حين يولد ابنٌ فاقداً بصره لعائلة ما فإنهم يصنفونه إما مشروع معجزة أو مشروع كمٍّ مهمل. وعلى هذا المنوال وُلد عمّار الشريعي بين معجزتي البصر والبصيرة، لكن أسرته تأملت مستقبله ورسمته ليكون كعميد الأدب العربي طه حسين، فقد جمعهما فقد البصر وبلد المنشأ، صعيد مصر، وتحديداً محافظة المنيا. لكن صاحب موسيقى الأرابيسك لم يختر الأدب والنقد مثل العميد، بل طمح إلى العمل بالنيابة، لكن القدر اختار له، ولنا، أن يكون موسيقياً. وقد توفي في السابع من كانون أوّل/ ديسبمبر 2012.
لقاء ناقص
كنتُ قد انتهيتُ توّاً من إجراء حوار مع شاعر العامية المصري الكبير سيد حجاب، وقلتُ لنفسي إنها فرصة لأستغلّه فيساعدني في طلب لقاء مع صديقه الموسيقار عمار الشريعي.
أعطاني "حجاب" رقم الشريعي الشخصي وقال لي: "سجّل له على خاصية الرد الآلي رسالة تقول له فيها إنك من طرف سيد حجاب بأمارة أنكما –يقصد نفسه والشريعي- هتتقابلوا آخر الأسبوع".
عُدتُ إلى بيتي. أعددتُ صوتي من طبقة وقورة مناسبة لتسمعها أذنا رجل موسيقانا الخاصة. ومنّيتُ نفسي بأن يرد عليَّ ولو بالخطأ. لم يردّ... انتظرتُ حتى نهاية نغمة الاتصال لتُفتح لي خاصية ترك الرسالة. فجأة أسرعتُ بغلق الخط قبل أن أصل الحيز الزمني لترك رسالتي.
ماذا سأقول لعمار الشريعي؟
هل أنا فعلاً مستعد للقائه ومناقشته في أعماله؟
أي أعمال؟
أنا لم أُحط بها كاملة، ولستُ دارساً للموسيقى لكي أناطحه بما أتعلّم كما يفعل صغار المتعلمين مع كبار الصنعة والموهبة... أنا فقط مستمع جيد وطيّع لتلقي الموسيقى والأصوات الشيطانية الشاطحة.
توقفتُ تماماً عن السعي للقائه، وتفرغتُ للاستماع لألحانه ومذاكرتها. وحين شرعتُ في تناوله كتابةً بعد سنوات، لم أتحيّر ولم أسأل: عند أي عمّار سأتوقف؟
فلن تطول وقفتي عند "عمّار صانع النجوم"، فهو المختلف عليه هل هو صانع لمطربين مثل علي الحجّار أم أن "الحجّار" قد بزغ نجمه قبل الشريعي؟ يبدو أنه خلاف موسيقي.
توقفتُ تماماً عن السعي للقائه، وتفرغتُ للاستماع لألحانه ومذاكرتها. وحين شرعتُ في تناوله كتابةً بعد سنوات، لم أتحيّر ولم أسأل: عند أي عمّار الشريعي سأتوقف؟
لن أتوقف أيضاً عند الشريعي المتمكن من فهم آلة الأورج وتطويرها تكنولوجيا، ولا الشريعي الحكّاء الظريف القادر على شرح الموسيقى للبُسطاء، أمثالي، ولا عند الشريعي الذي طوّر استخدام الكمنجات، لأن هناك من ينسب ذلك للموسيقار بليغ حمدي. بل ستكون وقفتي عند "عمّار الموسيقي الدرامي"، هذا الذي اختفى وراء البناء النصّي والوجداني لأي عمل سينمائي أو تليفزيوني أو مسرحي يتداخل فيه موسيقياً.
ندخل في الموضوع...
لقد استعمل الشريعي الكونترابانط، وهو العلاقة بين الأصوات التي تعتمد على بعضها كهارموني مستقل، ويعد نوعاً من البوليفونية، حيث يستمر خطان لحنيان أو أكثر، مستقلين وميلوديين أساساً في تزامن، مما يبتكر نسيجاً هارمونياً ومعقداً إيقاعياً خلال تفاعلهما.
نظرة على موسيقانا التصويرية
بتعريف أكاديمي، وُصفت الموسيقى التصويرية بأنها المعادل المسموع للمشهد السينمائي، أو المسرحي، أو التليفزيوني، أو الإذاعي، لكن هذا التعريف، بقدر ما يمتاز به من دقة توصيف، لا يتناسب مع أهمية الموسيقى التصويرية كعنصر في العمل الفني، أو مع التأثير الذي تتركه في نفوس محبي الأفلام والمسلسلات، كما لا يتناسب مع قيمتها كغذاء للروح، بحكم أنها في النهاية موسيقى، كما لا يناسب التعريف السابق تاريخها الذي يسبق عناصر أخرى في غاية الأهمية، كالحوار، عندما كانت الموسيقى التصويرية بديلاً عن هذه العناصر في سنوات السينما الصامتة، فتبتهج الآلات في لحظات سعادة شارلي شابلن، وتحزن لحزنه، وتوحي بالإثارة وقت احتدام الأحداث.
مع بدايات فن السينما، في آخر عقود القرن التاسع عشر، لم يكن هناك ما يُعرف عالميّاً أو عربيّاً بالموسيقى التصويرية، ولذلك كانت الاستعانة بمقطوعات سيمفونية شهيرة كحل أمثل، وغالباً ما كانت هذه المختارات الموسيقية من الكلاسيكيات. ومع الوقت، وبحلول القرن العشرين، واعتبار السينما فنّاً قائماً بذاته في كل شيء، وتحوّلها من صامتة إلى ناطقة، كان لا بدَّ من الاستعانة بموسيقى خاصة لتلك الأفلام، مثل المجري النمساوي فولفجانج كورنجولد، والنمساوي ماكس شتاينر، والفرنسي كامي سان صانز.
