أعلنت موسكو رسمياً عن اتفاق مع السودان لبناء ثاني أكبر منشأة بحرية عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد قاعدة طرطوس في سوريا والتي استخدمتها للتدخل عسكرياً ضد الثورة السورية.
يوجد خلاف كبير حول تعريف هذه المنشأة، إذ تقول مسودة الاتفاق التي نشرتها السلطات الروسية إنها "مركز لوجستي"، فيما تصفها تقارير روسية بأنها قاعدة عسكرية مزودة بأسلحة دفاع جوي لحمايتها.
وعن قبول السودان بوجود هكذا قاعدة على أراضيه، يعتقد باحثون أن النظام العسكري الحاكم وافق على إنشاء القاعدة الروسية لأن موسكو تساعد في حفظ الاستقرار الداخلي وحماية الدول عكس الولايات المتحدة الأمريكية.
الاتفاق
في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، وافقت الحكومة الروسية على اتفاقية مع السودان حول إنشاء "مركز لوجستي" للبحرية الروسية على أراضيها، وتم نشر الوثيقة على بوابة المعلومات القانونية.
تُشير الإحداثيات الجغرافية الواردة في الوثيقة إلى أن المركز اللوجستي للبحرية الروسية سيكون في مدينة بورتسودان، الواقعة على البحر الأحمر.
بحسب مسودة الاتفاق، يوفّر السودان أرضاً مجانية للمركز الروسي، ويستقبل ما لا يتعدى الأربع سفن، بما في ذلك تلك التي تعمل بالطاقة النووية، على ألا يتجاوز عدد الأفراد العسكريين في القاعدة الثلاثمائة.
كما ستحصل روسيا، بموجب الاتفاقية، على حق استيراد وتصدير عبر الموانئ والمطارات السودانية "أي أسلحة وذخائر ومعدات" لازمة "لتشغيل المنشأة ولأداء مهام السفن الحربية"، دون تحصيل رسوم استيراد أو تصدير.
وينص الاتفاق على أن السفن الحربية الروسية التي ستتواجد في السودان ستكون مصانة، وتتمتع بالحصانة من أعمال التفتيش والاعتقال، كما ينص أنه سيتم نقل أسلحة خاصة بالدفاع الجوي إلى المنشأة البحرية في بورتسودان لحمايتها.
"ستوسع روسيا نفوذها إلى البحر الأحمر حتى المحيط الهندي، فتبعث برسالة أنها مهتمة بتطوير البرامج المشتركة مع دول إفريقية، و"المركز اللوجستي" جزء من هذه الرسالة... لا يجب أن يُفهم من إنشاء المركز في السودان أن روسيا تريد تكرار تجربة قاعدتها في سوريا"
في المقابل، تقدم روسيا للسودان مساعدة مجانية في عمليات البحث والإنقاذ البحري وتدعم جهود "مكافحة التخريب"، دون تقديم تفاصيل إضافية حول هذه النقطة.
يُطلق الاتفاق على المنشأة اسم المركز اللوجستي لروسيا، ويصفه بأنه "دفاعي وليس موجهاً ضد الدول الأخرى" و"يلبي أهداف الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة".
وأفاد موقع Meduza، وهو منصة روسية أقرب الى المعارضة تم إنشاؤها في لاتفيا، عن رؤية أربع سفن تشبه السفن الحربية الروسية في بورتسودان، حيث قررت روسيا إنشاء القاعدة.
لماذا السودان؟
عملت روسيا في السنوات الأخيرة على استعادة نفوذها الاستراتيجي في الحقبة السوفياتية في إفريقيا، من خلال الاستثمارات في صناعات الطاقة والمعادن.
حول اختيار روسيا لإنشاء قاعدة في السودان، يقول الباحث الروسي في شؤون الشرق الأوسط أندريه أونتيكوف إنه من المبكر أن يكون هناك حديث عن قاعدة عسكرية، بل يُقال إنه مركز لوجستي.
ويضيف في حديثه لرصيف22: "بالنسبة للنوايا والمصالح الروسية، ليس سراً أن نشاهد الاهتمام الروسي المتزايد تجاه القارة الأفريقية"، مذكّراً أن "في العام الماضي عُقد اجتماع واسع جداً في مدينة سوتشي الروسية اسمه روسيا وأفريقيا، وشارك فيه قادة عدة دول إفريقية وممثلون رفيعو المستوى".
وعليه، يرى أونتيكوف أن المركز اللوجستي سيسمح لروسيا أن تعمق التعاون مع بعض الدول الإفريقية في المجالين الاقتصادي والعسكري على صعيد التدريب والتسليح والصفقات العسكرية وغيرهما من المجالات الأخرى.
وبرأيه، ستوسع روسيا نفوذها إلى البحر الأحمر حتى المحيط الهندي، فتبعث برسالة مفادها أنها مهتمة في تطوير البرامج المشتركة مع عدة دول إفريقية، و"المركز اللوجستي" جزء من هذه الرسالة، مشدداً أنه لا يجب أن يُفهم أن إنشاء المركز يعني أن روسيا تريد تكرار تجربة القاعدة الروسية في سوريا، وأنها ستشارك في أية عمليات عسكري في هذا البلد.
وعلى الرغم من هذا التأكيد، احتوى الاتفاق على بند يقول إن موسكو ستساعد السودان في "مكافحة التخريب" دون أي توضيح.
وفي الأشهر القليلة الماضية، أظهرت تقارير دولية موثوقة تكرار روسيا لذات التجربة من خلال إرسال طائرات حربية ومقاتلين من شركة "فاغنر" التابعة للكرملين للقتال في ليبيا، كذلك تحدثت تقارير عن وجود مقاتلين من ذات الشركة في إفريقيا الوسطى.
في تفاصيل أكثر، كشف تقرير نشرته "Nezavisimaya"، وهي صحيفة يومية مستقلة في روسيا، في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، أن رئيس الأركان السابق للبحرية الروسية الأدميرال المتقاعد فيكتور كرافشينكو رأى أن نشر قوات روسية في بورتسودان سيعزز الوجود الروسي في إفريقيا ويوسع القدرات التشغيلية للأسطول الروسي.
ونقل كاتب التقرير الصحافي فلاديمير موخين أن "هذا الانتشار مهم للسفن الحربية الروسية التي تقوم بمهام مكافحة القرصنة وتشارك في حراسة القوافل"، مشيراً إلى أن مدة هذه الاتفاقية تصل إلى 25 عاماً قابلة للتجديد، وذلك لخدمة أهداف كبيرة لروسيا.
حسب موخين، للقاعدة أهداف تتخطى محاربة القرصنة، إذ يرجح أن يكون إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر بمثابة رد على احتمال فرض عقوبات جديدة من قبل الولايات المتحدة، ضد بناء خط الغاز "نورد ستريم2" الروسي.
وكان الكونغرس الأمريكي قد طرح قانوناً بفرض عقوبات على خط "نورد ستريم2" من أجل عرقلة نقل الغاز الروسي الى أوروبا، لذلك يعتقد كثيرون أن موسكو ربما تبعث رسالة الى واشنطن أنها تتحكم أيضاً بعبور النفط من البحر الأحمر إلى الغرب.
ويقول موخين: "القاعدة تسمح بالسيطرة على البحر الأحمر وأهم الطرق لنقل الهيدروكربونات من قبل حلفاء الولايات المتحدة، لذلك في حرب عالمية، تكون البحرية الروسية قادرة على منع المرور الجماعي لناقلات الغاز المسال والنفط".
ويلفت إلى أن هناك قضية ثالثة مهمة تتعلق بمصالح روسيا الاتحادية في شمال إفريقيا، إذ تتحدث تقارير إعلامية عن مشاركة مرتزقة سودانيين في صراعات في عدد من الدول المجاورة.
كانت حكومة الوفاق التي تسيطر على طرابلس الليبية اتهمت قوات الجنرال خليفة حفتر باستخدام مرتزقة من قوات الدعم السريع السودانية في الحرب التي شنها مؤخراً على العاصمة، وهو ما يعني أن روسيا ربما قلقة من احتمالية استخدام هؤلاء ضد مصالحها في المستقبل.
في نهاية التقرير يشير موخين إلى أن روسيا تلاحق تركيا التي استأجرت جزيرة سواكن السودانية، ومن المحتمل أن تنشئ قاعدة عسكرية فيها.
وكان تقرير نشره "معهد وارسو" عام 2018 قد كشف أن موسكو أصبحت مهتمة بشكل متزايد بالسودان، حيث اكتشف مهندسون روس عام 2015 رواسب كبيرة من الذهب.
وفي عام 2016، اتضح أن روسيا وافقت على تصدير 170 دبابة قتال رئيسية من طراز "T-72" إلى السودان، وفي تموز/ يوليو عام 2017، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوداني (وقتها) عمر البشير لزيارة روسيا، ثم أرسل طائرة روسية إلى الخرطوم لتأمين رحلته إلى موسكو.
طلب البشير من بوتين على الفور حماية بلاده من الولايات المتحدة، متهماً الأخيرة بتقسيم جنوب السودان الغني بالنفط عام 2011، وواعداً إياه بأن دولته المتمركزة جيو استراتيجياً على البحر الأحمر يمكن أن تكون "مفتاح موسكو لإفريقيا".
وذكر تقرير "وارسو" أن البشير اقترح بعدها إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر في منطقة بورتسودان.
من جهته، يقول الباحث السوداني في الدراسات الاستراتيجية وائل علي إن الاتفاقية تمت مناقشتها عام 2019 من قبل النظام الحاكم حالياً بعد عزل البشير، وصدق عليها لأن الجيش اعتمدها، وفي عام 2020 أصبحت جاهزة للتنفيذ.
ولم يكن السودان المحطة التي تريدها روسيا، إذ كانت موسكو قد بدأت البحث عن طرق لإنشاء قاعدة دائمة في جيبوتي التي تستضيف بالفعل قواعد بحرية صينية وأمريكية، لكن مصدراً مطلعاً ذكر لموقع "Defense News" الأمريكي أن المفاوضات فشلت مع جيبوتي.
لماذا روسيا؟
في شرح لأسباب قبول السودان بالقاعدة، يوضح علي أن إنشاء القاعدة الروسية عبارة عن امتداد لاتفاقية دفاعية وقعتها موسكو مع البشير عام 2017، وتم التأكيد عليها في 2019 والانتهاء من البنية التحتية القانونية للاتفاق عام 2020.
ويشير أن "قوى الحرية والعدالة التي تشارك في الحكم حالياً مع العسكريين صامتة حول الإعلان عن إنشاء القاعدة، والصمت يعني موافقة ضمنية"، موضحاً أن "منطقة البحر الأحمر التي تشهد نزاعات حادة، أصبحت خطرة للغاية، وتأمينها يتجاوز حدود الدول الوطنية وقدراتها".
إنشاء القاعدة الروسية عبارة عن امتداد لاتفاقية دفاعية وقعتها موسكو مع البشير عام 2017، وتم التأكيد عليها في 2019 والانتهاء من البنية التحتية القانونية للاتفاق عام 2020... ماذا بعد إعلان موسكو عن اتفاقها مع السودان حول ثاني أكبر منشأة بحرية عسكرية في منطقة الشرق الأوسط؟
ويعلق في حديثه لرصيف22 بالقول: "في ظل وجود قواعد لقوى عظمى في بلدان مجاورة، مثل قواعد صينية وأمريكية وفرنسية في جيبوتي، وإماراتية في أرض الصومال وإريتريا وتركية في الصومال وإيران في اليمن، بحثت السودان أيضاً عن حليف"، مردفاً أن "الحفاظ على السيادة بات يتطلب الاستناد على إحدى الدول العظمى، وروسيا كانت خيار البشير، وبعد عزله التزمت القيادة العسكرية الجديدة بالاتفاق لأن دراسته تمت بشكل جيد في الجيش".
وبحسب معلوماته، "كان هناك عرض أمريكي لإنشاء قاعدة لكن لم يكن هناك ثقة في واشنطن، فلم تتم مناقشته"، لأن السودان على قول علي "يعتبر أن القواعد الأمريكية لا تحمي الدول التي تتواجد فيها، مثلاً في حالة قطر، فقد لجأت لأنقرة، إذ لم تثق الدوحة أن واشنطن سوف تحميها".
ويشير علي إلى أن الجانب الأمريكي يظهر أنه غاضب من الاتفاق الروسي السوداني، بدليل أن وفداً من الأمن القومي كان مقرراً له أن يزور الخرطوم خلال الأيام الماضية، لكن تم إلغاء الزيارة، بعد نشر المسودة.
اللافت أن روسيا نشرت المسودة في الوقت الذي وعد فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأول مرة بإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكنه مدد حالة الطوارئ الوطنية في ما يتعلق بالسودان لمدة عام بعد أن قدمت الخرطوم تنازلات على شكل دفع تعويضات لضحايا الهجمات الإرهابية والموافقة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
بحسب تقرير نشره الباحث الأمني الروسي أنطون مارداسوف في موقع "المونيتور" الأمريكي، فإن السودانيين قد يستعدوا في المستقبل لاستخدام علاقاتهم مع روسيا كورقة في العلاقات مع الولايات المتحدة، إذا وافقت إدارة جو بايدن على رفع العقوبات الحالية.
وبحسب مارداسوف، فإن السودان ربما يتراجع عن قراره بشأن القاعدة العسكرية، على الرغم من اهتمام الخرطوم بتلقي معدات عسكرية من روسيا.
التحديات
طرح التقرير الذي نشرته مجلة "Nezavisimaya" عدداً من التحديات، أولها أن الحفاظ على قاعدة عسكرية في السودان قد يكون مكلفاً لموسكو، إذ يشير التقرير إلى وجوب الأخذ في الاعتبار الوضع السياسي غير المستقر في السودان، خصوصاً أن الخرطوم تشهد حالياً مرحلة انتقالية لتشكيل سلطة رئاسية جديدة.
ومن غير المعروف هل سيقرر من يقودون السودان خلال السنوات الخمس والعشرين القادمة بقاء القاعدة العسكرية الروسية على أراضيهم، فهناك قوى سياسية في البلاد يدعمها الغرب وتركيا.
"ما من دولة اعترضت حتى الآن على القاعدة الروسية في السودان، عكس المرات السابقة حين أثار الوجود الإيراني اعتراض السعودية أو عندما قررت تركيا التواجد في سواكن فجاء الرفض مصرياً".
ويكشف مارداسوف أن هناك عقبات موضوعية، ومنها كيفية الوصول سريعاً للقاعدة التي تبدو منعزلة بعيداً، مشيراً الى أن الطريق الأقرب سيكون عبر قاعدة حميميم الجوية في سوريا، ومحذراً من أن موسكو ليس لديها السفن الكافية التي تسير مسافات طويلة.
ويلفت كذلك إلى أن القاعدة تقع بالقرب من مدينة يبلغ عدد سكانها 600 ألف مدني، ولا توجد موارد طاقة كافية في السودان لتشغيل هذه المنشأة البحرية.
ويشير الباحث الأمني إلى أن القاعدة سيتم تشغيلها بواسطة مولدات الديزل التي تستخدم وقوداً سيتم شحنه من روسيا، وتكاليفه مرتفعة للغاية، كما يلفت إلى تحدٍّ آخر وهو وقوع بورتسودان مقابل مدينة مكة في السعودية، إذ يتوقع خبراء أن تنشر روسيا أصولاً للاستطلاع في هذه المنشأة، بالإضافة إلى قوات خاصة وشركات عسكرية الخاصة.
وبحسب تقرير "وارسو"، قد تعتبر السعودية وجود قاعدة روسية تقع على بعد 300 كيلومتر فقط من جدة تهديداً لأمنها، وكذلك لأمن إمدادات النفط والغاز من الخليج العربي إلى أوروبا، لافتاً إلى أن هناك دولة أخرى لن تكون راضية عن مثل هذه الحالة وهي الصين لأنها تبني منطقة نفوذها في إفريقيا منذ فترة طويلة.
في هذا السياق، يقول أونتيكوف إنه لا يوجد أي سبب يدعو السعودية للقلق، لأن موسكو تسعى دائماً للتعاون معها، أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن واشنطن لن ترحب بهذه الخطوة لأنها تعطي بوتين مزيداً من الأوراق في المنطقة.
من جانبه، يشير علي إلى أن ما من دولة اعترضت حتى الآن على القاعدة الروسية في السودان، عكس المرات السابقة حين أثار الوجود الإيراني اعتراض السعودية أو عندما قررت تركيا التواجد في سواكن فجاء الرفض مصرياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه