شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كانت

كانت "رابعة الثلاث" ومدينة إسلامية مزدهرة... ماذا حصل ليتردى حال القيروان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 27 نوفمبر 202011:42 ص

بعد اختيارها عاصمةً للثقافة الإسلامية لعام 2009 من قبل "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة"، تحولت محافظة القيروان التونسية (الوسط الغربي) إلى مصدر للسخرية من قبل تونسيين كثر، جرّاء ارتفاع نسب الجريمة والعنف والفقر فيها، حتى أصبح الانتماء إليها بمثابة وصمة عار.

لا يُشبه حال القيروان اليوم ما كانت عليه في زمن سابق، منذ أنشأها القائد الفاتح عقبة بن نافع عام 670 (50 للهجرة)، وهو تاريخ بداية الحضارة العربية الإسلامية في المغرب العربي.

وتُسمّى القيروان عاصمة الأغالبة ومدينة الثلاثمئة مسجد ورابعة الثلاث أي بعد مكة والمدينة وبيت المقدس.

منزلة دينية عظيمة

كانت القيروان منطلقاً للفتوحات الإسلامية في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى وجنوب الصحراء والأندلس، وتتمتع بمنزلة عظيمة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية منذ تأسيسها إلى اليوم بمساجدها، خصوصاً "الجامع الأعظم جامع عقبة"، حسب ما يوضح مدير "المعهد العالي للعلوم الإسلامية" الدكتور الحبيب العلاني لرصيف22.

وشكّلت "رابعةُ الثلاث" عبر قرون طويلة هوية سكان المغرب الإسلامية من خلال ترسيخ العقيدة السنية باحتضان المذهب المالكي، وكانت عبر تاريخها المتقلب مدافعةً عن تلك المرجعية ومستميتةً في الذود عن العلوم الإسلامية والثالوث المشكِّل للمرجعية السنية، وهو العقيدة والفقه والأخلاق، على ما يضيف العلاني.

ويشرح مدير "المعهد العالي للعلوم الإسلامية" بأن صلة الصحابة بالقيروان تعود إلى عام 27 للهجرة، إذ تدعّمت ببعثة الفقهاء العشرة الذين بعث بهم الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز وذلك عام 100 للهجرة. حينها، استقر الفقهاء في المدينة وركزوا فقهها، لتتكرّس هذه الصلة العلمية برحلات الأفارقة في طلب الحديث والفقه، وظهور علماء مثل عبد الله بن فروخ وعبد الله بن غانم وعيسى بن مسكين وسحنون وأسد بن الفرات وغيرهم.

ازدهارٌ علمي كبير

عرفت القيروان ازدهاراً علمياً كبيراً منذ منتصف القرن الثاني إلى حدود منتصف القرن الخامس للهجرة، وظهر في تلك الفترة علماء كبار مؤسسون في مجالات عدة مثل التفسير والفقه واللغة والأدب والشعر والطب والهندسة والفلك، خاصة في الفترة الأغلبية على غرار "المدوّنة" لسحنون و"تفسير القرآن" للقاسم بن سلام و"الملخص" لأبي الحسن القابسي و"تفسير الهداية" لمكي بن أبي طالب.

ويقول العلاني: "برز في الطب ابن الجزار، وفي النقد الأدبي ابن رشيق، وظهر بيت الحكمة في الترجمة والفلك والهندسة، وتم الانفتاح على جنوب أوروبا عبر الصلات العلمية مع صقلية والأندلس ومن خلال حركة الترجمة، كما اتسع عمران القيروان اتساعاً كبيراً وظهرت مدنٌ جديدة قريبة منها، كرقادة وصبرة المنصورية، وأصبحت موئل طلاب العلم مشرقاً ومغرباً".

رخاءٌ اقتصادي

من جهة أخرى، شهدت القيروان رخاءاً اقتصادياً كبيراً، فكانت ملتقى وممرّ الطرق التجارية وازدهرت فيها العديد من الصناعات كالزجاج والمعادن النفيسة والجلد والسجاد، وأصبحت مثالاً يُحتذى به للمدينة العربية الإسلامية التي عرفت الدُّور والقصور والمستشفيات والأسواق والحدائق والبساتين.

ارتفاع نسب الفقر والجريمة فيها، جعل الانتماء إليها وصمة عار... لا تُشبه القيروان اليوم تلك التي أنشأها القائد الفاتح عقبة بن نافع، فشهدت لزمن طويل ازدهاراً علمياً واقتصادياً ودينياً، حتى عُرفت بعاصمة الأغالبة ومدينة الثلاثمائة مسجد و"رابعة الثلاث" بعد مكة والمدينة وبيت المقدس

حول هذه النقطة، يلفت العلاني إلى أن "حركة التجارة والصناعة ازدهرت في القيروان، بما جعلها عاصمةً لم يقتصر دورها على محيطها بل عرفت حضوراً مسيحياً من خلال الصناعات العديدة، ومدونة سحنون تشهد على هذا الحضور".

وزاد الرخاء الذي عرفته القيروان في مختلف القطاعات من عدد الوافدين عليها في مختلف الفترات التاريخية، ومن أبرز مظاهر هذا الرخاء كثرةُ الفسقيات (معالم هيدروليكية تاريخية يعود الفضل في ابتكارها للأغالبة) التي ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وشاهدة على ما لعبته من دور هام في حل مشكلة الجفاف الذي يغلب على مناخ القيروان، وكثرةُ المدارس والزوايا (بيوت الأولياء الصالحين).

"أوضاعٌ متردية جداً"

تاريخٌ عريقٌ وماض مزدهرٌ لا يعكسان واقع عاصمة الأغالبة الحاضر، بحسب ما تُظهره الأرقام الرسمية.

تحتل القيروان المرتبة الأولى وطنياً في نسبة الفقر بـ34.9% وتبلغ نسبة الفقر المدقع فيها 10.3%، حسب آخر إحصائيات "المعهد الوطني للإحصاء" لأيلول/ سبتمبر عام 2020، كما تحتل المرتبة الأولى وطنياً في نسبة الأمية في حدود 35%، وفق آخر أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية لعام 2019.

وتسجل القيروان أعلى نسبة تسرّب مدرسي على المستوى الوطني بـ33.89%، فيما تحتل المرتبة الثانية في نسبة العنف المسجل بـ11.95% حسب أرقام عام 2019، وفق تصريح رئيسة "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية - فرع القيروان" سوسن الجعدي لرصيف22.

والمنتدى منظمةٌ حقوقية مستقلة تأسست عام 2011، بهدف نشر ثقافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

تلفت الجعدي إلى أن القيروان عرفت 1807 تحركاً احتجاجياً العام الماضي على خلفية مطالب اجتماعية كالتشغيل وتوفير المياه الصالحة للشرب، كما تصدرت ترتيب نسب الانتحار بـ48 حالة انتحار ومحاولة انتحار السنة الماضية، و69 حالة عام 2018.

أرقامٌ تعتبرها المتحدثة "خير دليل على الأوضاع المتردية جداً التي تعيشها القيروان رغم مواردها وثرواتها الكبيرة والمتنوعة باحتلالها العام الحالي المرتبة الأولى في إنتاج المشمش والثانية في إنتاج الزيتون، إضافة إلى مصانع استخراج وتعليب الماء المعدني ومقاطع الحجارة".

وبحسب ملاحظات المتابعين لشؤون القيروان، تتعدد الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانة ودور المدينة على كل المستويات، وعلى رأسها سياسات الحكومات المتعاقبة في تونس التي أخلّت بتعهداتها تجاه المحافظة.

"حبر على ورق"

يقول عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع القيروان رضوان فطناسي إنه تم عقد مجلسين وزاريين خاصين بالقيروان، الأول عام 2015 برئاسة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد والثاني عام 2017 برئاسة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد الذي تحوّل إلى المحافظة وتم إقرار حزمتين من القرارات، لكن لم تنفذ إلا نسبة 34% منها.

ومن أبرز الإجراءات التي أُعلن عنها خلال هذين المجلسين، والتي تمثل مطلباً شعبياً ملحاً في القيروان وبقيت حبراً على ورق، هي انطلاق أشغال المستشفى الجامعي في المحافظة التي تضم 700 ألف ساكن ولا تمتلك سوى ثلاثة أسرّة إنعاش وطبيب إنعاش واحد، وفق تصريح الناشط في المجتمع المدني في المنطقة محمد ماهر.

ويشدد فطناسي، في حديثه لرصيف22، على أن الدولة "لم تصدر هذه القرارات في الرائد (الجريدة) الرسمي للجمهورية التونسية وأنها لم تتدخل تدخلات كبرى من أجل حل المشاريع المعطلة في المنطقة".

كما يلفت إلى أن تبعية القيروان الإدارية لمحافظة سوسة الساحلية من أسباب تدهور الأوضاع التنموية فيها، قائلاً: "قمنا بحملة للمطالبة بمنح القيروان الاستقلالية الإدارية ليس من منطلق جهوي وإنما لوضع حد لتعطيل عملية التنمية فيها ولتوفير الخدمات لسكانها".

ويضيف أن غياب مؤشرات الاستثمار في القطاع الخاص بسبب انعدام المناطق الصناعية التي تستقطب المستثمرين إلى جانب التباطؤ في تنفيذ مخططات التنمية، كذلك من أسباب تردي أوضاع القيروان.

سياسات التهميش

يعزو ماهر الوضعية الاجتماعية والاقتصادية الهشة لعاصمة الأغالبة إلى سياسات التهميش المتعاقبة لدولة ما بعد الاستقلال على مدى 63 عاماً، والقائمة على تمييز المناطق الساحلية على حساب الداخلية، فيقول: "تتركّز في الشريط الساحلي المشاريع الكبرى والطرقات والنزل والمصانع والبنية التحتية المتطورة على عكس المدن الداخلية المحرومة".

ويعتبر، وفق حديثه لرصيف22، أن هذه السياسات تواصلت بعد الثورة رغم تنصيص دستور 2014 على التمييز الإيجابي للمناطق الداخلية، "إلا أن القيروان لم تتمتع سوى بالتمييز السلبي العكسي".

وينص الفصل 12 من الدستور التونسي على أن "تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي".

عرفت القيروان ازدهاراً كبيراً حتى حدود منتصف القرن الخامس للهجرة، وظهر فيها علماء كبار في مجالات التفسير والفقه واللغة والأدب والشعر والطب والهندسة والفلك... اليوم، تحتل القيروان المرتبة الأولى في تونس في نسبتي الفقر والأمية والمرتبة الثانية في نسبة العنف

من جانبها، ترى رئيسة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فرع القيروان سوسن الجعدي، أن "ما تعانيه اليوم القيروان هو نتيجة عقود من سنوات التهميش والحقرة (احتقار)".

ويشترك المتحدثون لرصيف22 في تحميل مختلف الحكومات التونسية مسؤولية تردي العيش في القيروان وتراجع قيمتها الحضارية، بينما يُذكّر ماهر أن حكومات ما بعد الثورة لم تنفّد قراراتها التي أصدرتها ولم ترصد الموارد المالية لذلك، فيما ترى الجعدي أن هذه الحكومات "تتبع سياسة المماطلة والتسويف التي ملّ منها المواطنون".

بالنسبة لمدير "المعهد العالي للعلوم الإسلامية"، فإن القيروان "تعرضت بحلول الاستقلال إلى تهميش ممنهج أثّر سلباً على منوال التنمية بها.

ويوضح هذه المسألة قائلاً: "تم رصد ميزانيات كبيرة لجهات أخرى على حساب جهة القيروان، فيما عمل الحكام الجدد على طمس هويتها وتهميش وعرقلة دورها التاريخي والديني والحضاري تنكراً منهم لهويتها الأصلية واستخفافاً بدورها وتراثها، وعلّل بعض المسؤولين هذا التهميش بأن المدينة أخذت حظها في التاريخ، فهجرها عددٌ كبيرٌ من أبنائها وبحثوا عن جهات أخرى استثمروا فيها".

ويشير إلى أن "تصنيفها في العهد النوفمبري (فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين ين علي) كان جهة زراعية، فلم يتمتع أبناؤها بإحداث المؤسسات الاقتصادية وبقيت صورتها باهتة أكثر من ستين عاماً، لتتراكم عليها تبعات الجهل والفقر وتصبح بؤرة من بؤر الإجرام والانحراف"، وهكذا "احتلت المراتب الأولى في الانتحار والأمية والتفكك الاجتماعي وتعاطي الزطلة (المخدرات) والتفكير في الهجر".

ويشدد العلاني على أن "مأساة القيروان تفاقمت في ظل الوعي المتدني بعد ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011 التي فتحت باب الأمل ثم مُنيت منطقة القيروان بخيبة أمل بسبب الصراعات الحزبية وعدم الاستقرار السياسي وتعاقب الحكومات التي كانت أياديها مرتعشة فلم تسعف المنطقة بما تستحق، رغم المقدرات الطبيعية والثروات المتنوعة التي تملكها ولتبقى القوانين معطلةً لكل مبادرة حقيقية وفاعلة".

أما فطناسي فيُحمّل نواب القيروان المسؤولية ويقول "لاحظنا تخاذلاً وتقصيراً من قبلهم في حل مشاكل المحافظة، ونحن بحاجة إلى أن يدافع نواب القيروان التسعة باختلاف انتماءاتهم الحزبية بشراسة عن حقوقنا".

بدورها، ترى الجعدي "أن نواب القيروان لم يكونوا في مستوى انتظارات المواطنين الذين انتخبوهم ولو يبلّغوا أصواتهم ومطالبهم للسلطات المركزية".

و"للسلطة الجهوية يدٌ كذلك في الحال المتردية التي صارت عليها اليوم القيروان"، بحسب فطناسي، فـ"هي لم تتحمل مسؤولياتها ولم تقم بواجباتها باعتبار دورها كمنسق بين الإدارات الجهوية والمركزية لفض المشاكل اليومية والمشاكل التنموية العالقة".

هذه السلطة تتهمها الجعدي بأنها تعطل إنجاز المشاريع في القيروان، حيث "تبلغ نسبة الإنجاز 38% فقط، فلا يتم صرف كامل الميزانية التي ترصد للقيروان ويتم نهب جزء هام منها"، حسب تصريحها.

مطالب أهل القيروان

"نحن لسنا بحاجة إلى قرارات جديدة وإنما بحاجة إلى تعهد الدولة بالتزاماتها السابقة التي أقرتها بانطلاقها في إنجاز المشاريع المعطلة في مختلف القطاعات التربوية والصحية والصناعية بسبب مشاكل مالية"، يلخص فطناسي مطالب سكان القيروان.

كما ينادي ماهر بـ"تغيير سياسات الدولة التنموية والتركيز على تنمية المناطق الداخلية وعلى رأسها القيروان".

و"دفاعاً عن الاستحقاقات التنموية للقيروان"، طالبت إحدى عشرة منظمة وجمعية في المنطقة، من بينها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، في رسالة مفتوحة إلى رئاستي الجمهورية والحكومة ونواب المحافظة يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي بـ"التعاطي الجدي مع مطالب المواطنين وحقهم المشروع في التنمية والتشغيل وتطوير البنية التحتية".

وأكدت "استعدادها التام للدخول في كل الأشكال النضالية المشروعة للدفاع عن المطالب الملحة للمنطقة في صورة تمادي التجاهل والتسويف".

يشار إلى أن الاتحاد الجهوي للشغل بالقيروان أعلن يوم 3 كانون الأول/ ديسمبر المقبل تاريخاً لتنفيذ إضراب عام في المحافظة سيشمل كل المجالات، وذلك احتجاجاً على تردي الأوضاع في القيروان إلى أدنى مستوياتها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image