير الكثير من العاطلين عن العمل، كما عاش فيها الكثير من المشاهير والكثير من السياسيين، خاصة من الأكراد والفلسطينيين.
كان الجميع فقراء، عائلات كثيرة تعيش تحت خط الفقر رغم أنّ الحكومة تعتبرها من الطبقة الوسطى. ورغم أنّ أفرادها لا يعتبرون أنفسهم فقراء.
تاريخ حارتنا حافل بالأحداث، كانت خارج دمشق حين كانت الغوطة تحيط بالعاصمة فتخاف قوات الأمن الاقتراب من المنطقة وكان "كبارية" الحارة هم من يحلون المشكلات العالقة، ولكنها أصبحت في قلب المدينة حين امتد الاسمنت ودمّر الغوطة وأصبحت عناصر الأمن والمخابرات تتغلغل بين بيوت هذه المنطقة.
حارتنا كانت تشبه كلّ شيء في هذا العالم، ولكنها لم تكن تشبه إلا نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...