شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"في أسئلة براسي"... عن مدن تُفارقنا "على السكت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 ديسمبر 202001:20 م

منذ أن صدر الأسبوع الماضي، الأحد السادس من كانون أوّل/ ديسمبر 2020، ألبوم "أحلى من برلين" كلمات مجد كيّال وموسيقى فرج سليمان، وأغنية "في أسئلة براسي"  تدور في فلكي. على فيسبوك أو الواتساب، صديقة تشاركها من هنا، وأخرى تنصح بها من هناك، تتكلّمان عن ملامسة الأغنية حب مدننا ووجع الغربة الذي نعيشه هنا وهناك. الأغنية جميلة جداً، فيها لطفُ حميمّي و"نغاشة" فلسطينية، فيها برلين ملاذ العديد من الشباب اليوم. فيها حيفا، المدينة التي لا أعرفها ولكنّها في صميم مخيّلتنا الجماعية. وفيها لعبٌ على وتر حساس، علاقتنا بمدننا، أو الأصح بالنسبة لي هروبنا منها. وبطبيعة الحال كلبنانية يدور الكوكب من حولها، سرقْتُ أغنية فرج ومجد الفلسطينية وأدخلتُها عالمي.


بكلمات خطّها مجد، يغنّي فرج على وقع البيانو لمدينتهما حيفا الـ"أحلى من برلين" ويسأل بلهجته الجميلة عن الشوارع والأشخاص وآخر الأخبار وقصص أهل الحارة. وأنا، بحزنِ جنوبيةٍ سكنت بيروت معظم حياتها، أستمع الى هذه الأغنية وأشعر بالأسى، مكمّلة بذلك عهد أمي بالبكاء على الأطلال أينما ذهبت ومهما كبرت. فلا حارة بقيت لي في بيروت ولا أخبار أسأل عنها. أفتّش عن ذاكرة المكان والناس، لكن هناك الكثير من الألم، وبعض أشباحٍ لأشخاص وذكريات تصارع للبقاء. في الحقيقة فقدَتْ مدينتي ما كان يربطني بها: تفاصيل الحياة اليومية. لم أعد أذكرها. هجرتني منذ مدة، وذكّرتني أغنية فرج ومجد بخسارتي. 

يصرّح مجد وفرج أنّ هذه الأغنية وألبوم "أحلى من برلين" هما عن كل ما يحبّانه بهذه الحياة: حيفا. وأنا أحاول أن أهرب من كل ما أحببت بالحياة: بيروت. يحكيان عن التفاصيل التي تربطهما بهذه المدينة: عن الحارة ومقهى فتّوش والحي الألماني وحمودة وحسن، عن أهل الحارة ونميمتهم وتجاربهما العاطفية.

فلا حارة بقيت لي في بيروت ولا أخبار أسأل عنها. في الحقيقة فقدَتْ مدينتي ما كان يربطني بها: تفاصيل الحياة اليومية. لم أعد أذكرها. هجرتني منذ مدة، وذكّرتني أغنية فرج ومجد بخسارتي

أعيد الأغنية مراراً... جميلة هي، ترسم حيفا كما عرفتها عبر أصدقائي من حيفا والناصرة وعكا والطيبة الذين التقيت بهم هنا في برلين. زرتها مراراً في قصصهم. أعرف فتّوش وحي وادي النسناس ووادي الصليب منهم، ورسمتُ لهذه الاماكن صور بمخيّلتي كما أحب. أجتمع هنا مع أصدقاء من مدن وقرى عربية مختلفة أُجبروا على ترك حياتهم هناك واللجوء إلى برلين. الكل يبحث عن منزل له، ربما عن مكان يشبه مدينته. البعض تطارده أشباح ماضيه، والآخر يحاول بناء ذاكرة جديدة. وأنا أهرب من مدينتي.

هما عن كل ما يحبّانه بهذه الحياة: حيفا. وأنا أحاول أن أهرب من كل ما أحببت بالحياة: بيروت.

أسمع الأغنية ولا أستطيع إلّا ان أسأل نفسي عمّا تبقّى لي من بيروت لأحكي عنه. لم تعد لدي حتى رومانسية ساذجة تربطني بصور جميلة من المدينة: فحارتنا لم تعد "تبكي كل ما كان طلعة عروس"، حاراتنا "بتقّوصّ بالهوا لمّا تطلع العروس" وأحياناً بتقتل كذا حدن. وحسن ما "عم بخزّق عجال الي أخدله الصفة". إذا شي حسن عم يخزّق جسم الي أخدله الصفة. صحيح أنّ مجد وفرج يحكيان عن مشاكل فلسطين من احتلال واستيطان وهجرة ورأسمالية، لكنّهما متماهيان تماماً مع مدينتهما بجمالها وقبحها، ببساطتها ووحشيّتها. تماهٍ أحسده، فأنا لأوّل مرة لم أعد أعرف مدينتي، لم أعد أشتهيها وأحسّ منذ مدة بأنني أودّعها ببطء و"على السكت" خاسرة آخر ما كان يربطني بها. 

أستمع مجدداً الى الأغنية وأفكّر... عماذا يمكنني أن أحكي؟ عن الطابع البريدي الذي صدر قبل مدّة ليخلّد لحظة انفجار وقتلنا المتعمّد أو حقيبة اليد المصنوعة من زجاج سرديّات أمواتنا. عن الليرة وسرقة أموال الناس وإذلالهم أمام المصارف وإفقارهم عن سابق إصرار وتصميم، عن أصدقائي الذين أخاف الاتصّال بهم وأنا المختبئة في الخارج. عن أهلي وأصحابهم الذين نُهبت حياتهم وما زالوا يتكلّمون عن العيب والمسبّات وإعطاء الفرص. من الممكن أن أحكي عن نكات ارتفاع سعر المنقوشة المجنون ومهزلة بسكويت ماري روز بالأشرفية. أو عن قصصنا الشخصية المبعثرة هنا وهناك والتي نحاول لملمتها وحملها معنا أينما ذهبنا.

أستمع مجدداً الى الأغنية وأفكّر... عماذا يمكنني أن أحكي؟ عن الطابع البريدي الذي صدر قبل مدّة ليخلّد لحظة انفجار وقتلنا المتعمّد أو حقيبة اليد المصنوعة من زجاج سرديّات أمواتنا؟

أضع السمّاعات وأمشي وحدي في شوارع برلين شبه الفارغة. أهرب من بناتي والكورونا وذكرى بيروت. أعيد الأغنية وأسمعها مع أغنية أخرى لفرج، "إسّا جاي"... أحب هذه الأغنية المعلّقة وغير المكتملة، مثل حياتي وعلاقتي بمدينتي. هناك تداخل بين جمال وانسيابية اللحن والكلمات المفقودة التي أحاول التقاطها من دون جدوى، ومع ذلك تعطيني مساحة لإكمال الأغنية بكلماتي وقصصي وأفكاري كما أشاء. تتكامل الأغنيتان معاً، واحدة تلو الأخرى، الأولى تحاول الوصول إلى ذاكرتي والثانية تعيد رسم خيوط جديدة.

أكمل طريقي وأفكّر: أنا لم أعد أجد ما أحب في مدينتي. فرج ومجد ذكرّاني بهذا الشيء. لهما أقول: صحيح "شوي بتوجّع برلين"، بس مدننا أحياناً بتوجّع أكثر. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image