عربيّاً، أو للدقة مصريّاً، لم يختلف الأمر كثيراً، إذ شهدت الحالة السينمائية نفس التدرج، الذي شهدته السينما العالمية، حتى وصلت إلى من أسماهم الدكتور زين نصار في كتابته "الموسيقى المصرية المتطورة" بـ"جيل الرواد": فؤاد الظاهري، وأندريا رايدر، وعلي إسماعيل، وغيرهم.
وضُم لهذه القائمة لاحقاً بالتأكيد اسم عمار الشريعي، الذي شاء له القدر أن يدرس الأدب الإنجليزي ويتعمق فيه، وتحديداً بقسم الدراما بكلية الآداب في جامعة عين شمس.
وضع عمّار الشريعي الموسيقى التصويرية لـ50 فيلماً، و150 دراما تليفزيونية، وما يزيد على 20 عملاً إذاعياً، وعشر مسرحيات غنائية استعراضية.
هنا مفتاح السر. فهذا الذي فقد بصره كافأته المُخيّلة بثراء بالغ، فالإنسان بصورة عامة يحلم ليلاً بما يراه نهاراً... سواء بنفس اليوم أو ما قد رآه مسبقاً. فلا يمكن أن يحلم شخص بشيء لم يره من قبل. أو من الممكن في بعض الأحيان أن يتخيل الشيء الذي لم يره، كما هو الحال مع الأطفال عندما تروي لهم قصص قبل النوم، فإنهم قد يحلمون بما سمعوا قبل نومهم عن وحش له ثلاثة أرجل أو عن أميرة حسناء وبطل الأحلام.
لذا يمكننا استنتاج أنه كلما غاب البصر حلّ الخيال محل فقد الرؤية. وهذا ما جعل من الشريعي، إلى جانب دراسته الأكاديمية، مخيلة تتحرك على الأرض، وهذا ما يجعله جزءاً أصيلاً من صناعة أي دراما. لا يؤدي فيها دور الخلفية الصوتية، لكنه يسهم في بناء الشخصيات والأحداث ويعظّم من إحساس التأثير لدى المتلقي بل يتجاوز تأثيره اللحظة الراهنة ببقاء يطول في وجدان الجمهور، حتى أن موسيقاه التصويرية تُسمع منفصلة كقطعة موسيقية فريدة مكتملة بذاتها، ولنا في موسيقى "رأفت الهجان" مثالا حيًّا على ذلك.
وضع عمّار الشريعي الموسيقى التصويرية لـ50 فيلماً، و150 دراما تليفزيونية، وما يزيد على 20 عملاً إذاعياً، وعشر مسرحيات غنائية استعراضية، واعتبره الباحث الموسيقي أحمد عبد الشافي خلال حديثه لرصيف22 واحداً في فئة المؤلفين الموسيقيين، بمعنى أنه لا يكتفي بالتلحين فقط، بل يمتد إنتاجه إلى العمل الموسيقي الكامل، فمن ناحية هو شرقي الهوى، سهل الانتقال بين المقامات داخل اللحن الواحد، ومن ناحية أخرى هو غربي الوعي في استعمال الهارموني والتلوين الصوتي.
يمكننا استنتاج أنه كلما غاب البصر حلّ الخيال محل فقد الرؤية. وهذا ما جعل من الشريعي، إلى جانب دراسته الأكاديمية، مخيلة تتحرك على الأرض، وهذا ما يجعله جزءاً أصيلاً من صناعة أي دراما
كما أن الشريعي برع في تقديم ما يسمى بـ"اللحن الدال"، وهو أحد أساليب التأليف في الموسيقى الدرامية، وهو اللحن الرئيس في العمل الدرامي، والذي كان رائده الأول عالمياً ريتشارد فاجنر، وقد تميز عمّار، بحسب "عبد الشافي"، بتناول اللحن الدال في أعماله الموسيقية الدرامية بشكل أكبر من اللحن الدال المعروف بأنه قصير لا يزيد على مازورتين موسيقيتين أو ثلاث، إذ امتد اللحن عنده إلى 16 مازورة موسيقية تنقسم إلى جملتين، كما استطاع الشريعي أن يعبّر عن المواقف الدرامية والانفعالات المختلفة الخاصة بالبطل الدرامي، الذي يلازمه اللحن الدال على طول العمل الدرامي عن طريق تثبيت اللحن كتسلسل نغمي مع اختلاف عناصر التأليف الأخرى، كالعنصر الزمني، فتتنوع الألحان بين زمن أسرع أو أقل سرعة، فيكون التعبير الموسيقي متنوعاً بين الفرح الشديد والحزن الشديد من خلال لحن واحد متغير السرعة.
لا يمكننا أن نجمع رأياً واحداً يلم شتات عمار الشريعي موسيقياً، فكل موسيقى تصويرية لديه يمكن أن نفرد لها أبحاثاً مطولة لدراسة قدراته التعبيرية التي وقفت جنباً إلى جنب مع مشاركيه من صناع الدراما، وربما صار هو أبقى لأسباب تتعلق بتأثير الموسيقى كعنصر مستقل على النفس البشرية، وبناء عليه أعتبر الشريعي أهم موسيقار عربي معاصر، بعد كسره البنية الدائرية للحن العربي، وتطويعه في رقصات ومارشات ومعارك وانتصارات بالغة الرشاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...