الحظ العاثر لصديقي “كَارا” أنه أقلية ضمن أقلية، فهو كردي، وبالتالي فهو أقلية، وإذا حسبتها ضمن دولة يحكمها حزب البعث فإنه ينتمي إلى أقلية أو قومية مغضوب عليها، أما الحظ العاثر الثاني لكَارا فهو أنه أقلية أيضاً ضمن الأقلية، فهو ينتمي إلى الديانة الإيزيدية (أو يزيدي) ضمن قوم يدينون بالدين الإسلامي السني، والديانة الإيزيدية ينتمي إليها أقلية من الكرد في سوريا وتركيا والعراق وإيران، ويكتمل حظه العاثر بأنه أقلية ضمن هذه الأقلية بسبب أنه علماني ولا يأخذ كثيراً بأمور الدين، لذلك فإن صديقي كَارا مضطهد أينما حل وارتحل، لم يشعر بلحظة واحدة من لحظات حياته إلا بالغربة، هو لم يفرض غربته على أحد، لكن الجميع فرضوا عليه ذلك كونهم يعتبرونه غريباً!
فالعربي السوري يعتبره غريباً لأنه ليس عربياً، والكردي يعتبره غريباً لأنه ليس مسلماً، بل حتى المسيحيون يعتبرونه غريباً لأنه ينتمي إلى ديانة غريبة لا تشبه الديانات السماوية المعتادة الثلاث، بل إنه قال لي بأن اليهود الذين كان يعرفهم في حلب قبل أن يختفوا فجأة كانوا يستغربونه!دخل صديقي الجامعة وسط استغراب كل زملائه من كافة الطوائف والقوميات التي تعيش في سوريا، أنت إيزيدي؟! ومن هم الإيزيديون؟!! وماذا يعبدون؟! هل صحيح أنهم يعبدون الشيطان؟! لكن لا وقت لدى صديقي كَارا لكي يشرح لهم تعاليم الدين الإيزيدي، ولا وقت لديه ليحدثهم عن قداسة طاووس ملك، فيذهب إلى المكتبة ويبتلى بشراء عدة نسخ من كتاب عن الديانة الإيزيدية ويوزعها على أصدقائه.
يا أخي ما هذه الدولة الغريبة، يقول صديقي الغريب كَارا. في الدول المتحضرة يدرِّسون نبذة عن كل الأديان الموجودة في المنطقة، فعلى أبناء الشعب أن يعرفوا بعضهم البعض على الأقل، تخيل يا لقمان أن صديقنا الدرزي يستغرب من ديانتي لأنه لا يعرف شيئاً عنها، وكأنني أعرف شيئاً عن الديانة الدرزية، أو العلوية، أو المرشدية، أو الشيعية، حتى أنني لا أعرف إذا ما كانت ديانات أو مذاهب، ومع ذلك فهم المستغربون مني، يقول كَارا ويردد أمامي، حتى عندما أعود إلى قريتي في جبل الأكراد بمنطقة عفرين ترى معشر الإيزيديين مستغربين من شكلي وملابسي، أنا غريب، وحظي عاثر. قررت الانتساب إلى حزب شيوعي معارض لأعارض هذه الدولة التي لم تفسر أحداً لأحد، بل وإنها تقصدت أن تجعل كل فئة من الشعب تجهل الفئة الأخرى، والفئات أيضاً كانت تفعل ذلك، كل فئة تخبئ ديانتها أو مذهبها في بطنها، لذلك فالشعب السوري شعب باطني بامتياز، ولكي توحدهم عليك بجعلهم يتعرفون على بعضهم البعض أولاً، هم على الخريطة شعب، أو بصراحة هم ليسوا شعباً، هم مجرد ناس يملأون خريطة اسمها سوريا، يجمعهم كل شيء، ويفرقهم كل شيء، لذا كان الحزب الشيوعي المعارض ملاذي، لكن يا سلام، الرفاق الشيوعيون يستغربونني، إيزيدي؟! وأستغرب من الشيوعيين أيضاً، أليسوا متجردين من الأديان والقوميات؟!
لا، في سوريا، لا. انظر إلى رفاقي في الحزب، هذا شيوعي سني، هذا شيوعي درزي، هذا شيوعي كردي، هذا شيوعي كاثوليكي، هذا شيوعي علوي، حتى الشيوعيون طائفيون وقومجيون عندنا، وأنا صرت شيوعياً إيزيدياً برأيهم، ويضرب كَارا بيده على الطاولة وهو يتذكر الفتاة الأقلوية التي أحبها وأحبته، ومع ذلك فقد استغربته طائفتها ورفضته، فاضطر إلى خطفها كما يفعل كل العشاق في سوريا عندما يواجهون هذه الحالة. ففي سوريا نحن إخوة وشعب واحد كما يردد الجميع، وفجأة ما إن تطلب يد إحداهن حتى يسألونك السؤال التقليدي الأول: أنت شو دينك؟ يا سيدي دولة علمانية فعلاً، وإذا حدث وكنت من دين غير دينهم، أو ملة غير ملتهم، أو مذهب غير مذهبهم، فإن الرفض سيكون حبيبك وحليفك وصديقك.
نعم أنا صاحب الحظ العاثر، فبعد الزواج يا معلم تصالحنا مع عائلة الحبيبة، وصرنا خوش بوش أنا وعديلي الأقلوي المثقف، وحدثته عن مسرحية لي أكتبها باللغة الكردية وسأعرضها في الهواء الطلق لأنهم يمنعون المسرح باللغة الكردية، سأعرضها في الجبال حيث لا مخابرات، لكن هيهات، فلقد اختلفنا أنا وعديلي الأقلوي على من سيقبض أموال الجمعية الشهرية التي تشاركنا فيها مع باقي أخوات زوجتي، كان دوري في القبض، لكن عديلي كان يحتاج المال على حد قوله قبلي لأنه سيفتح دكاناً ويطور نفسه على المستوى التجاري، ولكنني لم أقبل، فكتب تقريراً بي للمخابرات اتهمني فيه بأنني عرضتُ مسرحية باللغة الكردية في جبال عفرين، وهي مسرحية تحرض على الثورة ضد النظام، ونمتُ في السجن ثلاث سنوات يا أبو شريك، ويهز كَارا برأسه وهو يستغرب نفسه وحظه العاثر، ويتابع القول: جاءت الثورة السورية والناس لا تعرف بعضها البعض بالشكل الكافي، لأن النظام كان يريد ذلك، الثورة السورية بدأت وكأنها حفلة تعارف بين أبناء الشعب (الواحد)، فجأة صارت الناس تسمي الناس بأسمائها، هذا علوي وليس من الساحل، هذا درزي وليس من جبل العرب، هذه كوباني وليست عين العرب، أصلاً لا يوجد فيها عرب، وهذه ديريك وليست المالكية، ثم يضحك وهو يشير إلي: لماذا لم يغيروا اسمك أيضاً يا لقمان كما غيروا اسم ديريك، يا أخي حتى بعد الثورة بقيتُ أنا الإيزيدي غريباً، أنت محظوظ يا لقمان لأنهم لم يغيروا اسمك، أغبياء! كيف لم ينتبهوا إلى ذلك؟ ديريك سموها المالكية، فلماذا بقي اسمك لقمان ديركي؟ لماذا لم يصبح اسمك لقمان المالكي؟ لماذا! غريب!رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين