في إحدى ليالي ربيع العام 1949، دخل قائد الجيش السوري، حسني الزعيم، إلى القصر الجمهوري، وتوجه إلى السيد عبد الله الخاني، مدير مكتب الرئيس شكري القوتلي، طالباً موعداً مستعجلاً. ردّ الخاني أن الرئيس "مشغول" وسأل الزعيم إن كان بإمكانه توصيل رسالة له. قال الزعيم: "أولاً، بدّي خبر فخامة الرئيس أنو الدبابات يللي وصينا عليها وصلت".
هز الخاني برأسه وسجّل الملاحظة، ثم أضاف الزعيم: "وأريد أن أعطيه هدية"، وأخرج من جيبه قلماً ثقيلاً ووضعه في يد الخاني. سأل الأخير: "ما هذا القلم"، فأجابه الزعيم: "هو ليس قلم بل مسدس مخفي، هدية لرئيس الجمهورية لكي يتمكن من حماية نفسه من أي مكروه". رده الخاني بانزعاج، قائلاً إن الرئيس القوتلي لا يحب هذه التصرفات، وهو على يقين أن الحامي هو رب العالمين، ثم نظر إلى الزعيم وقال: "الله يجيرو منك"
.
الانقلاب
تذكر الخاني هذه الحادثة بعد مرور سنوات طويلة قائلاً: "لعنة الله عليه... تلك الدبابات ذاتها استُخدمت لاحتلال دمشق بعد أيام قليلة، ولاعتقال الرئيس شكري القوتلي". عشية الانقلاب، يوم 29 آذار 1949، أمر حسني الزعيم بوضع الرئيس القوتلي في سجن المزة، مع رئيس الحكومة خالد العظم، ثم قام بنقلهما إلى مستشفى الشهيد يوسف العظمة في حي المزة.
فكر الخاني جدياً بترك الوظيفة الحكومية، التي لم يكن يسعى لها في حياته، بل قبلها تحت إلحاح الرئيس القوتلي. كان القوتلي قد عيّنه موظفاً في القصر بتزكية من رئيس جامعة دمشق، الدكتور سامي الميداني، نظراً لضلوعه باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وكلّفه بمتابعة مباحثات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين، وإبداء الرأي بقرار التقسيم. ثم صار يعتمد عليه كثيراً في إدارة شؤون القصر، في كتابة الخطابات ومتابعة شؤون المكتب الصحفي.
طلب الرئيس حافظ الأسد من عبد الله الخاني تأسيس وزارة السياحة السورية، بعد أن كانت مديرية تابعة لوزارة الاقتصاد، وسُمّي أول وزير للسياحة في حكومة محمود الأيوبي
كان عبد الله الخاني ابن عائلة مرموقة، والده إمام الطريقة النقشبندية في سورية. تولى مناصب قضائية في جنين وحمص والزبداني في ريف دمشق. ولد سنة 1922 ودرس في مدرسة الفرير وفي الكلية العلمية الوطنية بسوق البزورية، مع صديقه نزار قباني، والتحق بجامعة بيروت الأميركية، قبل أن يُكمل دراسته بجامعة دمشق حيث نال شهادة في الحقوق. تتلمذ على يد البروفيسور المؤرخ قسطنطين زريق، وعمل في مطلع حياته في مكتب المحامي نعيم أنطاكي، أحد رموز الحركة الوطنية في سورية، وأراد العودة إلى ممارسة المحاماة سنة 1949، بعيداً عن حسني الزعيم وحكمه العسكري.
ولكن عهد الزعيم لم يدم إلا أربعة أشهر، وسقط بانقلاب عسكري في 14 آب 1949، نفذه اللواء سامي الحناوي، أحد رفاق الزعيم. أكمل الخاني عمله في القصر، وفي سنة 1953 أرسله الرئيس أديب الشيشكلي إلى فرنسا لدراسة شؤون المراسم في النظام الجمهوري، ثم إلى بريطانيا لدراستها في النظام الملكي. وقد تدرج في المناصب الإدارية ليصبح مديراً للبروتوكول، ثم أميناً عاماً بالوكالة في عهد الرئيس هاشم الأتاسي الذي أحب عبد الله الخاني كثيراً ووثق به، نظراً لأمانته وصدقه وتفانيه بالعمل.
وعند إعادة انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية، نظّم الخاني عملية انتقال السلطات بينه وبين الرئيس الأتاسي، على الطريقة الفرنسية. كما اشترك معه في كافة اجتماعاته التي تمّت مع قادة ورؤساء العالم، مثل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الهندي جواهر لال نهرو، الملك سعود بن عبد العزيز، الحسين بن طلال ملك الأردن وداغ هامرشولد، أمين عام الأمم المتحدة، واشترك أيضاً في مفاوضات الوحدة السورية التي أدت لولادة الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958. وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تم نقله إلى ملاك وزارة الخارجية وعين في أماكن عدة، منها بروكسل ولندن وباريس.
أمضى الخاني سنوات التقاعد في الكتابة عن تاريخ سورية الحديث، وكان أول كتاب له عن حياة الرئيس شكري القوتلي، تلاه كتاب عن سنوات عمله في الأمانة العامة للرئاسة السورية بعنوان "سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي"
في وزارة الخارجية
عمل أيضاً مع منظمة اليونيسكو، وتعرف على العديد من قادة دول العالم الذين تعلم منهم الكثير، مثل رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، الرئيس الفرنسي شارل ديغول واليوغسلافي جوزيف تيتو. وقد أُلحق بوفد سورية الدائم في الأمم المتحدة خلال حرب 1967، وعُيّن أميناً عاماً لوزارة الخارجية سنة 1969. وبعد وصول الرئيس حافظ الأسد للحكم، شارك في مفاوضاته مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في دمشق سنة 1974، ومع الرئيس جيمي كارتر في جينيف سنة 1977.
الخاني وزيراً
طلب الرئيس حافظ الأسد من عبد الله الخاني تأسيس وزارة السياحة السورية، بعد أن كانت مديرية تابعة لوزارة الاقتصاد، وسُمّي أول وزير للسياحة في حكومة محمود الأيوبي، يوم 23 كانون الأول 1972. وقد حافظ على منصبه حتى صيف العام 1976، وتخللت ولايته حرب تشرين عام 1973، وشهدت افتتاح فنادق الميريدان، ووضع أساسات فندق الشيراتون ومحاولة فتح فندق هيلتون دمشق.
في المحاكم الدولية
انتُخب عبد الله الخاني عضواً في محكمة العدل الدولية في كانون الثاني 1980، وفي الهيئة الدولية للتحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، ابتداء من العام 1990. كما تم انتخابه عضواً مستقلاً في مجلس التحكيم الدولي في مجال الرياضة، وكان حكماً في كل دورات الألعاب الأولمبية، منها في مدينة أتلانتا الأميركية سنة 1996، وفي عام 1993، أصبح عضواً في المركز الدولي للتحكيم التجاري في البحرين، وفي المحكمة الدستورية لاتحاد البوسنة والهرسك، من عام 1993 وحتى سنة 1999. ظل يعمل في التحكيم الرياضي حتى عام 2014، عندما اعتذر عن الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي بسبب تقدمه في السن.
سنوات التقاعد
الخاني :"يوم العرس، كنت مع فخامة الرئيس القوتلي في حلب لحضور افتتاح مهرجان، ودعوته إلى الحفل ظناً أنه لن يحضر، ولكنه جاء للمباركة ومعه كافة أعضاء الحكومة السورية. فرح الناس برئيس الجمهورية... ونسيوا العريس"
بدأ خلالها عبد الله الخاني بوضع مذكراته وكتبه عن تاريخ سورية الحديث، وكان أولها كتاب عن حياة الرئيس شكري القوتلي بعنوان "جهاد شكري القوتلي"، الذي صدر في بيروت سنة 2003. تلاه كتاب عن سنوات عمل الخاني في الأمانة العامة للرئاسة السورية، بعنوان "سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي"، صدر في بيروت 2004، وكتاب ثالث عن تجربته في وزارة السياحة بعنوان "ولادة السياحة في سورية"، أيضاً في بيروت 2008.
أما عن سنواته في وزارة الخارجية، فقد نُشرت في كتاب بعنوان "مهمات سياسية ودبلوماسية" في عام 2009، وجاء كتاب "المحاكم الدولية والحضور السوري والعربي" الذي صدر في لبنان سنة 2009، وتحدث فيه عبد الله الخاني عن عمله في محكمة العدل الدولية. وفي سنة 2017 أصبح كبير مجلس حكماء مؤسسة تاريخ دمشق، حتى وفاته صباح يوم 7 كانون الأول 2020.
وكانت الخاني قد ودّع زوجته أمل إبراهيم باشا، من أشهر المُحسنات في مدينة دمشق، التي توفيت قبله بأشهر قليلة، في نيسان. وكان يستذكر عرسهما وهو يضحك قائلاً: "أمل خانم من عائلات حلب المرموقة. يوم العرس، كنت مع فخامة الرئيس في حلب لحضور افتتاح مهرجان القطن، ودعوته إلى الحفل ظناً أنه لن يحضر، ولكن القوتلي جاء للمباركة ومعه كافة أعضاء الحكومة السورية. فرح الناس برئيس الجمهورية... ونسيوا العريس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...