كنتُ أدّعي معظم الوقت إني شخص غير مهتم بالماورائيّات. والأمور الخارقة للطبيعة، وأفضّل إرجاء كل ظاهرة إما لتفسير علميّ معروف، أو لآخر لم يُعرَف بعد. لا محبّة بالعِلم نفسه، إنما هكذا أكون أكثر ارتياحًا وسكينة. أأنَس جدًا بقراءة غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل الليندي، ووقاعيتهما السحرية، المليئة بالنبوءات والمفارقات غير الواقعيّة، وأعتبرها، على هذا، من قبيل امتزاج الواقع بالأسطورة أو حكايات الجدّات الخرافيّة. وأهرب هرَب الدجاجة من أفلام الرعب والعفاريت. هكذا تصبح الأشياء كلها تحت سيطرة نظام، وإن لم أحصِه، أقول لنفسي إنه موجود، فأطمئن. حتى أن هذا جعلني أتجنّب، وإن من باب التسلية أو الفضول، مشاركة صديقاتي في لعبة قراءة الكفّ وقراءة الفنجان وقراءة الطالع، والذي منه. خوفًا من أن أفتح للغيب بابًا، فأتعلّق بحباله، ويعبث بنظام طمأنينتي الإسمنتيّ. لكنّ أشياء صغيرة، بإمكانها أن تفعل ذلك. هكذا مثل ريشة خفيفة، يحملها الهواء فتداعب أذنك، وينتفض لها جسدك كلّه. حبٌ من طرفٍ واحدٍ مثلًا. رغبةٌ في الهرَب/ السّفر. مرضٌ عصيّ على العلاج. كلّ ما ليس علمًا، جميل أو مرعِب، أو كلاهما معًا. وقد كان لي من الجمال بقدر الرعب والقلق نصيب، بما يكفي للعبث بمنظومة القواعد تلك، وإسقاطي في فخّ تسوّل الأجوبة من وسطاء الماوراء.
ثلاث زيارات للعرّافين
على مشارف العام الجديد، تلقى التنبؤات رواجًا، ويعد هذا موسمها الأهم. بالرغم من أنها -النبوءات وقراءة الطالع- أمر يمكن فعله على الدوام. أي أنه بإمكانك، وفي أي وقت من العام، القيام بزيارة للعرّافة وسؤالها عن طالعك، أو قراءة برجك اليوم لمعرفة حظوظك. إنما شيء ما يجعل من نهاية عام وبداية آخر، موسم لإصدار كتب الأبراج وظهور مختصّي علم الفلك على المنابر الإعلامية التقليدية والحديثة. حتى قاسم نجومُ الفلك والتارو والأبراج الفنانين مساحات الهواء التي تخصصها الفضائيات للاحتفاء برأس السنة. موسم. بازار حظوظٍ، تباع على الهواء. وعلى أني لا أنزعج من هذا الرواج، إلا أن القراءة العامة هذه، الحظوظ التي يشاركني فيها ملايين الناس، لا تبسِطني، أو لا ترضي مزاجي الخاص، ولا تسدّ جوع قلقي الذي يتسع فمه كلما كبرتُ. وقد كانت مواسم احتياجي للتبصير وقراءة الطالع مختلفة والله عن هذا المزاج السنويّ الجماعيّ. ثلاث مرّات قادني فيها إما القلق، أو القلب إلى قرّاء الطالع. المرّة الأولى التي ذهبت فيها لزيارة عرّافة، صحبتني صديقة لي بعد ألحَحت عليها أن تأخذَني. كنتُ مشوّشة ومتعبة آنذاك، وكنت أحتاج إلى أجوبة. أية أجوبة. كان اسمها أم حسن، سيدة خمسينية تسكن وأبنائها منزلًا في إحدى قرى العاصمة البحرينية، المنامة. وأم حسن، عرّافة بحرينية لها زبائنها، الذين يجيئون حتى من خارج البلاد، وهي، لها أوقاتها، التي خلالها تترك باب بيتها الخارجيّ مفتوحًا، فما عليك إلا أن تدقّ الجرس، فيردّ عليك أحد من أهل الدّار، تفضّل، فتدفع الباب وتدخل. قالوا لنا: تفضلوا فدخلنا. كانت المرّة الأولى التي أزور فيها هكذا مكان، فكنت خائفة بعض الشيء، ومتحفزّة للإشارات، حتى إن دجاجة كانت تتجول في حوش منزلها، قبالة باب غرفتها التي تستقبل فيها الناس، أثارت فيّ الريبة. “هذا هو العِفريت؟” قلت ناظرة للدّجاجة، فسحبتني صديقتي من يدي، ساخرة من نظريتي الخاصة بالدجاجة العفريت، ودخلنا عليها. سلّمنا، ثم جلسنا، صديقتي وأنا. لم تكن تقرأ الكفّ ولا الفنجان، لم تكن أيضًا تقرأ الودَع. كانت تفتح القرآن وهذا ما زاد خوفي. وترقبي في الوقت نفسه. أذكر يومها، أني لم أكن أحمل في جيبي سوى ثمن هذه القراءة. كانت آخر الدنانير المتبقية لي حتى نهاية الشهر، وكنت أغامر بها لأجل الحصول على شيء من راحة البال. لم تكن هذه هي المشكلة. المشكلة كانت أني عرفت بمقدرة أم حسن على قراءة ما يدور ببال من تقرأ له، بعد أن تفتح المصحف، وبقي بالي مشغول، بأنها ستعرف أن هذه الدنانير آخر ما أملك، وكم أن هذا أمرٌ مخجل. وجهدت ألا يبدو عليّ الارتباك، ثم جهدتُ أن أبعد هذه الفكرة عن بالي على أمل ألا تلتقطها.. “لا أرى رجلًا يا ابنتي، لا أرى رجلًا في الصورة ولا أرى زواج”. قالت، فهززت لها رأسي، أني أعرف هذا مسبقًا. فرفعَت عينيها نحوي لتبحث فيهما عن سبب حيرتي إذًا! عدتُ إلى أم حسن بعد ما يقرب العام.. وكنت أقل قلقًا من سابقتها. عدتُ برفقة صديقة أخرى، وحرصتُ هذه المرة ألا أجيئها آخر الشهر. حيّيتها وجلست. لا أقول أني ألِفت المكان. بقيَت له رهبة، رهبة الغيب، ورمي حصاة في بركة الما وراء. لما فتحت لي القرآن قالت: “مالك والسّفر.. السّفر تعب يا ابنتي. إنما سيكون لكِ ما تريدين”. وقد غادرتها تلك المرة، ولم أرجع، ذلك أني لم أكن أكيدة مما قالت، ولم أكن أكيدة من شيء وقتها. ما جرى أن الأقدار دفعتني لحزم حقائبي استعدادًا للسّفر بالفعل، وما جرى أن السّفر تعب. غير أني لستُ أكيدة من أنه سيكون لي ما أريد. المرّة الأخيرة التي رأيتُ فيها عرّافًا، كانت لقارئ فنجان من بلاد الشّام. التقينا في مقهى بشارع “البديّع”. كانت المرّة الأولى التي يقرأ لي فيها أحدهم الفنجان. كنت بالفعل، أحزم حقائبي للسّفر إلى السويد والبقاء هناك لوقت طويل. شاب في نهاية عقده الثالث، مستعجل وواثق، ويحدّث جلبة في محيطه الفيزيائي. يهزّ ساقه وهو يتحدّث، وتجيؤه اتصالات كل ربع ساعة من بنات ونساء، فيجيبهن على عجل إنه مشغول بموعد آخر، أو يعطي نصيحة مستعجلة لبعضهن “لا تخافي، حيرجع”، “ ليه اتصلتي فيه، إنه يلعب بكِ..”، “مشغول، مشغول”. ويواصل حديثه عن نفسه بمرح، وكيف أن هذه “الهِبة الإلهية” سببت له أذى كبير في حياته، وأدّت إلى طلاقه من نساء كثيرات. ولقد ظننت من كلّ هذا، أن الرجل مسوّق كبير، وإنه، يريد إقناعي بقدراته. كنت أعرف أني سأدفع المال، سأدفعه. لذلك رشفت آخر رشفة، وقلبت الفنجان، ثم دفعته نحوه. هات لِنَشوف. ربما لا أودّ إضفاء جو سحريّ على مشهد عاديّ. لكن شعورًا من القشعريرة الخفيفة، أو الهواء البارد يتخلل ثيابي، أو شيء ما يتحرك في محيط جسدي لازمني طوال قراءة هذا العرّاف، وحتى ساعات لاحقة. قال الكثير، وقد كان دقيقًا، ويحبّ ذكر التواريخ، لمزيد من البرهان على قدرته. المهم أنه قال “لا أراكِ في السويد.. ستذهبين لبلد آخر” قالها والحقائب توشك أن تحزم. والأمور كلّها معدّة ومرتبة. والقرار مأخوذ ومدروس. فعرفت أني طلعت من هذه التجربة بفنجان قهوة لذيذ. ونصّاب ظريف. المهم، لا أطيل عليكم، لا أعرف كيف كل هذا حدث. إنما أدخل الآن عامي الثاني في أمستردام. حيث صارت وجهتي ولم أذهب إلى السويد أبدًا.على مشارف العام الجديد، تلقى التنبؤات رواجًا، ويعد هذا موسمها الأهم. بالرغم من أنها -النبوءات وقراءة الطالع- أمر يمكن فعله على الدوام. أي أنه بإمكانك، وفي أي وقت من العام، القيام بزيارة للعرّافة وسؤالها عن طالعك.
وعلى أني لا أنزعج من رواج التنبؤات، إلا أن القراءة العامة هذه، الحظوظ التي يشاركني فيها ملايين الناس، لا تبسِطني، أو لا ترضي مزاجي الخاص، ولا تسدّ جوع قلقي الذي يتسع فمه كلما كبرتُ.
كانت المرّة الأولى التي أزور فيها عرّافة، فكنت خائفة بعض الشيء، ومتحفزّة للإشارات، حتى إن دجاجة كانت تتجول في حوش منزلها، قبالة باب غرفتها التي تستقبل فيها الناس، أثارت فيّ الريبة. “هذا هو العِفريت؟” قلت ناظرة للدّجاجة.
العِلم مجدّدًا
وأيّا كان ما جرى، إن صدق المنجّمون أو كذبوا، فإن العلماء لديهم ما يخبرون به. إذ أظهر بحث في مجال العرّافين، اعتماد ما نسبته 80% منهم -إن استثنينا علماء الفلك الذين يضعون توقعاتهم للناس مجموعات وليس أفراد- على تقنية تسمى بالقراءة الباردة أو The cold reading. والقراءة الباردة، مجموعة من التقنيات المستخدمة من قبل الوسطاء الروحانيين والعرّافين والمحتالين، يوحي استخدامها بأن العرّاف أو قارئ الكف، يعرف الكثير عن الشخص أكثر مما هو في الحقيقة، بدون معرفة مسبقة. ويمكن -لقارئ بارد- محترف الحصول بسرعة على قدر كبير من المعلومات من خلال تحليل لغة جسد الشخص، عمره، ملابسه أو أزيائه، أو تصفيفة شعره، نوعه، دينه، عرقه، مستوى تعليمه، أو طريقة كلامه. وعادةً ما تستخدِم القراءات الباردة عمليات تخمين عالية الاحتمال، وتلتقط بسرعة إشارات حول ما إذا كانت التخمينات في الاتجاه الصحيح أم لا، ثم التأكيد على ترابط الصدف التخمينية وتعزيزها. ويذهب البعض في اتجاه أكثر لطفًا، إذ يقول إن الكثير من مستخدمي القراءات الباردة، لا يفعلون هذا بغرض الاحتيال، وإنما هم أشخاص من أصحاب القدرات الخاصة في الملاحظة والتحليل والتخمين، ما يجعلهم يقتنعون بأن لديهم قدرات روحانية تمكنهم من قراءة الغيب بالفعل. وكما هو دائمًا، كلام العلم رائقٌ، موزون ومقنع. والواقع هشّ وغير منطقي. أصدّق العِلم، وأسأل العرّفات، ولو كذبًا، من أجل راحة القلب، وسأجلس الليلة مثلكم ومثلكن، لأتابع توقعات الفلك للعام الجديد!رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع