شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يومان كاملان لقول جملة واحدة: أريد أن أخلع حجابي

يومان كاملان لقول جملة واحدة: أريد أن أخلع حجابي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 2 ديسمبر 202004:04 م


كان الحوار مع أبي أطول من جملة واحدة حادة كتلك التي قلتها لأمي: "أريد أن أخلع حجابي." احتجت يومين كاملين لقول الجملة نفسها. كنا قد امتلكنا أخيراً أنا وأبي الوقتَ الكافي لنتحدث؛ هو عندما أصبح عجوزاً، وأنا عندما أصبحت امرأة تطفو فوق نهر الثلاثين. نصبح أنا وأبي أحياناً شخصين يتربصان ببعضهما البعض، ولا نحاول أن نقفز عن الصخور التي تباعد بيننا إلا مرغمين. أظن أن صراعنا ظل قائماً على اللغة. هذا الرجل الذي منه امتلكت سرّ الكلام، وردّدت، في طفولتي، على حكاياته بحكاياتي، ينظر إليّ الآن، فيراني كيف أفرط لغتي في صحنه، فيردّ على حكايتي بحكاية من عنده. كبرنا أنا وهو فتبادلنا الأمكنة، لكننا ما زلنا ساردين لمتعة الحكاية وليس لخيلاء الخبر.

تساءلت دوماً: ما برج أبي؟ لو أعرف شهر ميلاده، ساعة ميلاده! هذا الزوج الذي ثبّتت زوجته، في خمسينيات القرن الماضي، عمره في سجلّات القيد، بينما كان هو يهرس العنب بجزمة بلاستيك في مصنع في ألمانيا، فلم تسامحه الشابة التي أصبحت عجوزاً، حتى الآن، على غيابه في ساعة تثبيت نفسه في الحياة. خصوصاً بعد أن عاد خائباً، وخسرت ما ادخرته لتزويد رحلته!

نغلق حوارنا أنا وأبي سريعاً، وننسحب، كل واحد في ثيابه.

في الحقيقة مازلت حتى اليوم أضع لحواراتي مع أبي خطة قبل أن أتقدم فيها، وأفكر أن المسألة بين الرجل والمرأة تبدأ من هنا، من المسافة الواصلة بين البنت وأبيها، قبل أن تبدأ بين المرأة وزوجها، ورغم أن حواراتي مع أبي مازالت تسير على الطريق نفسها دون ادهاشات، إلا أني لا أمنع نفسي عن الخوض فيها كل مرة كأني أفعل ذلك للمرة الأولى. كأن المرأة تسير نحو أبيها من الطريق نفسه طوال حياتها دون أن تطمئن للطريق. الرجل الأول الذي دخل حياتها دون استشارة، والرجل الذي إن حاولت إخراجه من حياتها فلن تستطيع.

اعتدتُ أن أخرج من غرفة البنات، وأخبر أخواتي أنني ذاهبة لأكلّم أبي في أمر. ظلّ هذا الخروج يتكرر مع كلّ أمر، كأني ذاهبة إلى معركة، أو ذاهبة وقد لا أعود. وحتى لا أظلم أبي، فسأقول إنه كمعظم الآباء في مجتمعاتنا الشرقية، رجل يختبئ وراء نفسه من أبنائه، وينجح معظم الوقت في جعلهم يصدّقون أنه رجل غريب.

كنت أترك أخواتي في وجوم وترقب وأتقدّم. كان خوفهن يخيفني، وكان أول خوف أردت التخلص منه هو خوف من حولي وليس خوفي. كان هذا أكثر خوف أعاقاني عن التقدم: خوف النساء من حولي، أمي وأخواتي أولاً، وأختي الكبيرة قبل أخواتي الصغيرات، وكل أخت باسمها ونفسها.

مازلت حتى اليوم أضع لحواراتي مع أبي خطة قبل أن أتقدم فيها، وأفكر أن المسألة بين الرجل والمرأة تبدأ من هنا، من المسافة الواصلة بين البنت وأبيها

أتذكر جيداً أني كنت، في يوم، أحدّث أختي التي تصغرني، عن أمر يخصنا، عن شئ نريده، عن أمر من حقنا، كان شيئاً صغيراً تافهاً على ما أتذكّر. بدا كلامي، في ذلك اليوم، أشبه بتحريض. اكتشفت في النهاية أن أبي سمع كل ما قلته. تجمدنا أنا وأختي يومها. لم أذهب لأبي لأوضح أو أعتذر، ولم ينادني هو ليسأل: ماذا أو لماذا؟ استمررنا بعد تلك الحادثة أنا ابنته وهو أبي. ولا أعرف كيف عاش بعدها مع فكرة وجود بنت تقول كلاماً غريباً، عن شيء صغير تافه، في البيت، دون أن يحاول فهمه أو مناقشتها فيه؟ الآن أفكر بهذا رغم أني لم أصبح أماً، ولكن صار بإمكاني أن أدرك أن البنت الثائرة في البيت تحتاج أباً ثائراً في البيت نفسه.

في صباح ذلك اليوم من كانون الأول عام 2011، حُمتُ حول أبي، بدا أبي كأنه تقاعد عن العمل في الزراعة هذا الصباح على وجه التحديد، وبدوت كأني كبرت هذا الصباح على وجه التحديد، فأصبح أبي ينظر إلى نفسه على أنه رجل يمتلك وقتاً لتضييعه في الصبر على سرد قصة يستمرّ سردها يومين، وكان أبي ومازال صبوراً على اللغة، يستمع إليها ويتنهّد تلك التنهيدة الطويلة: آآآآه. ثم لا يتلوها بكلمة واحدة، ولا أفهم أين يذهب كلامه الذي لم يقله. لطالما أحسست أن لدى أبي، في جوفه، مكاناً سرياً، يخزن فيه الكلام الذي لا يكمله، عندما ينسحب ويترك من يحدثه مشدوهاً يتساءل عن حديث اختفى فجأة. كانت ومازالت صورة أبي، وهو ينسحب من حواراته بطريقة غرائبية، مشهداً في واحدة من روايات الواقعية السحرية.

حمت حول أبي منذ الصباح مثلما كنت أفعل، قبل ثلاثين عاماً. كلما قرر الذهاب إلى مدينة نابلس بسلته الخضراء، فيفهم من حومي ما أريد؛ أريد شيئاً جديداً؛ أريد المدينة؛ أريد طعماً منها أو رائحة، أو أريد أن أرحل إلى هناك. لكن صوتي لم يكن يخرج من فمي، كنت طفلة صلبة لا تنطق بحاجتها بدافع التقدير، فاستبدلت صوتها بـ" الحَوْم"، وظلت أمي تردّد على سمعنا، نحن أطفالها، وهي تدعونا للسكون، المثل القائل: "النوم ولا الحوم". فتحثنا على استبدال الجلبة بالصمت، والثورة بالخضوع، والصحة بالخمول، واليقظة بالسّبات. والآن، أنا امرأة بالغة وهأنذا أحوم حول أبي، بين أشجار الليمون والياسمين والمشمش والزيتون، الأشجار التي زرعتها في حاكورة البيت لتظلل مرور أمي وأبي من الشمس، ولتنثر الرائحة فوق رأسيهما في فضائه.

استطاعت الشمس في ذلك اليوم أن تسطع بقوة رغم برد كانون، نقّلتُ كرسي أبي فوق الصخر الذي غيرته إلى بلاط، حتى لا يسقط وهو يمشي، وحتى يرتاح عندما يعثر على مكان يستلقي فوقه تحت أشعة الشمس، كلما خرج من باب البيت، إلى الساحة، في إجازته الطويلة التي ابتدأت رسمياً منذ عام 1997.

أشرت إلى الشمس قائلة: ما أجملها دون غطاء الغيوم! كان أبي رجلاً عرف الشمس أكثر مما عرفها الشعراء والنحويون. ظلّ يتنقل تحت السماء مباشرة في العراء 70 عاماً من عمره. فهز أبي رأسه، وسألته عن هذه القطعة البيضاء التي تغطي شعره؛ عن "الشورة" التي يضعها فوق رأسه. لم تكن الكوفية الفلسطينية، إنما قطعة بيضاء، فوقها (عقال) أسود مثل حنيش مطوي بفعل فاعل.

لم افكر بالدين ولا بالسياسة ولا بالشعارات الرنانة، ولا بماذا نادت النساء ولا ماذا أردن. كنت وحدي دون جماعة. لم أنضو، طوال حياتي، في أي مجموعة سياسية أو فكرية أو مطلبية، لكنني انضويت في مجموعة سرية ثائرة في نفسي اسمها "الأسئلة"

كانت أمي تلقي قطع الغسيل البيضاء، ومنها "شورة" أبي، في سخان ماء يغلي، وتلقي فوقها حجز النيلي. كان البياض ينطفئ بالزرقة، وكانت الزرقة تتسلل في مسام البياض كأنها دم يتسلل تحت جلد إنسان، فتنسج لوجودها معنى، دون أن تعلنه. ظل الأزرق النيلي طوال طفولتي ويَفاعتي يمثّل حركة سرية تتخفى تحت البياض. رأيت بأم عينيّ كيف ضحّى لون فائر بنفسه كي يفيض لون آخر باردٌ بخيلائه!

سألت أبي: ما الذي يضيفه هذا الغطاء لك؟ قال إنه يقيه من الشرد والبرد. فسألته لماذا لا يضعه من هم أصغر منه سناً، من الشباب، أخوتي وجيلهم، وحتى الجيل الثاني أو الثالث قبل أن نصل للرابع؟ ولماذا كان الغطاء مرة طربوشاً، ثمّ صار كوفية وضعت على الرؤوس والأكتاف؟ ولماذا هي بيضاء ناصعة معه ومع غيره من أبناء جيله، تشبه تلك التي تضعها النساء في بعض القرى القريبة؟ أجاب أبي عن أسئلتي كيفما اتفق. كان تعبير "كيفما اتفق" هو الأنسب لوصف ضياع المعنى في لغة أبي وهو يحاول الإجابة. وعرفت سرّ هذا الضيّاع في اليوم التالي. كان أبي يلقي بإجاباته، كيفما اتفق، لأن عقله كان في مكان آخر. اعترف لي في صباح اليوم التالي أنه لم ينم الليلة الفائتة، وأنّه ظلّ يسأل نفسه ما الذي تريده البنت من هذه الأسئلة؟ وقال إن عنقه تشنج بسبب تلك الليلة الطويلة القلقة. وحاول أن يدوّر رأسه، فلم يستجب رأسه له؛ كانت الاسئلةُ قد جمدت عنقَ أبي في تلك الليلة.

 ارتفع صوت أبي شيئاً فشيئاً. سبقت كلمةُ "الناس" اسمَ "الله"، وسبقت كلمة "العيب" كلمةَ "الحرام"

ثم حللتُ له اللغز وألقيته أمامه؛ فتحت محرمتي ودلقت ما فيها من حصى فوق التراب: "أريد أن أخلع حجابي." سألني مباشرة: لماذا؟ وفكرت أن الصدق وحده منجاتي، فعندما أكون صادقة سيكون صوتي قوياً، وعندما يكون صوتي قوياً، قد لا يخاف أبي. وكنت قد استدللت بقلبي أن ما يفعله الآباء تجاه أبنائهم منطلقه الخوف أيضاً؛ ليس خوفهم فقط، بل خوف من حولهم، إذ يصبحون حراساً على هذا الخوف، ويصبحون خدماً له، عندما يناديهم من دواخلهم، فيخرجون من غرفهم ليطعموه، فأجبته: "لأني لا أحبه." وأتبعت كلامي، فتحول الحجاب لكائن: "وهو لا يحبني." لم افكر بالدين ولا بالسياسة ولا بالشعارات الرنانة، ولا بماذا نادت النساء ولا ماذا أردن. كنت وحدي دون جماعة. لم أنضو، طوال حياتي، في أي مجموعة سياسية أو فكرية أو مطلبية، لكنني انضويت في مجموعة سرية ثائرة في نفسي اسمها "الأسئلة"، فكررت مرة أخرى وأخرى: "وهو لا يحبني."

وفجأة وجدتني وحيدة أمام غطاء رأس أبي الأبيض الناصع، وغطاء رأسي الملوّن، وأمام أبي نفسه.

بدا أبي هادئاً أولاً. لكن هدوءه لم يخدعني. كنت أعرف أن معركتنا هي معركة لغة. صمتٌ، ثم اختيار للكلمات، ثم اختيار للتوقيت المناسب لقولها. قالت لي أختي محذِّرة: "هذا اليوم ليس هو اليوم المناسب." لكنني أصررت. فأنا أعرف أن كل يوم سيظل يوماً غير مناسب لما سأقوله. ارتفع صوت أبي شيئاً فشيئاً. سبقت كلمة "الناس" اسمَ "الله"، وسبقت كلمة "العيب" كلمة "الحرام". ثم سرعان ما طوّر الكلام نفسه بنفسه، فحلّ الله في البداية ومعه كلمة حرام، ثم تلته كلمة ناس ومعها كلمة عيب. أربع كلمات كان من السهل أن تقف مع أي أحد فيبدو على حق، وكان من الطبيعي أن تمنحه منذ البداية إشارة على النصر. وها قد وقفت هذه الكلمات مع أبي ضدي، ووقفت مع الغطاء ضد شَعري؛ هذا الشَّعر الذي ظلّ مكشوفاً حتى عمر الثالثة عشرة، ثم أُسدل عليه الغطاء مرة واحدة، فجأة، كما أُسدل على رأس كل بنت أعرفها من عمري، في القرية التي أعيش فيها، والقرى المجاورة التي تحيط بها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image