لم تعد قصة الأطفال عن الأم التي تطهو لأطفالها حساء الحجارة قصة خيالية، فمنذ فترة تناقلت الأخبار قصة امرأة كينية طبقت القصة على أرض الواقع.
هناك نسخ متعددة من القصة، تختلف تفاصيلها حسب البيئة والمكان الذي يقاربه الراوي، ولكن مهما حُوّرت القصة تبقى تيمتها الأساسية هي الجوع والفقر والعوز.
تتكرر القصة في أماكن كثيرة بالتأكيد، ولكن لا يتواجد شاهد في كل مكان ليرويها، كذلك لم يعد هناك قصص غرائبية، فالواقع يوماً بعد آخر يتحول إلى شيء شبيه بالأساطير أو ما قرأناه في كتب التاريخ، رغم عدم دقة معظمها، ولكنها حقيقية جداً في توصيف ما يحلّ بالبشر في عصور الانحدار التي كنا نطالعها قبل أن نعايشها عن قرب.
ربما لا تطهو الأمهات في سوريا حساء الحجارة كما ورد في القصة تماماً، ولكن قصص الجوع اليوم تنتج مفرزات أكثر سوءاً وقسوة.
ربما لا تطهو الأمهات في سوريا حساء الحجارة كما ورد في القصة تماماً، ولكن قصص الجوع اليوم تنتج مفرزات أكثر سوءاً وقسوة.
وإذا كانت قصص الفقر المحلية سابقاً تتمثل في أرملة ربت أبناءها على "المعكرونة المسلوقة" كطبق يومي، فهذا الطبق يكلف اليوم أسرة لديها ثلاثة أطفال حوالي نصف راتب موظف لشهر، كذلك قصص الأمهات اللواتي أطعمن أبناءهم الماء والسكر على أنه زبدة وعسل لا تتطابق مع الواقع الحالي، فحتى السكر اليوم لم يعد متاحاً للجميع، والخبز يعاني أزمة غير مسبوقة تستدعي الوقوف لساعات طويلة قبل الحصول عليه.
وإذا كانت حيل التدبير القديمة لم تعد مواكبة لأيامنا الحالية، فكذلك الأمثال الشعبية المتداولة عن التقشف تبدو وكأنها فقدت مغزاها، فالمثل الشعبي القائل: "إذا فاتك الضاني عليك بالحمصاني"، كناية عن أكل الحمص في غياب اللحم، لم يعد مثلاً واقعياً، باعتبار أن البقوليات لم تعد حبوباً رخيصة، وأطباق مثل " المسبحة" و"الفلافل" لم تعد "وجبات شعبية" بعد اليوم.
دائماً في أزمنة الجوع يتم الاستغناء عن بعض المكونات، فأول وصفة للمجدرة وردت في "معجم المآكل الدمشقية " للبغدادي عام 1226، كانت مكونة من العدس والأرز واللحم، وكانت تقدم في الولائم، بينما الوصفة التي وصلت إلينا لا تحوي لحماً، كذلك فإن الزيادة في أسعار البرغل والعدس لا تجعل وصفها كوجبة رخيصة وصفاً معاصراً، كذلك تم الاستغناء عن إضافة المكسرات إلى الأطباق بعد أن كانت مكوناً أساسياً ضمن مقادير وصفات الطبخ التقليدية.
تبدو الأمثال الشعبية المتداولة عن التقشف وكأنها فقدت مغزاها، فالمثل الشعبي القائل: "إذا فاتك الضاني عليك بالحمصاني"، كناية عن أكل الحمص في غياب اللحم، لم يعد مثلاً واقعياً، باعتبار أن البقوليات لم تعد حبوباً رخيصة
وإذا كان الليمون عنصراً هامشياً لا تتداوله أحاديث الشكوى اليومية عادة، فقد ارتفعت مكانته اليوم بين الحمضيات الباهظة الثمن ليصبح حديث الشارع، لا توجد أمثال شعبية حتى الآن لتخليده كمنتج مرتبط بالترف، ولكن ارتفاع ثمنه أنتج خططاً بديلة للاستغناء عنه، كالاتجاه إلى الحصرم وتحضير عصيره يدوياً لاستخدامه كبديل عن الليمون، الأمر الذي لم يكن شائعاً سوى عند الجدات وفي بعض القرى.
رغم أننا اليوم في موسم الفواكه الصيفية كالكرز والمشمش، وهو موسم "المربيّات" عادة للأسر السورية، فقد بدأ هذا التقليد بالتلاشي، كما أن "المكدوس" المعترف به كمونة أساسية للشتاء، بدأت مكوناته بالتغير، فبدأت النسوة بالاستعاضة عن الجوز مرتفع الثمن بالفستق، الذي بدوره تم الاستغناء عنه اليوم تماماً، لتصبح الحشوة مقتصرة على الفليفلة الحمراء، كذلك تحضير الحلويات المرتبطة بالعيد، كالمعمول مثلاً، أصبح مقتصراً على الأسر الميسورة.
تنتشر اليوم في شوارع دمشق لافتة إعلانية لمشروب غازي محلي غاية في الابتذال، ولكنها في الواقع التوصيف الأصدق لكل ما تؤول إليه المعيشة اليوم، تتوضع عبارة "مرجوعك لعندها"، وهي عبارة عامية سوقية نوعاً ما، بخط كبير وإلى جانبها تتصدر زجاجة المشروب المحلي، وتتوارى خلفها علبة بيبسي صغيرة، دلالة على أنك ستضطر لشراء هذا المنتج المُعتَرِف ضمنياً برداءته لأنه ليس بإمكانك تحمل سعر بيبسي المرتفع، يوحي الإعلان بما يشبه التهديد بأنك ستستهلك أي شيء رديء لأنك مضطر لذلك.
الاستغناء عن المنتجات الجيدة لصالح أنواع رديئة، لعدم القدرة على تحمل تكاليف الأنواع الجيدة هو الشائع اليوم، سواء مواد أساسية أو ما يُعتبر كماليات، فحتى الدخان يشهد أزمة لعدم قدرة الناس على تحمل الارتفاع الهائل في سعر الأنواع الجيدة، لتتشكل طوابير أمام مراكز توزيع الأنواع المحلية أطول من طوابير المواد الأساسية.
كذلك أشكال البيع آخذة في التبدل، فإذا كان الناس قد اعتادوا في السابق على الشراء بكميات كبيرة، ولم يكن شكل البيع بعدد الحبات أو "الحزوز"، كحز بطيخ مثلاً، شيئاً شائعاً، فإنّ بعض الأسواق بدأت بتسعير الفواكه والخضراوات بالحبة، لأن سعر الثمرة الواحدة اليوم يعادل سعر كيلو منها مسبقاً.
الأسعار في ارتفاع غير منطقي، فقبل شراء أي منتج غالباً على البائع إجراء اتصال لمعرفة السعر الجديد، وكأننا هنا أمام بورصة من نوع آخر غير المتعارف عليه، بورصة نملك براءة اختراعها، بورصة للخبز والليمون والسكر.
في ظل كل هذه الكثافة السكانية السائرة في طريق المجاعة والعوز والاستغناء، لازالت "المولات" صامدة ومزدحمة، تدعمها طبقة وحيدة تعيش أفضل أيامها، وسط هذا الانحدار المطبق بخناقه على الشعب، فكما هو الحال دائماً، الرابحون الوحيدون في أزمنة الجوع هم "أثرياء الحرب"
هذه اليوميات تفرض على الناس أن يصبح تأمين قوت اليوم هو قضيتها الأساسية، ليصبح سقف التفكير محصوراً في تأمين وجبة اليوم، أو البحث عن أنواع أرخص ثمناً، ضمن بورصة للاستغناء، تستوجب أثماناً ترتفع يوماً تلو الآخر، لتصل، في أقصى درجاتها قتامة، إلى تفكير الإنسان في بيع كليته أو بيع نفسه.
في ظل كل هذه الكثافة السكانية السائرة في طريق المجاعة والعوز والاستغناء، لازالت "المولات" صامدة ومزدحمة، تدعمها طبقة وحيدة تعيش أفضل أيامها، وسط هذا الانحدار المطبق بخناقه على الشعب، فكما هو الحال دائماً، الرابحون الوحيدون في أزمنة الجوع هم "أثرياء الحرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...