شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
إسدال الثّوب على الجسد كأيّ رحلة مستحيلة في التاريخ... عن طرُقي في هذه الرحلة

إسدال الثّوب على الجسد كأيّ رحلة مستحيلة في التاريخ... عن طرُقي في هذه الرحلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 8 نوفمبر 202002:34 م

وصلت متأخرة إلى فعل اختبار اللباس كمادة من قماش، وبدا الأمر، من حيث السُمك والطول والشكل، مهمّة مستحيلة، في تلك الفترة المبكرة من حياتي، كفتاةٍ تعيش في القرية، وكان تحقيق أي خطوة داخل التفكير المسائِل حول الثياب يكاد يكون معجزة!

كانت الثياب أمراً مسكوتاً عنه، ليس لعلاقتها بالجسد المسكوت عنه، بل باعتبارها مادة منفصلة لها دلالتها الخاصة، كأن الثياب وحدها عقيدة. كانت الثياب بيتاً مغلقاً بلا باب، أو ظرفاً لا توجد في داخله رسالة، ولم يوضع على صفحته من الخارج اسما المرسل والمرسل إليه. كان على الظرف ختم فقط، وهو ختم الجماعة التي تعيش مع بعضها البعض في المكان نفسه. كان موضوعُ اللباس كيسَ نايلون فارغاً تماماً، أو ممتلئاً بالفراغ.

من الطبيعي، إذاً، في استبصار حركتي في الحياة، أن أظلّ إلى ما لا نهاية على ما أنا عليه، مثل أي إنسان آخر يعيش متسقاً مع محيطه، حتى الكتابة لم تكن لتُغيّرَ شكلي لو ظلت تتمّ من الخارج، ولم تتحول إلى سكين يسلخ ويجرح في وعيي. لكنني نزفت وتشكلت داخل الكتابة، فإذا كانت لي أمّ، بعد الطبيعة من الجبال والأشجار والوديان، فالكتابة هي أمّي. أما أمّي البيولوجية، فهي السبب الذي سأظلّ لأجله حزينة عندما أفقدها، أو أتذكر فقدانها قبل أن يحدث. أمي البيولوجية حزني الدائم؛ عيني المريضة، ودمعتي الساخنة، أما الكتابة فخلاصي، وأما الطبيعة فهي الحياة نفسها عندما تدبّ الكتابةُ في داخلها خطواتي، وتشعل رئتي بالهواء فأتنفس.

لقد تأخرت بالجهر بفعل الاحتجاج على الثياب، على شكلها، وعلى طولها، وعلى سمكها، وبهذا الصمت أحرزت الأمان، ولم أدفع ثمناً لهذا الأمان حتى ذلك الوقت سوى أن أكون مثل الآخرين، فلم أفكر. كنت جزءاً من الناس الذين حولي، آكل ما يأكلون وألبس ما يلبسون، كان لي لسان يحاول أن يقول شيئاً أحياناً، فيخرج قوله على شكل مزاح، أو هكذا يتمّ تفسيره لتقليل ثمنه، وكان لي مخيلة تنقلني إلى أماكن بعيدة، دون أن يكون لها مصادر تغذيها غير ذاتي، وغير الطبيعة من حولي، وغير بعض التجارب الباهتة التي توفر لي أن أخوضها حتى ذلك الوقت.

لقد تعلمت بالدربة والاكتشاف أن الخيال يسبق الوعي، وأن الوعي أهمّ من المعرفة، وأن السياق هو المختبر الحقيقي لفرز ما اكتسبتُه، وما أريد اكتسابه. أريد أن أقول إنني تأخرت قبل أن أفهم ألّا أكون جميلة هذا يعني ألّا ألفت الانتباه، وأن أحافظ على كوني غير ملفتة للانتباه كانت طريقة خبيثة كي أحظى بالأمان، ولم أفهم، حتى ذلك الوقت، أن هذه الطريقة كانت تتمّ بشكل سرّي، وأنني كنت أتبع روح سرّيتها كأنها ضبع نشب في وجهي بوله، فتبعته أناديه: يابا. يابا.

الإنتاج الثقافي غير الواعي أخطر من المقصود، فليس هناك مجرم فيه، ولا توجد جريمة، في حين أن الكلّ ضحايا! ولقد كنتُ ضحية ما ألبسه، مثلي مثل من عشت بينهم، تحت غطاء الصّمت

كانت أمي بشكل غير مباشر تحرص على فعل التتبع الصامت، لم تكن تقول ذلك بوضوح، ولم تكن تقصده وهي تلمّح إليه وتحثّ عليه بالنظرات والإيماءات وحركات جسدها، لكنها كانت تنتج ذلك التتبع. الإنتاج الثقافي غير الواعي أخطر من المقصود، فليس هناك مجرم فيه، ولا توجد جريمة، في حين أن الكلّ ضحايا! ولقد كنت ضحية ما ألبسه، مثلي مثل من عشت بينهم، تحت غطاء الصّمت.

أمي كانت تحتجّ على كلّ لباس يجعلني أبدو جميلة، وكانت تقوم بدور استباقي لدور أبي. كانت تحمل عنه دوره، بشكل غير واع أيضاً. لقد شربَت الكلامَ الذي تنطق به من الهواء، ومن هنا اكتسبت كلماتها بعض معانيها، ومنها كلمة "كامل" مقرونة باللباس، ومن هذه المعاني أن تظهر المرأة كأنها في وعاء يشبه الوعاء الذي يتحرك فيه الآخرون من حولها، باللون نفسه، والشكل نفسه، فلا تُعرف من هي لو سارت بينهم.

كلمة "كامل" تعني ألّا نختلف عمن يحيط بنا فنحدث فيهم نقصاً باختلافنا عنهم. الفجوة في لباس المجتمع لا يحدثها من يلبس غير ما يلبسه الآخرون حوله، بل إنهم يحدثون فيه الاختلاف عندما يألفون ما يلبسون فيجعلونه عرفاً أو قانوناً أو ثقافة، فيصبح خارجاً عن العرف والقانون والثقافة لأنه ارتدى غير ما ارتدوه.

أول مرة سافرت إلى أوروبا كانت عام 2008، وكنت حينها لا أعرف إلى أين أدير وجه وحدتي. لم آكل جيداً فمرضت، ولم يكن من السهل أن أذهب إلى طبيب في يوم العطلة، وكان من المكلف أن يأتي الطبيب إلى البيت. وهذا ما حدث في النهاية بمساعدة صديقتين مقيمتين في العاصمة.

لكن الأهم أنني عندما سرتُ في الشوارع القريبة من مكان إقامتي، وأنا أبحث عن صيدلية لشراء الدواء، اضطررت أن أبذل جهداً كبيراً كي ألفت انتباه رجل وامرأة يسير كلبهما أمامهما، بخجلي وقلة خبرتي، ومع تركيزهما في خطواتهما بعيداً عني، ثمّ بعد أن انتبها كيف أني لم أستطع أن أخفف حدة الاهتمام الذي صبّاه عليّ وحولي بدافع الرغبة في المساعدة، في حين عاكسني، في شوارع المدينة نفسها، بعد أيّام، عندما كنت متعافية، شابّ عربي. وحين سألته كيف عرفتني، فأعطيتَ نفسك إذنَ معاكستي، قال لأنه عرف أنني عربية، وقد عرف ذلك من حجابي!

رحلة كلّ امرأة تجاه ما ستسدله على جسدها تشبه كل الرحلات المستحيلة، عبر التاريخ، في الحكايات الشعبية، والأساطير، نحو إحضار مشاعل النيران من المغارات البعيدة، أو الأشجار التي ترقص من أعالي الجبال

لقد كان امتلائي بثيابي الثقيلة نقصاً داخل مجتمع ممتلئ بثيابه الخفيفة، فدخل هذا العربي من فجوة الامتلاء داخل النقص إلى امرأة عربية مثله. كان قد كوّن بنية التحرش من داخل وعيه المغطى بغطاء كامل، من داخل الصورة التي نحرص عليها في مجتماعتنا كي تشكّل لبناتنا أماناً يحميهن وهن يخرجن من البيوت، بعد أن يخرجن من تحت العين الفاحصة، بلباسهن الكامل، وبجمال قليل، حتى لا يتمّ الانتباه لهن فيتمّ التحرش بهن!

رحلة كلّ امرأة في ما ستسدله على جسدها تشبه كلّ الرحلات المستحيلة، عبر التاريخ، في الحكايات الشعبية، والأساطير، نحو إحضار مشاعل النيران من المغارات البعيدة، أو الأشجار التي ترقص من أعالي الجبال، أو الأدوية المستخلصة من عصارة الأعشاب النادرة المزروعة في بيوت الوحوش.

كل هذا وكلمة "جسد" تتنقل بين السهولة والاستحالة والإعجاز كي تصف فعلاً بسيطاً يجمع بين اللحم والقماش، بين فعلي الإسدال والتغطية، بين فعلي اختيار اللباس والإجبار عليه، وبين أن يكون لي صوت مخبأ، كأيّ بذرة، تحت التراب، ثمّ يبدأ هذا الصوت في الصعود من تحت التراب، لأنه ينمو بي، من دمي، وعندما يشقّ التراب يشقّه مثل فقع أنف العجل، لطيفاً وناعماً وطرياً!

لكن الصوت الكاشف عن المعنى يصبح في هذه اللحظة، كارثة. هكذا سيفسر الجميع الصوتَ العادي عندما يخرج من فم فتاة، وهي تحتجّ على لباسها، ولا يمكنني تسمية الصوت الكارثة "ثورة"، بل أريد أن أختار له تعبير "تصحيح المسار"، لأني لا أريد أن أعطي المالك صفة المستأجر، ولا ابن الأرض صفة المحتل. أريد وأنا أختار ما ألبسه أن يقال: "تلبس ثوباً جميلاً عليها"، وليس: "ثوباً ثائراً جميلاً."

قد لا يتفق معي كثيرون وقد قررت أن أحافظ على هذا النمط من إدارة المسألة، عندما أُسأل، فأحرص أن لا أثير زوبعة حول ما ينعته المدافعون بـ"التابو". إنه من وجهة نظري فعل لغوي غرضه تسهيل تبادل ركل المعنى كالكرة بين من مع ومن ضد، وأنا لست مع ولست ضدّ؛ أنا معي، أنا لي. وكل امرأة لنفسها، ومع نفسها، ولو فعلت واخترت فعل الثورة لكنت أغذي رواية الانتزاع. والحق يبدأ بفقد صفاته وأخذ ملامح أخرى عندما تغرس في فخذه حقنة الانتزاع، ومن يفعل ذلك يقف على الطرف الآخر من الملعب. وهذا اللعب ليس سوى مضيعة للعمر بكامله، بين أصحاب النظرية من جهة وبين أمي التي ردّت، عندما خرج صوتي من فمي ذات يوم فقلت لها: "أريد أن أخلع حجابي."، قائلة: "لو بقيتِ كما أنت لحددتُ عليك طوال حياتي."

لقد بدا وعد أمي، حبيبتي، وصديقتي العجوز، غريباً جداً، يجمع بين رضى الأم، مقروناً بالفقدان والتأسي، وعلاقته بهذا الشيء الزائل. لقد تبخرت فجأة المعرفة الجذرية بي، في البيت، وخارج البيت، على مدى سنوات، منذ حبوت وحتى مشيت، وعملت في الأرض، وتعلمت، واجتهدت، وسافرت، وكتبت، وهأنذا، لقد سقطت أمام وعي أمي وأمام بصر الجماعة المتسقة، بصوت واحد، من مطالبة واحدة، أدرتها علناً، بقوة وصدق ودون حرص على الإبهار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard