في مقهى مطل على النيل بجوار مبنى الإذاعة والتلفزيون، التقيتها، سيدة مريحة الملامح، هادئة الصوت، واثقة النبرة، إذا رأيتها أو سمعتها، فستحب جلستها، لكنك لن تتخيل أنها إحدى الناجيات من اغتصاب وحشي.
هانيا مهيب، مصرية ثلاثينية، تسكن في القاهرة، كانت ضحية نوع من الانتهاك الجنسي لا تعتبره المؤسسات القانونية في مصر اغتصاباً، هو الاغتصاب من الشرج أو باستخدام آلات الحادة وأصابع داخل الأعضاء التناسلية الأنثوية.
في الذكرى الثانية لثورة يناير، كانت هانيا، تتجول بحرية وتطالب مع أخريات بحقوقهنّ، وحريتهن النفسية والاجتماعية والجسدية، لكن فجأة وجدت نفسها محاصرة بين دائرة من الرجال ينهشون ما طالته أيديهم منها، ليُمارس عليها كل أنواع الانتهاك بالطرق التي ذكرناها.
"نهاية النور وبداية الظلام"
كانت هانيا تحتمي بالأرض، وتحت أرجلهم كانت تحتضن جسدها، وهي لا تزال تحافظ على كل بقعة ألّا تمسّها أيديهم، تقول لرصيف22: "لحظة فقدت قدرتي على حماية نفسي، كان ذلك قبيل المغرب بدقائق، نهاية النور وبداية الظلام، كانت المجموعة تحوطني، فجأة أصبحت عارية، ومسلوبة من أي قوة أستطيع بها حماية جسدي، حاولت الاستنجاد، لكني طُرحت أرضاً ثم أكملت الأيدي وضع بصماتها على كل بقعة من جسدي".
تضيف هانيا، وهي إعلامية مخضرمة تسكن في القاهرة: "حينما وقعت كان أحدهم يشتمني ويطلب مني أن أقف. الذي حماني هو شخص أمسك بكتفي من الخلف، كان يبكي ويقول اتركوها، كنت أرتعش عارية من برد يناير ومن الانتهاك، حينما تم حملي إلى سيارة الإسعاف كانت الأيادي، تكمل انتهاكها في هذه الأمتار القليلة".
حاصرها مجموعة من الرجال، اغتصبوها من الخلف، وأدخلوا أصابعهم في عضوها التناسلي، واستخدموا آلات حادة، وبعد خضوعها للعلاج النفسي، تطالب بتغيير القانون، الذي لا يعتبر تلك الاعتداءات اغتصاباً
عند هذه اللحظة تنفجر هانيا حينما سألها أحد المعتدين عن سبب مجيئها للميدان، لتخبره أنها تريد أن ترى بلدها نظيفة، لا يضطر أن يعتاش أمثاله من الاعتداءات الجنسية على النساء، أما المسعف والطبيب فكانا يبكيان لحالتها.
على مدار عامين عاشت هانيا وهي تحاول أن تستجمع قواها، لكن كوابيس كانت تطاردها طوال الوقت، تقول: "يتكرر المشهد وأشاهده كما لو لم أكن أنا، كأنني شخصاً غيري"، إضافة إلى أيام عديدة تحاول معافاة جسدها من الكدمات الزرقاء، والحمراء بكل مكان حتى وجهها، وتضيف: "عندما عدت إلى المنزل تفحصت جسدي، لم يكن به مكان لا توجد به كدمة".
تعتبر هانيا قدرتها على الحديث حول الاعتداء "انتصاراً شخصياً".
ويبدو أن الآلام النفسية استغرقت وقتاً حتى تخرج بصورة علنية، تقول هانيا: "لم أشعر بتروما، إلا بعد الواقعة بعامين، وقتها أحسست بغضب شديد لأني أريد رد الضربة، أريد أن أثبت أني قوية"، إضافة إلى خوفها الشديد من الزحام، رغم أنه مكون أساسي للقاهرة، لكنْ له أبعاد أخرى الآن داخل نفسيتها.
خضعت مهيب، بعد تلك الواقعة إلى تأهيل نفسي بمركز النديم، كما دعمها المجلس القومي للمرأة بقيادة السفيرة ميرفت تلاوي، بدعوة للمؤتمر العام بنيويورك للحديث عما حدث، والمطالبة بتغيير القانون، وتختم مهيب كلامها: "أريد رد اعتبار شخصي".
القانون المصري والاغتصاب
"العقد شريعة المتعاقدين" كما يقال، فجميع الناجيات من هذا النوع من الاغتصاب ( إدخال العضو في الفم، أو الشرج، أو استخدام الآلات الحادة والأصابع) يعتبرهم القانون الدولي ضحايا اغتصاب من نساء أو أطفال أو ذوي احتياجات خاصة، يلجأ مغتصبوهم إلى هذا النوع ليفلتوا من العقاب. منظمة الصحة العالمية عرّفت "هتك العرض" بأنه تلامس دون اختراق للفرج أو الشرج، أما القانون المصري فيعتبر كل ما عدا الإدخال في العضو التناسلي "هتك عرض" مما يخفف العقوبة على الجاني، ويفلت منها أحياناً، رغم أن الفعل واحد، وتمتد العقوبة من 3 إلى 7 سنوات بدلاً من المؤبد أو الإعدام.
قصور بالغ في تعريف الجريمة، ولا يتناسب مع طبيعة الاغتصابات الفردية أو الجماعية.
رضا الدنبوقي، وهو مدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، قال لـرصيف22 إن "تعريف الاغتصاب الجنسي ينبغي أن يكون "هو كل فعل نشأ عنه إيلاج أو إجبار على الإيلاج سواء تم بالأعضاء الجنسية أو باستخدام أدوات أخرى، عبر المهبل أو الشرج أو حتى بإيلاج العضو جنسي عبر الفم وكان ضد رغبة المجنى عليه سواء كان ذكراً أو أنثى"، لكن مادة 267 من قانون العقوبات المصري، عرّفت جريمة الاغتصاب بأنها "إيلاج العضو الذكري بمهبل الأنثى" مما يترتب عليه قصور بالغ في تعريف الجريمة، ولا يتناسب مع طبيعة الاغتصابات الفردية أو الجماعية المرتكبة.
أما المحامي أشرف عبدالخالق فيشير إلى عوار آخر في القانون يتعلق بعمر الفتاة المغتصَبة، أشرف محامٍ لعائلة فتاة من أم لبنانية وأب مصري، فضل عدم ذكر هويتها لأنها تخضع للعلاج من آثار الاعتداء، ولا تزال تتعافى نفسياً من واقعة اغتصابها، يقول لرصيف22: "حدث ذلك العام الماضي، بمدينة في محافظة الدقهلية ،كانت الفتاة قاصراً بعمر الـ17، تعرفت إلى شاب لم يكن من طبقتها الاجتماعية، واستغل غياب الأب والأم وذهب إلى بيتها، هددها ثم اغتصبها من الخلف، ولخوفها الشديد لم تخبر أحداً، وفي اليوم التالي عاد ليكمل ما فعله واغتصبها من الأمام والخلف، ما دفع الفتاة إلى أن تخبر أبويها".
ويضيف عبد الخالق: "تعرضت الفتاة وقتها لتوبيخ شديد من أبويها، لكنهما ذهبا بها إلى المستشفى لاستخراج تقرير طبي أثبت فض غشاء البكارة وجروحاً ونزيفاً في الشرج. تم القبض على الشاب وحكم عليه بـ3 سنوات فقط وذلك لأن الجريمة اعتبرت هتك عرض فقط، لأن سن المغتصبة أقل من 18 عاماً، فاعتبرتها المحكمة فتاة وليست امرأة، إضافة إلى أن مركزنا يتعامل مع 4 قضايا أخرى من هذا النوع، وإذا استمر القانون دون تعديل فستضيع حقوق الفتيات المغتصبات".
دول عديدة سنت قوانين تُجرم الاغتصاب بكل أشكاله، مثل فرنسا التي تصل عقوبة الاغتصاب فيها إلى السجن مدى الحياة، وأيرلندا التي قسمت الاغتصاب نوعين في قانونها الجنائي، معتبرة أن اختراق المهبل أو الأعضاء الأنثوية بأي جسم غريب هو اغتصاب تصل عقوبته للإعدام.
الأزهر يرفض التعديل
مركز النديم لعلاج الناجيات من العنف الجنسي تولى التأهيل النفسي لـ9 من الناجيات من الاعتداءات الجماعية بميدان التحرير، وأصدر كتاباً يحوي شهادات (بدون أسماء) وتحليلاً لوقائع العنف الجنسي لحالات لجأن إلى المركز من عام 2007 إلى عام 2014، حصلت رصيف22 على نسخة ورقية منه، حيث أكد أنه من 162 حالة تعرضت 22% للاغتضاب الجماعي و20.6% للاغتصاب الزوجي و15% للشرجي.
وتعلق د. ماجدة عدلي، وهي من مؤسسي "النديم"، قائلة إنهم خاضوا مع عدد من هيئات ومؤسسات المجتمع المدني المصري تسمى "قوة العمل"، حرباً ضروساً من أجل تعديل قوانين العنف الجنسي ومواد قانون العقوبات والجنايات المرتبطة بأفعال الاعتداء الجنسي.
وتضيف عدلي في حديث لرصيف22 إن مطالبتهم بتعديل أنواع الاغتصاب "اصطدمت بالأزهر ووزارة العدل اللذين أصرا على أن الاغتصاب هو فقط إيلاج مهبلي ضد إرادة الأنثى، مما يجعل كل الممارسات الأخرى هتك عرض".
تقول عدلي أن مؤسسة "النديم" وعدد من هيئات المجتمع المدني خاضت حرباً لتعديل قوانين الاعتداء الجنسي، ولكن المطالب اصطدمت بالأزهر ووزارة العدل، اللذين أصرا على أن الاغتصاب هو فقط "إيلاج مهبلي ضد إرادة الأنثى"
لم يكن هذا النوع من الاعتداءات معتاداً، لكن ما جعله يطفو على السطح هو ما حدث بميدان التحرير عام 2013، بحسب عدلي، حيث تم الاعتداء بالآلات الحادة والعصي والأصابع على المتظاهرات بالميدان. وبخلاف هذه الواقعة، تعامل مركز النديم مع متضررات كثيرات من هذا النوع مثل زوجات، لم يعرفن أنه اغتصاب، وأطفال. وأشهر قضية تولاها "النديم" هي قضية "أطفال المعادي" عام 2004 ضد مدرس اعتدى على أطفال بعمر الرابعة وكانت لديهم أعراض حادة وتحولت لقضية رأي عام.
وتأخذنا عدلي إلى قصة شابة كانت بعمر الـ16، تنتمى إلى منطقة على أطراف القاهرة الكبرى، تزوجت وهي قاصر وكانت المعاشرة الزوجية من الخلف، ولم يكن لدى الفتاة أي معلومات عن المعاشرة، فحدثت لها آلام شديدة، وصلت إلى حد نزيف شرجي وجروح.
"اغتصاب مختلف عن المعتاد"
"8 سنوات من الظلم يعاملني الجميع كما لو كنت مجنونة"، تقول شيرين ناصر لرصيف22، وهي ناجية من اغتصاب شرجي وحشي أثناء إجرائها جراحة طبية لإزالة الزائدة الدودية في مستشفى بالقاهرة، بحسب روايتها.
خرجت شيرين، في العقد الثالث من عمرها، من المستشفى لتبدء رحلة من إثبات الضرر الجسدي والنفسي الذي لحق بها، إذ أثبتت تقاريرها الطبية (غير رسمية) إصابتها بمرض "الهيربس" التناسلي، الذي ينتقل بالعدوى المباشرة فقط، ولكنها لم تصل إلى شيء.
ويصل أضرار أنواع الاغتصاب غير المنصوص عليها في القانون إلى حد غير مسبوق -وفقاً لعدلي- فإحدى الناجيات من الاعتداء بميدان التحرير تعرضت لنزيف شديد، نتيجة اعتداء على المهبل بآلات حادة، وانتقلت للمستشفى في حالة خطرة، استلزم ذلك إزالة رحمها نهائياً،
"أما الأضرار النفسية لكل أنواع الاغتصاب فكثيرة، منها اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب، واستعادة للأحداث التي مرت بها الضحية على شكل ذكريات، وهي مستفيظة، كما لو كانت تحدث الآن بنفس الآلام، والوجع النفسي، والجسدي، وهي نائمة على شكل كوابيس، تتعرض لاعتداء من إنسان أو حيوان يجري خلفها، يريد أذيتها، وتفيق في حالة فزع وضربات قلب سريعة وخوف من النوم مرة أخرى"، تقول عدلي.
لوم الذات، يمثل جانباً من الثقافة المجتمعية السائدة.
إضافة إلى الإحساس بالخجل والذنب ولوم للذات، وهي مشاعر بحسب عدلي، تمثل جانباً من الثقافة المجتمعية السائدة، يحول دون إفصاح الفتاة لسنوات قبل أن تسجل شهادتها، وتطلب المساعدة النفسية.
أما الأضرار الجسدية فتصل إلى حد نقل العدوى، والأمراض الجنسية مثل فيروس نقص المناعة المكتسبة HIV أو جروح في الشرج لدرجة صعوبة في التحكم في الخروج، وتسبب الآلات جروحاً في الأعضاء التناسلية الخارجية وعنق الرحم، بحسب عدلي.
نيفين عبيد منسقة برامج بمؤسسة المرأة الجديدة، قالت لرصيف22 إنهم طالبوا بتغيير تعريف الاغتصاب في مقترح تم تقديمه للبرلمان، بعد أن تلقت من منظمات مدنية حالات كثيرة تختلف بها أشكال الاغتصاب عن المعتاد.
وطالبت عبيد بإجراء مسوح ميدانية لمعرفة النسبة الحقيقية، تقول: "هناك مشكلة كبيرة في التبليغ عن الاغتصاب، البعض لا يعلم أنه كذلك كما أن بعض القضاة يحكمون على الانتهاكات الشرجية وفقاً لسلطتهم التقديرية التي تجعلهم لا يعتبرونها مجرد هتك عرض، وإنما اغتصاب".
وتنهي عبيد حديثها، قائلة: "نحن نريد تعديل القانون من الأساس لتكون هناك لائحة تنفيذية واضحة للتعامل مع مستجدات ما يحدث من جرائم الاغتصاب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...