لم يكن لقاء الرئيس المؤقت للمجلس السيادي السوداني الانتقالي عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي، في أوغندا، في الثالث من شباط/ فبراير 2020، الأول في مسار الخرطوم الرسمي نحو التطبيع، لكنه كان الأكثر زخماً وعلانية، وبتمثيل عالٍ.
في خرطوم "اللاءات الثلاثة"، ظلت الحكومات السودانية المتعاقبة تتعامل مع العلاقة بإسرائيل بمبدأ "الكومبرادورية" السياسية، أي بالوكالة والنيابة عن دول عربية أخرى، وكل شيء بثمنه.
علاقات قديمة متأرجحة
يعود تاريخ العلاقات السودانية-الإسرائيلية إلى وقت مبكر نسبياً، إلى منتصف القرن العشرين.
في تقرير نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في 23 آب/ أغسطس 2007، نقلت عن مذكرات رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق موشيه شاريت أن زعيم حزب الأمة السوداني زار تل أبيب سراً في آب/ أغسطس 1956، والتقى ديفيد بن غوريون وغولدا مائير.
وأشار التقرير إلى أن الزائر أوضح لهما أن جمال عبد الناصر هو العدو المشترك للطرفين، ووعده الإسرائيليون بمبلغ من المال لشراء ماكينة طباعة، وإرسال شخص لفحص إمكانية افتتاح مصرف في الخرطوم يتصل بمصرف إسرائيلي في أوروبا، بجانب تقديم مساعدات كبيرة لتطوير زراعة القطن.
وقتها كان زعيم الحزب ورئيسه الصديق عبد الرحمن المهدي، والد الصادق المهدي، رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب الأمة الحالي، وهو ذات الشخص الذي أشارت الوثيقة البريطانية رقم 10332/2/954، الصادرة عن مكتب المفوض التجاري للمملكة المتحدة في الخرطوم، في 6 آب/ أغسطس 1954، إلى أنه التقى بالسكرتير الأول للسفارة الإسرائيلية في بريطانيا مردخاي جازيت، في فندق سافوي في لندن، برفقة القيادي في حزبه محمد أحمد عمر.
معلومٌ أيضاً أن الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري سهّل عملية ترحيل اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) عام 1983 عبر السودان إلى بلجيكا، قبل انتقالهم إلى إسرائيل، نظير مبلغ مالي. ومن أجل الترتيب لهذه الصفقة، التقى بوزير الدفاع الإسرائيلي حينها آرييل شارون في منتجع في كينيا، عام 1981، بترتيب من تاجر السلاح ورجل الأعمال السعودي الشهير عدنان خاشقجي.
ومع أن موقفها المعلن والصارخ هو الوقوف بجانب القضية الفلسطينية ومقاطعة الدولة الصهيونية وعدم التطبيع معها مهما كلّف الأمر، إلا أن حكومة عمر البشير، الأكثر راديكالية بين كافة الحكومات السودانية، ظلت تُجري، بحسب تسريبات كثيرة، مفاوضات ولقاءات سرية مع قادة أمنيين وسياسيين إسرائيليين من وقت لآخر، كان آخرها لقاء مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق صلاح قوش، مطلع آذار/ مارس 2019 برئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين، بترتيب من دول عربية.
ادفع بيمينك ما تأخذه بشمالك
بعد عدة أشهر من لقاء البرهان ونتنياهو في عنتيبي، وما أثير من لغط حوله داخل مكوّنيْ الحكومة السودانية نفسها، العسكري والمدني، نفى كل من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزير إعلامه فيصل محمد صالح علمهما به، ووصفه الأخير بأنه تصرف فردي فيه خرق وتجاوز للموقف السوداني الثابت من القضية الفلسطينية، فيما أصرّ البرهان على أنه أخطر رئيس الوزراء بالخطوط العريضة قبل اللقاء.
وعاد الجدل حول التطبيع مجدداً على خلفية زيارة البرهان ووفد حكومي سوداني رفيع لأبوظبي، في أيلول/ سبتمبر 2020، ولقائه بوفد أمريكي بغرض الحوار حول بعض القضايا المشتركة مثل شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكيفية دفع تعويضات لأسر الضحايا الأمريكيين في أحداث تفجير المدمرة كول في البحر الأحمر، والسفارتين الأميركتين في دار السلام بتنزانيا ونيروبي بكينيا، فضلاً عن قضايا أخرى تتعلق برفع قيود أخرى مفروضة على المواطنين السودانيين مثل حرمانهم من المشاركة في قرعة الحصول على إقامة دائمة في الولايات المتحدة (اللوتري) وغيرها.
في خرطوم "اللاءات الثلاثة"، ظلت الحكومات السودانية المتعاقبة تتعامل مع العلاقة بإسرائيل بمبدأ "الكومبرادورية" السياسية، أي بالوكالة والنيابة عن دول عربية أخرى، وكل شيء بثمنه
وناقشت المفاوضات التي استمرت ثلاثة أيام أيضاً مستقبل السلام العربي الإسرائيلي، ولكن لم ترشح نتائج واضحة عمّا أسفرت عنه، غير أن تسريبات هنا وهناك وإفادات لمحللين سياسيين وراصدين أكدت أن ثمة مقايضة وتسويات للملف السوداني الأمريكي العالق عُرضت مقابل التطبيع رسمياً وعلانية مع إسرائيل، على خطى الإمارات والبحرين.
التطبيع مقابل الدولار
يقول الباحث السياسي السوداني المقبول الأمين لرصيف22 إن الموقف السوداني الرسمي من القضية الفلسطينية ظل على الدوام محل سمسرة ومقايضة بالنيابة عن دول عربية أخرى، ولم يكنْ مبدئياً في أي مرحلة من مراحله، وعلى ضوء ذلك يمكن قراءة لقاء البرهان-نتنياهو، وزيارة الأول لأبوظبي للقاء الوفد الأميركي.
ويضيف أنه مع انضمام الإمارات والبحرين إلى مصر والأردن في إعلان السلام مع إسرائيل، ومع الأوضاع الاقتصادية والسياسية شديد الرثاثة والهشاشة التي تمر بها السودان، ومع مواقفها الرسمية المتقلبة، وتوقها لقرار أمريكي برفع العقوبات الاقتصادية عنها، فإنها المرشحة التالية للتطبيع مقابل الدمج في المجتمع الدولي وضخ الأموال في عروق الاقتصاد السوداني المتيبّسة.
برأيه، تجعل هشاشة الانتقال السياسي في السودان من التطبيع أمراً حتمياً، وإنْ كانت قوى سياسية مؤثرة قومية عربية ويسارية وإسلامية تعارضه، إلا أنه من الخطأ أن نعتقد بأن بإمكانها إيقافه، فقيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع النافذة والمسيطرة على الأوضاع الأمنية ومعظم الحركات المتمردة المسلحة التي تنخرط الآن في مفاوضات مع الحكومة من أجل السلام وقطاع كبير من المجتمع المدني تدعم التطبيع وتؤيده بقوة.
"لماذا نعاديهم، وماذا نربح من ذلك؟ هم أصدقاؤنا. يحبوننا ونبادلهم المحبة بمحبة"... تأسيس نحو سبع جمعيات تدعو للسلام والتطبيع مع إسرائيل، ومعارضو التطبيع يصفونها بأنها "محض هراء كبير"
ويواصل الأمين: "بطبيعة الحال، يجد مؤيدو التطبيع من أعضاء الأحزاب السياسية أنفسهم في مأزق، وكذلك الجانب المدني من الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، فاتخاذ مثل هذا القرار لن يجد غطاء شرعياً، فلا الحكومة منتخبة، ولا البرلمان الانتقالي تم تشكيله. إنها معادلة صعبة، تبلغ حد المقامرة".
أشقاؤنا اليهود
تشير بدرية إسحق النور، الناشطة في جمعية الصداقة الإسرائيلية السودانية حديثة التكوين (توجد نحو أربع جمعيات تحمل نفس الاسم)، إلى أن السودان عرف اليهود منذ السلطنة الزرقاء، ثم الحكم العثماني الذي أعقبها (1821-1885).
وتلفت إلى وصول العديد من الموظفين والإداريين والتجار اليهود برفقة الأتراك، واستمرار وجودهم إلى حقبة حكم الدولة المهدوية، عندما أعلنوا إسلامهم تقية، قبل أن يعود جلهم إلى يهوديتهم بعد وصول الإنكليز والقضاء على المهدية التي لم تلبث طويلاً.
وتتابع أنه إبان الاستعمار الإنكليزي، شهد عام 1908 وصول الحاخام اليهودي المغربي سلمون ملكا إلى الخرطوم رفقة زوجته وابنتيه، وهنا حدث التحوّل الأكبر للجالية اليهودية في السودان فتضاعف عددها وتمددت تجارتها إلى أن غادرت بعد إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري عمّا أسماها بقوانين الشريعة الإسلامية، في أيلول/ سبتمبر 1983، ولكن آثار اليهود، بيوتهم، متاجرهم، مصانعهم، مقابرهم، لا تزال قائمة في السودان حتى اليوم.
تواصل بدرية عرضها وتقول إن "العلاقة بين السودانيين واليهود قديمة، وأرض اليهود هي إسرائيل، كما هي أرض للفلسطينيين أيضاً وعليهم أن يعيشوا بسلام معهم، لهم دينهم ولليهود دينهم، أما نحن السودانيون فلا دخل لنا وإنْ كان يمكننا لعب دور رسل السلام والمحبة بين الشعبين، لكن أن نقحم أنفسنا في ما لا يعنينا فإن في ذلك تجاوز لدورنا، خاصة وأن اليهود كشعب عاشوا بيننا ويحملون الجنسية السودانية، ورفات أسلافهم مدفونه في الخرطوم وغيرها من المدن السودانية، وأرواح أجدادهم تحلق في سماوات السودان".
وتضيف: "لماذا نعاديهم، وماذا نربح من ذلك؟ هم أصدقاؤنا. يحبوننا ونبادلهم المحبة بمحبة، لذلك أطلقنا هذه الجمعية، ونأمل أن نتبادل معهم الزيارات وأن يقدّموا لنا خبراتهم العلمية والتقنية من أجل تنمية بلدنا. ما الضير في ذلك، خاصة، وأن الدول العربية كلها طبّعت سراً أو جهراً، وبعضها تواطأ بالصمت وهم أكثر قربى إلى الفلسطينيين منّا؟ يجب أن نقول الحقيقة كما هي".
وأشارت بدرية إلى وجود نحو سبع جمعيات مدنية طوعية تدعو للسلام والتطبيع مع إسرائيل، أهمها جمعية الصداقة السودانية الإسرائيلية، وجمعيتا شالوم والطور، ورابطة هيكل سليمان وأبناء يعقوب.
التمسك باللاءات
ياسر حسين، باحث سياسي و"رئيس آلية التطبيع خيانة لمناهضة العلاقات مع العدو الإسرائيلي"، بحسب وصفه، يقول لرصيف22: "لا تطبيع، أجزم بذلك، فنحن السودانيون لن نكون حتى آخر مَن يطبع، بل لن نطبع أبداً، وإذا ذهبت هذه الحكومة إلى ذلك سنسقطها كما أسقطنا كل الحكومات السابقة".
ويضيف: "نحن يا سيدي لا نملك شيئاً في هذه الدنيا سوى مبادئنا وكرامتنا وأخلاقنا وقيمنا، ولن نفقدها ونتخلى عنها مقابل رشوة رخيصة، حفنة دولارات. نحن مع ما يقرره الشعب الفلسطيني، لا علاقة لنا بقيادتهم في غزة أو الضفة، نحن مع هذا الشعب العظيم المناضل الجسور، وما يقرره هو سنتبناه إلى آخر شهقة في أنفاسنا. لسنا معنيين بالبرهان أو حميدتي (الفريق أول محمد حمدان دقلو، النائب الأول لرئيس المجلس السيادي وقائد قوات الدعم السريع)، فهؤلاء يسعون إلى إرضاء الأمريكيين لكي يصلوا إلى السلطة، ولن يصلوا".
ويصف حسين جمعيات الصداقة مع إسرائيل بأنها "محض هراء كبير"، و"محض لافتات لا شيء تحتها، لافتات مصنوعة بعناية من قبل المخابرات والإمبريالية العالمية والصهيونية، لا أحد يعرف عنها شيئاً، ولا أحد يأبه لها"، مضيفاً: "هؤلاء أيضاً لن يسلموا من العقوبة فقد اقترح حزب الأمة عقوبة عشر سنوات سجن لأي سوداني يدعو للتطبيع أو يروّج له، ونحن معه في هذا الاقتراح، وحين يتحقق، سنزج بهم في السجون".
ويختم: "بخصوص دعمنا للقضية الفلسطينية، لا ننطلق في ذلك من كوننا عرباً أو مسلمين، فنحن لسنا عرباً ونحن مسلمون ومسيحيون، لكننا ننطلق من يقظة وصحو ضمائرنا ومن إنسانيتنا ومن دعمنا لحق الشعوب في حريتها واستقلالها وكرامتها بغض النظر عن الأديان والأعراق والألوان. هذا مبدأ إنساني لن نفرّط به، لذلك لا نزال نتبنى لاءات الخرطوم الثلاثة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض)، حتى وإنْ وضعونا على شفير المقصلة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي