ماذا سيحدث إن استبدلنا أدوارنا الجندرية لفترة؟ وما الذي سيختلف إن كنتَ ذكراً وقدمتَ نفسك كأنثى؟ وماذا سيتخلخل في نظام الكوكب المختلّ أصلاً إن قمتِ بدور الرجل لإيصال رسالة معينة بأدائك؟
"مَلَكات التغيير"، هو عنوان لجلسة عُقِدت في "مركز جمانة حداد للحريات" في بيروت، حيث استوقفني البوستر الذي كان يوجد فيه شاب بلحيته يضع الماكياج ويرتدى ملابس نسائية، وكُتِبَ اسمه الفني في الأسفل "زُحَل".
لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها ذلك الأسلوب الذي يقدِّم من خلاله أناس أنفسهم في بعض العروض، لكنني لم ألتقِ مع هؤلاء الأشخاص وجهاً لوجه يوماً، فذهبتُ للجلسة لأعرف ما الذي يُقدمه الـ"دراغ كوين" أي الشاب الذي يلعب دور امرأة بكامل تفاصيلها على المسرح، والـ"دراغ كينغ" وهي الفتاة التي تلعب دور رجل على الخشبة، حيث تنقلب الأدوار في العروض، في كسر واضح لتنميط الجندر.
"دراغ" البدايات
الـ"دراغ كوين" مصطلح تزايد استخدامه مؤخراً لكن هذا النوع من الفن ليس حديث العهد أبداً، كما يقول "زُحَل" واسمه الحقيقي زياد، وهو أحد أشهر الـ"دراغ كوين" في لبنان.
بدأت الحكاية مع زُحَل خلال أيام الجامعة، حيث كان يشعر أنه يميل أكثر إلى القيام بأدوار البنات، ويعبّر بهذه الطريقة عن نفسه بشكل أكبر.
بحسب زُحَل، نشأ هذا المفهوم منذ أيام الشكسبيرية ويُترجَم حرفياً بـ"فن الجَرّ"، فكلمة "دراغ" تعني الجر أو السَحْب باللغة الإنكليزية، حيث كان من غير المسموح للمرأة بتقديم أداء تمثيلي على المسرح، فكان الرجال يقومون بهذه المهمة ويرتدون ملابس طويلة "يجرّونها" خلفهم لذلك سموه بـ"فَن الجَر".
على الضفة الأخرى تقول لين، واسمها الفني "صفا" كـ"دراغ كينغ"، إن مفهوم "دراغ كينغ" أي النساء اللواتي يؤدينَ أدوار الرجال انتشر في المجتمعات التي كانت منغلقة وتمنع المرأة من التعليم مثلاً، حيث تنكرت بعض النساء للقيام بمهمات كانت مقتصرة على الرجال وقتها، وفي عام 1800 توسع هذا المفهوم ودخل المسرح، فقامت النساء بلعب أدوار الرجل وأصبحن "ملوك الجَرّ" على الخشبة.
"دراغ" المجتمع
الكثير من المجتمعات، وتحديداً العربية، لا تتقبل أن ترى رجلاً يقوم بدور امرأة حتى على خشبة المسرح، والعكس صحيح، ويبدأ الوصم المعتاد لهم باتهامات مختلفة فيصفونهم بالـ"شاذين"، خصوصاً أن الـ"دراغ" في غالبيتهم من مجتمع الميم، وهو فن تعزز بشكل أساسي في هذا المجتمع.
بالإضافة للنظرة العدائية لهم بسبب ميولهم الجنسية، تتضاعف تجاههم السخرية من قبل غالبية أفراد المجتمعات الذكورية، لكن زُحَل لا يتعامل أساساً مع موضوع التهكم والسخرية، ولا يعنيه كما يقول، بل يعتبره جيداً في بعض الأوقات لأن أي شخص يشاهد "دراغ كوين" قد يُصدَم للوهلة الأولى، لكنه بعد ذلك سيَعي تماماً أنه يوجد في الحياة هذا النمط وعليه تقبُّله.
لكن ماذا عن الفتاة التي تقوم بدور رجل؟ هل هذا يُريح المجتمعات الذكورية قليلاً وتختفي النظرة المنقوصة؟ تقول لين إن النظرة لا تتغير تجاه الـ"دراغ كينغ"، فمجتمعاتنا تحدد مسبقاً الأدوار الجندرية وتنمطها، فعلى الرجل دائماً أن يتسم بالقوة والجبروت، وعلى المرأة أن تكون الضعيفة الهادئة الناعمة، ومجرد كسر هذه القواعد يجعل الموضوع لدى مجتمعاتنا مستَهجَناً.
وبسبب نظرة المجتمعات النابذة لهم يصعب على الـ"دراغ كوين" والـ"دراغ كينغ" أن يجدوا أماكن يقدمون فيها عروضهم، وعموماً هم أشخاص غير مدعومين من الناحية الفنية في العالم العربي، لكنهم يحاولون أن يجدوا طريقاً للوصول إلى الجمهور، ومن هذا المبدأ ربما، نشأت فكرة "البيوت" الخاصة بهم ليدعموا بعضهم بعضاً، حيث يقول زُحَل إن الـ"دراغ" قد يلجأ إلى آخر سبقه في الخبرة فيتبناه/ها وبالتالي يصبح "ابنته/ها" وهكذا تتسع عائلات الدراغ تدريجياً، ويشكّلون لبعضهم ملاذاً آمناً يُعبّرون فيه عن أنفسهم براحتهم.
"دراغ" الأداء
يقدم الـ"دراغ كوين" والـ"دراغ كينغ"، بحسب زُحَل، عروضاً مختلفة تتنوع بين "Lipsync Skills" أي الغناء بتحريك الشفاه فقط مع كلمات الأغنية وابتكار حركات تتناسب معها على المسرح، بالإضافة لعروض كوميدية، أو درامية ذات رسائل اجتماعية أو سياسية، وعلى صعيد الماكياج يهتم الـ"دراغ كينغ" مثلاً بتصغير العين عكس الـ"دراغ كوين" الذي يبالغ في مكياجه بشكل مقصود لتظهر معالم المرأة عليه.
نشأ المفهوم أيام الشكسبيرية ويُترجَم بـ"فن الجَرّ"، فكلمة "دراغ" تعني الجر أو السَحْب باللغة الإنكليزية، حيث كان من غير المسموح للمرأة بتقديم أداء تمثيلي على المسرح، فكان الرجال يقومون بالمهمة ويرتدون ملابس طويلة "يجرّونها" خلفهم... "دراغ كوين" و"دراغ كينغ" يتحدثان لرصيف22 عن هذا العالم وجماليته
تقول لين إن ماكياج الـ"دراغ" غير محدد بقوانين معينة، فبعضهم يخلط الماكياج الذكوري بالأنثوي، وهي تفعل ذلك، حيث تقول إن هذه الطريقة متبعة أكثر حالياً لدى الـ"دراغ" بحكم أنهم يحاولون كسر فكرة التنميط الجندري، فقد نجد دراغ بملامح ذكورية ولحية لكنه يضع الماكياج ويرتدي الكعب العالي في قدميه وباروكة بشعر طويل على رأسه، في رسالة مفادها أن لا هوية جندرية نمطية يجب على المجتمع تحديدها، سواء للذكر أم الأنثى.
ولكن قد يتساءل البعض ما الفرق إذن بين هؤلاء وبين الممثلين العرب الذين قاموا بلعب أدوار نساء أو ممثلات لعبنَ أدوار الرجال؟
تجيب لين قائلةً إن هناك العديد من الفنانين الرجال قاموا بأدوار نساء مثل شخصية "فادية" التي قام بها الفنان فادي رعيدي، وشخصيات عدة أيضاً من فنانين وفنانات عرب، لعبوها في المسرح والتلفاز والسينما، لكن ما يقوم به هؤلاء يعتمد على سكريبت معين غايته إضحاك وتسلية الجمهور، في حين يكون لأداء الـ"دراغ كوين وكينغ" معنىً أعمق يختلف في رسالته عن باقي الفنانين، ويهدف في الأساس لكسر الصورة النمطية للأدوار الجندرية التي قولبها المجتمع بطريقته.
"دراغ" الصورة النمطية
في وقت يسعى فيه الـ"دراغ كوين" والـ"دراغ كينغ" لكسر الصور النمطية للجندر، يقعون هُم أيضاً ضحية لمفاهيم نمطية خاطئة، فقد يعتقد كثيرون أن كل من يقوم بمهمة الـ"دراغ" مثلي الجنس، لكن لين تقول إن هذا ليس ضرورياً، فرغم أن فن الـ"دراغ" مشتق من ثقافة مجتمع الميم ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً، إلا أن هناك أشخاصاً يقدمونه وليسوا مثليين أو مثليات، كما ليس من الضروري أن يكونوا راغبين بالقيام بعملية عبور جنسي أيضاً، وبيوتهم ليست مخصصة لامتهان العمل بالجنس كما يعتقد البعض، بل هي مجرد تعبير مجازي للإبقاء على فكرة العائلة الـ"دراغية" الواحدة.
وتقول لين إن من الممكن أن يقوم الـ"دراغ كوين" بأداء تمثيلي بشكله الحقيقي كشاب وكذلك الـ"دراغ كينغ"، وليس من الضروري الالتزام التام بنمط معين، فهذا الفن قائم على الحرية في اختيار الشكل والجنس، ويمكن التلاعب من خلال أدائه بالأدوار الجندرية بحريةٍ مطلقة.
والـ"دراغ" منتشرون في الساحة العربية وهم موجودون حولنا دائماً ومنهم بحسب زحل، اللبناني باسم فغالي، والمصري زياد طرابلسي، ومن دول المغرب "فونكس آرابيا".
كما يظن الكثيرون أن غالبية الـ"دراغ كوين" والـ"دراغ كينغ" يقومون بعروض كوميدية ساخرة إلا أن هذا ليس لزاماً عليهم، فهم يقدمون أفكاراً مختلفة خلاقة بعيدة عن الكوميديا أيضاً، وقد يتخذ الـ"دراغ" فنه كمهنة رسمية له يعتاش منها، أو يمارسها كمجرد هواية ليس إلا.
خلَطَ الـ"دراغ كوين" و"دراغ كينغ" المفاهيم ببعضها وتحدّوها، فكان للذكر قلم حُمرة وطلاء أظافر وفساتين لامعة، وللأنثى شوارب مفتولة ولحية، فبعُرفهم ليس للجندر أدوار معينة، ولا أنماط بلاستيكية جامدة محشوة بالتقاليد والأفكار السائدة
أما عن القانون فيقول زحل إنه لا يوجد في لبنان قانونٌ ما يجرّم معتنقي فن الـ"دراغ"، إلا أنه وفي حال أرادت السلطات قمعهم والتشفي منهم - بلا مبرر منطقي، فيتم اتهامهم بالعمل في الجنس أو بالمخدرات، رغم أن الاتهامين لا يرتبطان ببعضهما، لكن ذلك أيضاً يندرج تحت مسمى "نمطية الأحكام المسبقة".
"هذا التصرف رجولي لا تمارسيه وذلك فعل أنثوي لا تقُم به مقلداً البنات"، هذا نموذج من عبارات قد نسمعها من أهالينا منذ الطفولة، لينشأ الصبية والفتيات على أمور معينة يجب اتباعها بصرامة، ابتداءاً من أبسطها كألوان اللباس، وطريقة المشي، والصوت والتصرفات، إلى أهمها كطرق الزواج، والعمل وأسلوب التفكير، لكن الـ"دراغ كوين" والـ"دراغ كينغ" كسروا كل هذه التابوهات التقليدية، وسخروا من تأطير المجتمع لفكرة الذكورة والأنوثة.
خلط هؤلاء المفاهيم ببعضها وتحدّوها، فكان للذكر قلم حُمرة وطلاء أظافر ورموش اصطناعية وفساتين لامعة، وللأنثى شوارب مفتولة وحذاء رجالي ولحية، فبعُرفهم ليس للجندر أدوار معينة، ولا أنماط بلاستيكية جامدة محشوة بالتقاليد والأفكار السائدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...