تمرُ من أمام الجدار الإسرائيلي الفاصل الذي بدأ الاحتلال في بنائه منذ حزيران/ يونيو 2002 باستخدام الإسمنت المسلح، وبارتفاع يترواح بين 4.5 و 9أمتار، بحسب وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، في المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين، وقسِمت هذه المناطق إلى 4 كتل رئيسية هي جنين، نابلس ورام الله، وبيت لحم والخليل. تستوقفك رسومات وكتابات تنشد الحرية والأمل بألحان رددتها العصافير التي بنت أعشاشها بين القضبان الحديدية الرقيقة المؤطِرة لجزء يسير من الجدار في منطقة حاجز قلنديا.
يشكّل الجدار بالنسبة إلى الفلسطينيين طوقاً يُلف حول أعناقهم فيحرمهم من ممارسة الحياة بشكل طبيعي.
تدّعي إسرائيل أنها أنشأت الجدار في الضفة الغربية ليشكِل عازلاً يمنع الفلسطينيين من الدخول إلى ما تسميه "أرض إسرائيل" والمستوطنات القريبة. إذ يُعتبر بناؤه حلاً مُرضياً لعدد كبير من المستوطنين؛ لأنه سيضم 57 مستوطنة من مستوطنات الضفة الغربية و303 ألف مستوطن إلى إسرائيل. فيما يشكّل الجدار بالنسبة إلى الفلسطينيين طوقاً يُلف حول أعناقهم فيحرمهم من ممارسة الحياة بشكل طبيعي من جهة، ويسلبهم أراضيهم بضمِها إلى منطقة إسرائيل من جهة أخرى. كما يتراوح عرض الجدار بين 60 و 150 متراً، زوده الاحتلال ببنية تحتية أمنية كأبراج المراقبة والكاميرات وأجهزة الاستشعار والطرق الترابية الكاشفة للأثر.
يخترق الجدار أراض مأهولة بالسكان وأخرى زراعية في الضفة الغربية. ويحول دون وصول الفلسطينيين إلى بعض الطرقات والحقول. مساره في المنطقة الشمالية يعزل أكثر من خمسة آلاف فلسطيني في مناطق "مغلقة" بين الخط الأخضر والجدار. أسس الاحتلال شبكة من البوابات في الجدار ونظام تصاريح مرور للتحرك خلاله. ولم تزد هذه الخطوة حياة الفلسطينيين إلا صعوبةً حاولوا اجتيازها برسومات وكتابات مليئة بالشوق والحنين والحب لمن علقوا في الشقِ الآخر من الوطن المُحتل.
قصص حب منسية على الجدار
"كيف أخاف الليل وأنت قمر؟"، "Love and Peace"، "ماريا لم تأتِ إلى هنا بعد...."، "بانا – محمود. سنلتقي"، "لما يسقط الجدار بنتجوز"، "الحب للجميع"، "دمِر هذا الجدار وابنِ جسراً"، "حبنا أقوى من جداركم"، "القدس ستجمعنا"، "نظرة من عيونك وعلى الدنيا السلام"، "Make Love Not Walls" وغيرها الكثير من العبارات التي كتبها فلسطينيون وأجانب يدعمون القضية الفلسطينية، ويُرسلون برقيات حبهم وتحياتهم عبرها إلى عائلاتهم وأصدقائهم خارج فلسطين.
صار الجدار بريداً مفتوحاً إلى العالم، فيه الأمل والحزن والخيبة والاشتياق، وفي كل متر من أمتاره (التي وإن طالت فهي تنتهي عند نقطة ما) ترى رسومات للقدس، والشمس والأزهار، والقلوب، وحنظلة. حتى البحر الذي حرموا منه قاموا برسمه بحيتانه وأسماكه على الجدار.
يقول علي (19 عاماً) لرصيف22: "بيتي مقابل الجدار. جلبوا لنا البحر حتى بابه. رسامون من مختلف المناطق عرب وأجانب وحقوقيون من مؤسسات حقوق الإنسان يأتون إلى هذه المنطقة يتركون تواقيعهم ويرحلون".
حدهم كان سخياً فلم يترك توقيعاً يحمل اسمه بل ترك لهم بحراً، يزيِن المساحة الرمادية التي يمرون من أمامها مع طلوع كل شمس ومغيبها. فيما رسم آخر صورة قلب حب فارغ كتب بجانبه: "الحنين؟!" ليس التساؤل الوحيد الذي تشيعه بعينيك حين تمر من هنا، فما يبحث عنه كتاب هذه العبارات أشياء قد تبدو غريبة بالنسبة إلى أي سائح أو زائر من مدن أخرى. يتساءلون عن مصير بعض الأشخاص، من أسمائهم: خالد، منير، قتيبة، ربما استشهدوا أو سُجنوا داخل باستيلات الاحتلال غير الشرعي.
"No Wall Will Stand On Our Way"- لن يقف جدارٌ في طريقنا. يكتبون، لا يهم إن كانت حروفهم ستُقرأ أم لا، يكفي أنهم يجدون فيها العزاء بعد أن حالت كل هذه المسافات والطرق الالتفافية بينهم وبين كل ما هو حي وساكن وراء الجدار.
صار الجدار الإسرائيلي الفاصل بريداً مفتوحاً إلى العالم، فيه الأمل والحزن والخيبة والاشتياق، وفي كل متر من أمتاره ترى رسومات للقدس، والشمس والأزهار، والقلوب، وحنظلة. حتى البحر الذي حرموا منه قاموا برسمه بحيتانه وأسماكه عليه
هل يُشرعن الرسم على الجدار وجوده؟
يبلغ طول الجدار في الضفة الغربية المحتلة 770 كم، بينها نحو 142 كم في الجزء المحيط بالقدس، والمسمى "غلاف القدس". أُنجز منه 539 كم، أي نحو %70، وهناك نحو 62 كم قيد الإنجاز، تشكِل %8 منه، ليبقى ضمن المخطط نحو 170 كيلومتراً، أي حوالي %22، وذلك بحسب وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا.
يقول الفنان التشكيلي فادي أسمر (40 عاماً) لرصيف22 : "لم تُتح لي الفرصة للرسم على الجدار حتى الآن، ولكنني لا أمانع ولا أرى غرابةً في إيصال صوت الفلسطيني إلى العالم عبر ريشته، على الصعيد الشخصي قمت بالرسم حتى على جدران المقابر".
فيما يرفض بعض الفنانين التشكيليين الرسم على جدار الفصل لأسباب وطنية وسياسية. فيقول سامي الديك (28 عاماً) لرصيف22: "أنا ضد الرسم على الجدار لأن هذه الرسومات تعترفُ بوجوده، وتعني القبول به أو محاولة التعايش معه، وأنا لا أقبل بوجود الجدار ولا بوجود الاحتلال، ولن أعترف بوجودهما يوماً. ما أؤمن به هو أن مصيرهما الزوال".
تختلف الآراء حول جدوى الرسم على الجدار، إلا أن كثيرين من تركوا بصماتهم على أجزاء كبيرة منه كنوع من التوثيق للمعاناة ولمؤازرة قضايا دولية وعالمية. علماً بأن الجدار يمس خلال مساره ثماني محافظات فلسطينية تضم 180 تجمعاً، وتشير التقارير إلى أنه سيؤثر على حياة 210 آلاف فلسطيني يقطنون 67 قرية ومدينة بالضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة.
ماذا يرسمون على الجدار؟
الرسومات بكافة أشكالها الفنية والكاريكاتيرية، خاصة الشخصيات التي تُعتبر من رموز القضية الفلسطينية والتي تركت أثراً واضحاً في مسيرتها خلال فترة زمنية معينة. الرئيس الراحل ياسر عرفات، مروان البرغوثي، أحمد ياسين، ليلى خالد، وغيرهم من المقاومين أو المنتمين إلى الأحزاب السياسية. فيما رُسمت عهد التميمي على الجدار الإسرائيلي الفاصيل بين بيت لحم والقدس بريشة فنانين إيطاليين.
بينما رسم الفنان الفلسطيني تقي الدين سباتين الشهيد إياد الحلاق وكتب بجانب الغرافيتي: "ليس فلويد فقط... إياد الحلاق أيضاً". إذ استشهد الحلاق في نفس الأسبوع الذي قُتل فيه فلويد على يد الشرطة الأمريكية. وقام الفنان برسم الأخير على جهة أخرى من الجدار تضامناً مع ضحايا العنصرية والاضطهاد.
إذا كان الجدار أداةً ترمز إلى العنصرية والتطهير العرقي، فإن كل لون تخطه ريشة فنان عليه تكون بمثابةِ احتجاج سلمي على هذه العنصرية والاحتلال أيضاً.
إذا كان الجدار أداةً ترمز إلى العنصرية والتطهير العرقي، فإن كل لون تخطه ريشة فنان عليه تكون بمثابةِ احتجاج سلمي على هذه العنصرية والاحتلال أيضاً. والدليل على ذلك الرسومات التي تحمل غرافيتي العلم الفلسطيني، ومفتاح العودة، والأم التي تحتضن القدس، وفتاة بانكسي التي تطير ببالونات سوداء لتحلِق مجازياً فوق سماء المدن المحتلة، والطفل الذي يمزِق الجدار ويركض إلى الجهةِ الأخرى.
كما تحضُر الرسومات الرافضة للتطهير العرقي والعنصرية ضد كل ما هو إنساني، بما في ذلك قضايا فئات مجتمعية مهمشة، خاصةً قضايا المرأة والمثليين/ات جنسياً. فقد رسم خالد جرار ألوان قوس القزح على الجدار الفاصل بين رام الله والقدس عام 2015، كنوع من التضامن والتعبير عن الحرية. أزالته مجموعةٌ من الشبان بطلاء أبيض رُسم عليه فيما بعد، مما أثار الفعل ضجة في أوساط الفلسطينيين/ات. ويحضر غرافيتي لامرأة ترتدي ملابس محتشمة وتتناثر حولها ملابس الرجال والأطفال الفارغة من الأجساد لتحمل أكثر من دلالة ومعنى. بجانبها جداريةٌ أخرى لعروس ترتدي فستان زفاف أبيض. قضايا المرأة وإن كانت حاضرةً على الجدار فإنها محدودة ومُراقبة، لا يمر منها إلا ما يتناسب مع الذوق العام والعادات والتقاليد.
الرسم يُغيظ إسرائيل
رسم الفنان الأسترالي باسمه المستعار "لاش ساكس" غرافيتي دونالد ترامب يقبِل نتنياهو على جدار المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم، كنوع من التضامن مع القضية الفلسطينية، إلى جانب رسومات أخرى لترامب يعانق فيها برج مراقبة إسرائيلي، أو يضع يده على الجدار ويفكِر في بناء نظير له على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية.
لا تقف إسرائيل متفرِجةً بل سبق وطردت رسامين إيطاليين رسما غرافيتي شبيه بما رسمه لاش ساكس. كما وتعتقل أبناء الضفة ممن يرسمون إذا ما رأتهم أو اصطادتهم كاميراتها الموزعة على جميع جوانب الجدار بوجوههم العارية.
يقول الدكتور عاطف سلامة، كاتب وباحث متخصص في فن الكاريكاتير، لرصيف22: "يلتقط السياح والفلسطينيون الصور لما يُرسم على الجدار وينشرونها. فهي تمنح المشاهد جرعةً سلسةً وسهلةً وسريعةً لاستيعاب بعض القضايا. هذه الخطوط الصغيرة القصيرة يتخللها بعض من التحقيق والنقد الاجتماعي والسياسي. لهذا تعتبر فناً سهلاً وصعباً في آن؛ لأنها تختزل جزءاً كبيراً من العواطف والمشاعر في فن واحد. وهي تُعتبر آداة لاستنفار المواطن. رسم بسيط وتعليق قصير ساخر ممكن أن يزرع الكثير في عقل الناظر إليها". إذن، لم ينتهِ فن ناجي العلي بعد، والوقائع تقول أن الفلسطيني لن يكل في بحثه عن سُبُل النجاة ولو حوصِر داخل مدينة أبعد طرقها تؤدي إلى جدار من الإسمنت.
لا تقف إسرائيل متفرِجةً بل سبق وطردت رسامين إيطاليين. كما وتعتقل أبناء الضفة ممن يرسمون إذا ما رأتهم أو اصطادتهم كاميراتها الموزعة على جميع جوانب الجدار بوجوههم العارية
الإعلانات التجارية والخسائر المادية
"محمص القيسي"، "غازي للطباعة الحريرية"، "مجوهرات الحاج وجيه"، "تكسي أبو أمجد"، "خبيرة تجميل"، "فرشات أبو ليل"، "مصنع القدس للفرشات"؛ محالٌ تحمل اسم القدس التي يُمنع التجار من دخولها.
إعلاناتٌ لا تنتهي مكتوبة أو معلقة على الأعمدة الكهربائية القريبة من الجدار، وحتى على الجدار نفسه. لعلها اللامبالاة التي أصابت شعباً بذل الكثير ولم يحصل على شيء، حتى صار وجود الجدار بالنسبة لبعضهم استثماراً إعلانياً مجانياً، فمن يبحث عن أساسيات الحياة يجدها في محال أصحاب هذه الإعلانات، ومن يبحث عن الحرية والأمل فليفتِش عنهما داخل روحه. وهذه مجموعةٌ بلغةِ الأرقام تُحاكي جزءاً يسيراً من الآثار المادية التي ترتب عليها إنشاؤه.
بحسب ما تشير إليه وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، فقد أدى بناء الجدار إلى الفصل بين 36 تجمعاً سكانياً شرق الجدار يسكنه 72,200 فلسطيني، وبين حقولهم وأراضيهم الزراعية التي تقع غرب الجدار. وإنشاؤه يعيق وصول سكان المناطق الفلسطينية والريفية إلى المستشفيات في مدن طولكرم وقلقيلية والقدس الشرقية؛ لأن هذه المدن معزولة عن باقي الضفة. بالإضافة إلى نظام التعليم الذي يمنع المدرسين والتلاميذ من الوصول إلى مدارسهم.
هناك %37 من القرى تعتمد على الزراعة وأصبحت من دون مصدر اقتصادي وبذلك تفقد %50 من الأراضي المروية و12 كم من شبكات الري تم تدميرها. بالإضافة إلى تجريف %5.7 من الأراضي الزراعية المروية وخسارتها قبل جني المزارعين للمحصول والاستفادة منه. مما يُفقد الفلسطيني 7 ملايين كيلو متر مكعب من المياه والتي تشكل %30 من مجموع الاستهلاك الفلسطيني من الحوض الغربي.
الخسائر كبيرة على كافة الأصعدة، ولكن المحاولات لإنعاش الاقتصاد لا تنتهي، إذ تترامى المحال التجارية على الشق الأيسر من الجدار فمنهم من يبيع الأقمشة ومنهم من يبيع الطعام والخبز، ومنهم من يغسل السيارات أو يزرع أرضاً في فناء منزله ويعتاش من منتوجاتها.
"الأكبر منك راح. مصيرك الزوال"، تودِعك هذه العبارة وأنت تعبر المفترق المؤدي إلى الطريق الرئيسي ليمتد الجدار على طول ذراعيك يمنةً ويُسرة، لكنه مهما طال لن يحجب عنك السماء
لكن، لن يحجب عنك السماء
لم توقف الأسلاك المكهربة ولا أبراج المراقبة بكاميراتها شديدة الدِقة أبناء المدن المحاصرة عن تغطية وجوههم بقمصانهم ونثر فنهم وابداعاتهم التي لا حدود لها، على الجدار الإسرائيلي الفاصل.
ليس الجدار وحده ما يعرقل الحياة، إذ كان من ضمن أهدافه منح الفلسطينيين أرضاً محدودةً تقدر بنصف المساحة، ولكن الاحتلال اليوم وبعد مرور 14 سنة على إنشائه، استطاع أن يوجِد مئات الطرق للسيطرة على هذه المساحة الصغيرة بالقوة والإجبار.
"هذا الجدار أخو مطبلة"، "كل الطرق تؤدي إلى حلمك". سيبقى الشرح الصغير في زاوية الجدار يسرِب الضوء، ضوء القدس المحجوبة. ووحدها الطيور ستحمل قصص الحب وتنقلها إلى مدن الشمس بعيداً عن عواصف الدمار والسجن والموت والاغتيال. "الأكبر منك راح. مصيرك الزوال"، تودِعك هذه العبارة وأنت تعبر المفترق المؤدي إلى الطريق الرئيسي ليمتد الجدار على طول ذراعيك يمنةً ويُسرة، لكنه مهما طال لن يحجب عنك السماء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...