توطئة
لم يخلُ المشهد الثّقافي الجزائريّ، في مراحله المختلفة، من عرّابين كانوا مهتمّين بأن يُضيئوا، لا أن يضاؤوا، إذ وضعوا أوقاتهم وأعصابهم وأفكارهم وجيوبهم وعلاقاتهم ومنابرهم وخبراتهم في خدمة المواهب والكفاءات، فكان تأثيرهم أعمقَ من تأثير المؤسّسة الثّقافيّة الحكوميّة التّي ظلّت تلتهم المال العامّ من غير أن تترك أثراً عامّاً.
من هؤلاء العرّابين الثّقافيّين النّاشط المسرحيّ فتح النّور بن إبراهيم الذّي كبر في خدمة المسرح والمسرحيّين في مدينة مستغانم التّي شهدت إطلاق أقدم مهرجان أفريقيّ لمسرح الهواة عام 1967، ثمّ غادرها إلى الجزائر العاصمة، مع بداية انحسار موجة العنف والإرهاب، مطلع القرن الواحد والعشرين، فكان محرّكاً ثقافيّاً فعليّاً قلّ نظيره، إلى أن خطفه السّرطان في شهر ديسمبر من عام 2016.
ظلّ عدمُ تصديق رحيله مهيمناً على نخبة من أهله وأصدقائه ورفاقه في النّضال الثقافيّ، منهم أنا، حيث لم أجرؤ على مخاطبته بصفته غائباً.
الرّسالة الأولى
عزيزي فتح النور
أصبحت الجزائر العاصمة هذه الأيّام، على طقس شتويّ لذيذ، من ذلك النّوع الذّي كنتَ تُسرّح فيه سائقَك، وتذهب فيه إلى المسرح الوطنيّ، حيث كنتَ مكلّفاً بالإعلام، عبر الترامواي، ثمّ الميترو، ثمّ راجلاً من البريد المركزي.
كنت تحبّ أن تتصيّد صديقاً فنّاناً ممّن تركوا مدنهم البعيدة واقتحموا العاصمة بحثاً عن ضوء لا يمنحه سواها -فما تزال مقولة شارل ديغول عام 1958 "الجزائر هي الجزائر العاصمة" ساريةَ المفعول- لتشرب معه قهوة الصّباح، قبل أن تزرع أرجاء المسرح بصراخك الذّي كان مرادفاً للهمس في قاموس محبّتك، فتكتشف عند منتصف النّهار، وقد عضّ الجوع كرشَك، أنّك أعطيتَ مصروف اليوم لصديق في الطريق.
لماذا لم تأخذ بنصيحتي يوماً: "تخلّص من هذه الكرش يا فتح النّور!" وها قد جاء الوقت الذّي أنصحك فيه بالعكس: "أجمل ما فيك هو كرشك. فإيّاك أن تتخلّى عنها."
في كلّ الجمعات التّي زرت فيها بيتك الأنيق مثلك في بازار سي سعيد، كانت صحون الكسكسيّ بالدّجاج تتهاطل علينا من الجيران. أسألك: من أين كلّ هذا؟ فتبتسم متمثّلاً حالة السّيّدة مريم وهي تجيب النّبي زكريّا عن السّؤال نفسِه: من عند سيدي ربّي.
نأكل ما نأكل، ثم تضع البقية في صحون توزّعها على متشرّدي المدينة. تريد الحقيقة يا صديقي؟ أنا متلهّف لصحن كسكسيٍّ بالدّجاج. هل أجيء نحوك؟
الرّسالة الثّانية
أهلاً فتح النّور
لقد ضحكتُ من قلبي اليوم، حين تذكّرتُ حادثةً لك في دورة "أيّام مسرح الجنوب" التّي عُقدت في مدينة مغنية. لا أذكر السّنة، لكنّني أذكر فعلتَك جيّداً. دخلتَ غرفتي في الفندق ليلًا وسألتني:
ـ كم تستطيع أن تقرضني لأجلٍ أقصاه شهران؟
ـ ثلاثون ألف دينار.
تسلّمتَ المبلغ، ورحت تقسّمه ورقتين ورقتين، حتّى صار خمسة عشر قِسماً. ثم طلبتَ منّي أن أخرج ورقةً وقلماً، وأسجلَ ما تمليه عليّ من أسماء.
ـ لماذا؟
ـ هؤلاء ممثّلون قدموا من مدن بعيدة. وقد اكتشفت أنّهم لا يملكون مصروفاً، ومن حقهم أن يفرحوا مثلنا.
لم تنتظر الصّباح حتّى تعطيهم رزقهم، بل إنّك طفتَ عليهم جميعاً قبل أن يناموا، من غير أن تعلم يسراك ما أعطتهم يمناك، أو يعلم زميل ما قبض منك زميلُه، وقد قرأتُ في عيونهم انتعاشاً مختلفاً على مائدة الإفطار.
أصبحت الجزائر العاصمة هذه الأيّام، على طقس شتويّ لذيذ، من ذلك النّوع الذّي كنتَ تُسرّح فيه سائقَك، وتذهب فيه إلى المسرح الوطنيّ، عبر الترامواي، ثمّ الميترو، ثمّ راجلاً من البريد المركزي
لازلت أذكرهم جميعاً، فهم أصدقاء لي في الواقع والمواقع، ولا أرى لي حقّاً في أن أكشف هوّياتِهم. في نهاية المهرجان، أمام باب غرفتي، سمعتك تطلب من صديقنا المسرحيِّ علي عبدون أن يُعيرك مبلغاً لتتمكّن من العودة إلى بنتيك في مدينة مستغانم بهديّتين. بعد ثلاثة أسابيع، أعدتَ إليّ المبلغ، فطلبتُ منك نصفَه فقط، حتّى أكون شريكك في الأجر، لكنّك رفضتَ قائلاً: أنت أكثر منّي معرفة بالمحتاجين من الفنّانين الجدد، فخذ مبلغك وتصدّق منه بما تشاء.
اسمع! أنا قادم لنذهب معًا إلى تلمسان.
الرّسالة الثّالثة
مساء الخير عزيزي فتح النور
أعلم أنّك من العاملين بالمثل الشّعبي القائل"دير الخير وأنساه"، لذلك سأذكّرك بحادثة كنتُ شاهداً عليها وشريكاً فيها؛ كنتُ مقيماً في فندق ريجينا، قرب البريد المركزيّ بالجزائر العاصمة، في إطار إشرافي على البرنامج الأدبيّ المرافق للمهرجان الوطنيّ للمسرح المحترف، وإذا بهاتف غرفتي يرنّ في الحادية عشر ليلاً. كان صوتك يطلب منّي النّزول إلى قاعة الاستقبال، فظننتُ أنّ ذلك كان من أجل أن تعتذر لي على أنّك رفعت صوتك في وجهي، بسبب أنّني تركت خطأً في مطويّة المهرجان أثناء تصحيحها.
وجدتك تحمل كيساً، فسألتك عمّا فيه. قلت لي إنّك طلبت من عمّال مطعم الفندق أن يحوّلوا مرتجعات ضيوف المهرجان من الأطعمة إلى سندويتشات، وطلبت منّي مرافقتك لتوزيعها على متشرّدي المدينة.
قلت لي إذا كان جوع التّشرّد في المدن الأخرى ذا نابين، فإنّ جوع التّشرّد في الجزائر العاصمة ذو سبعة أنياب. وأذكر أنّك وزّعت 27 سندويتشاً، ما بين الفندق ومعهد الموسيقى. كما أنني مازلت أذكر هرولتك كلّما رأيت متشرداً، تماماً كما أذكر تداعيك على أحد الكراسي الخشبيّة قبالة غرفة التّجارة، وغرقك في صمتٍ نافس صمتَ البحر قبالتَك.
اشتقتُ إلى تلك المكالمات، فخرجتُ البارحة إلى الشّرفة، لعلّك تفعلها وتكلّمني، لكنّني لم أجنِ في النّهاية إلّا نزلة بردٍ نخرتْ نفسي ونصّي. ياه، ترى كم من نزلة برد أخرى ستنخرني، حتّى أصدّق أنَك لن تكلّمني أبداً؟
لم أشأ أن أشوّش عليك بالسّؤال، وغرقت بدوري في محاولة تحويل القمر إلى ومضة شعريّة. كنتُ، أيّامها مفخخاً بكتابة تجربتي الزّجلية "يبلّل ريق الما"، وإذا بيدك تحطّ على كتفي: "عبد الرزّاق، توحشت بابا ربّي يرحمو."
كان شوقي إلى أبي المرحوم قد بلغ أوجه، وكنت أنسى ذلك بقربي منك، لأنّك كنت تناضل دوماً من أجل أن تكون مكانه في المفرحة والمحزنة، ومن غير أن ندري تهاوينا على المقعدين وغرقنا في النّشيج.
ونحن عائدان إلى الفندق، كانت أدعية المتشرّدين تنهال علينا برداً وسلاماً، أذكر منها دعاء امرأةٍ كانت تضمّ صغيرها: "ربي يدّيك ونت مستور ويخلي بيتك معمور". كانت "آمين" التي قلتها تفاعلاً مع الدّعاء عميقةً جدّاً، دلّت على أنّك ترغب في هذا المصير فعلاً.
الرّسالة الرّابعة
أنعمتَ حياةً فتح النّور
ضحكتُ اليوم عميقاً، في الوقت نفسِه الذّي بكت فيه أمّ علياء، حين تذكّرنا حادثةً كنتَ سبباً فيها. هل تذكر تلك الأيام الصّعبة التّي سبقت مرضك، فاعتزلتَ فيها الجميع في بيتك؟ كنتَ تكلّمني في منتصف اللّيل، على مدار أسابيع، فأحمل نفسي وهاتفي إلى الشّرفة، لنخلو للحديث، فقد أدركتُ أنّك كنتَ بحاجةٍ إلى ذلك.
بالمناسبة: سامحني على المرّات التّي لم أكن أردّ عليك فيها، لا أذكر الأسباب الآن، أغلب الظّنّ أنّها كانت تتعلّق بتنويمي لإحدى البنات. وقد تعلّمتُ منها أن أقهر جميع الأسباب التي تحول بيني وبين الرّد على صديق عزيز.
ذات مرّةً خرجتُ إلى الشّرفة لأحدّثك، فإذا بعطسة مفاجئة تفضح أمَّ علياء. كانت تسمع ما كنّا نقول خلف الباب، ليس من باب التجسّس، بل من باب أنّها سمعتك تقول إنّك تعدّ لأن تزوّج صديقة إعلاميّة بصديق إعلاميّ، مثلما فعلتَ مع زيجات سابقة، مندهشةً من كونك تفعل هذا أيضاً.
في تلك المكالمات، تحدّثتَ لي عن كلّ من آذاك أو تخلّى عنك أو استبدل صداقتك بصداقة أحد مبغضيك. وقد قادني فضولي الإنسانيّ إلى أن أسألك عنهم جميعاً ليلة بتنا معاً في فندق التّورينغ، بعد أن استضفتُك في فضاء "صدى الأقلام"، وكان ذلك آخر ظهور إعلاميّ لك، فوجدتك قد سامحتهم جميعاً، بل إنّك "مسحتَ الذّنب" فيك: "يا عبد الرزاق خويا... حتّى أنا كلب كبير."
لقد اشتقتُ إلى تلك المكالمات، فخرجتُ البارحة إلى الشّرفة، لعلّك تفعلها وتكلّمني، لكنّني لم أجنِ في النّهاية إلّا نزلة بردٍ نخرتْ نفسي ونصّي. يااااه، ترى كم من نزلة برد أخرى ستنخرني، حتّى أصدّق أنَك لن تكلّمني أبداً يا باباتي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 15 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين