ثلاثة عقود من الانتظار، وهي غائبة عن سماء القاهرة، ينتظرها الجمهور المصري بشوق كبير منذ إطلالتها الأخيرة عليه من أمام أهرامات الجيزة. إنها "جارة القمر" التي تعلق بها الساهرون أمام النيل، والنهر يجري، ولكنها لم تأت، لتضيء ليل بنت المعز لفترة طالت كثيراً على محبيها.
نهاد وديع حداد، التي يعرفها الشعب العربي بالسيدة فيروز، هي أمل منتظر يتجدد الحديث عنه في المجتمع القاهري، مع احتفال العالم العربي بعيد ميلادها الخامس والثمانين. شكلت جولاتها الخارجية محطات لا تنسى في تاريخ حفلات الموسيقى العربية، وفي ذاكرة عشاقها بين المحيط والخليج. منذ خرجت ابنة حي زقاق البلاط البيروتي إلى النور، قدّر لها أن تكون سفيرة للغناء العربي.
حفلات القاهرة وأمنية عبد الوهاب
برغم أن شهرة فيروز ومحبتها في قلوب المصريين قد بدأتا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، لم تبدأ علاقتها بجمهور القاهرة من خلال الحفلات المباشرة إلا عام 1976، تزامناً مع أولى حفلاتها المصرية على مسرح حديقة الأندلس، علماً أنها كانت قد حضرت لزيارة مصر قبل حفلتها الأولى مرتين، الأولى عام 1955 والثانية عام 1966.
عندما سئل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن رأيه في صوت فيروز تزامناً مع بداية سطوع نجمها على المستوى العربي، بحسب أرشيف مجلة "صباح الخير" التابعة لمؤسسة روز اليوسف، قال: "يمكن التعليق على الأصوات العادية ولكن الأصوات القادمة من السماء لا يجوز التعليق عليها"، وفتح تصريح عبد الوهاب الطريق في ذلك الوقت لمشروعهما المشترك، فقام بتلحين أول أغنية مع فيروز عام 1961 "سهار بعد سهار"، وشارك مغ الكورس في الغناء خلف "جارة القمر"، ثم لحن لها "سكن الليل"، وقصيدة "مر بي" بعد زيارتها الأولى لمصر بعام واحد في منتصف عام 1967 ، وقد أصدرت فيروز ألبوماً ضمت فيه الأغنيات الثلاث، بالإضافة لـ "خايف أقول اللي في قلبي" و "يا جارة الوادي" وهما من الأغاني التي قدمتها بصوتها من ألحان عبد الوهاب.
مسرح الأندلس والإطلالة الأولى
على مسرح حديقة الأندلس التي تطل على النيل من الشرق، وبالقرب من أوبرا القاهرة الجديدة وكوبري قصر النيل، أطلت فيروز على الجمهور المصري للمرة الأولى.
الحديقة التاريخية أسسها محمد بك ذو الفقار عام 1935 في نهايات عهد الملك فؤاد الأول، وتبلغ مساحتها فدانين، تضم الكثير من الأشجار المعمرة، مثل شجرة "عُدي" الذي يتجاوز عمرها الـ70 عاماً، والحديقة مصنفة حالياً ضمن قائمة الآثار الإسلامية والقبطية المصرية.
الشائع أن فيروز أحيت في تلك الزيارة حفلاً واحداً فقط بالقاهرة، وهو خطأ تاريخي فادح، فقد جاءت لإحياء أربع حفلات في 27 و28 و29 و30 أكتوبر/ تشرين الأول، والرابع هو الذي تم تسجيله
فيروز لم تكن أول الكبار على مسرح الأندلس، فقد شهد المسرح التاريخي إطلالات لكبار النجوم العرب مثل كوكب الشرق أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، وكان هذا دافع "جارة القمر" لاختيار المسرح موقعاً لظهورها الفني الأول في القاهرة.
جاءت فيروز إلى القاهرة ومعها منصور الرحباني ومتعهد الحفلات السوري يوسف الحاج خلال أيلول/سبتمبر 1976، للتعاقد مع الفنان السيد راضي والفنانة منى جبر على تأجير مسرح الأندلس المكشوف لإقامة أولى حفلاتها، وكان راضي يتولى إدارة المسرح، الذي تقدم عليه عروض فرقة "الكوميدي شو"، وكانت آخر المسرحيات على خشبته قبل حفل فيروز "الدنيا مزيكا" لمنى جبر، بحسب التسجيل الرسمي للحفل في أرشيف التلفزيون المصري.
في الشهر التالي، أكتوبر/تشرين الأول كانت الأوضاع محتدمة في لبنان، وانعقدت قمة عربية في القاهرة يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول لإيقاف نزيف الدم اللبناني، وصدر قرار بوقف إطلاق النار في بيروت صباح يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 1976 بعد قتال استمر 19 شهراً، كما كانت الأوضاع متوترة في مصر وسط الاستعداد لإقامة أول إنتخابات تجديد رئاسية للسادات، لكن هذا لم يوقف فيروز في طريقها إلى القاهرة، ووسط الأجواء الساخنة وصلت درة الفن إلى العاصمة المصرية يوم الأحد 24 أكتوبر/تشرين الأول بصحبة الأخوين رحباني، والفرقة الشعبية اللبنانية.
تكريم فيروز
مساء الثلاثاء 26 أكتوبر/تشرين الأول، استضاف الروائي يوسف السباعي، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام آنذاك، "جارة القمر"، في مقر قاعة البانوراما بمبنى الأهرام في منطقة الجلاء، وقام بتكريمها باسم جمعية كتاب ونقاد السينما، التي كان يترأسها أيضاً، وتسلمت فيروز جائزة التقدير الذهبية، وتمثال الإلهة المصرية إيزيس، وحضر الاحتفال عاصي ومنصور الرحباني وشقيقتها هدى، بحسب أرشيف صحيفة الأهرام المصرية.
ثلاثة أيام من التحضير أعقبت الوصول، لتظهر فيروز بعدها على مسرح الأندلس في كامل تألقها يوم الأربعاء 27 أكتوبر/تشرين الأول، وبدأت غناءها بقصيدة “مصر عادت شمسك الذهب“ وسط حضور تاريخي غير مسبوق في حفلات مسرح الأندلس.
الشائع أن فيروز أحيت في تلك الزيارة حفلاً واحداً فقط بالقاهرة، ولكنها جاءت لإحياء أربع حفلات في 27 و28 و29 و30 أكتوبر/ تشرين الأول، والذي تم تسجيله تلفزيونياً، ويُذاع حتى الآن هو الرابع، وقد حققت تلك الحفلات نجاحاً ساحقاً دفع فنان الكاريكاتير والشاعر الكبير صلاح جاهين لرسم كاريكاتيري في صحيفة الأهرام يتحدث فيه عن صعوبة الحصول على تذكرة لحفل فيروز، بسبب ارتفاع أسعارها، التي بدأت من 5 جنيهات إلى 30 جنيهاً، ثم ارتفعت إلى 50 للحفل الرابع بسبب شدة الإقبال الذي تخطى حاجز الـ20 ألف متفرج.
"جارة القمر" التي غنت في قاعة "البرت هول" في لندن، وعلى مسرح "الأوليمبيا" في باريس، ما زال الجمهور المصري يحلم بلقائها عند سفح الأهرامات من جديد، بعد 30 عاماً من الاشتياق
غادرت فيروز القاهرة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني عائدة لبيروت عن طريق دمشق، وقام التلفزيون المصري بإذاعة تسجيل الحفلة الرابعة يوم الخميس 4 نوفمبر/تشرين الثاني بعد شراء حقوقها لمدة ثلاث سنوات من متعهد الحفلة، وانهالت الخطابات بعدها بأسابيع على ماسبيرو تطالب بإعادة عرض الحفلة مرة ثانية، وكان آخر اللقاءات الإعلامية التي أجرتها قبل مغادرتها للغرفة 1104 في الدور الحادي عشر لفندق شيراتون القاهرة، مع كل من الإعلامي طارق حبيب، والإذاعية القديرة آمال العمدة.
أخرج الحفل الرابع تلفزيونياً حسين كمال، وقام بقيادة الأوركسترا فيه عاصي الرحباني، الذي قاد أوركسترا الحفل الأول أيضاً، بينما قاد منصور الرحباني الاوركسترا خلال الحفلين الثاني والثالث، وكانت أخر أغاني الحفل الرابع رائعة سيد درويش "زورني كل سنة مرة" .
الزيارات الأولى إلى مصر
الزيارة الأولى للقاهرة كانت في فبراير/شباط 1955، وجاءت الزيارة الثانية في منتصف أكتوبر/تشرين الثاني عام 1966، ومعها الأخوان رحباني وشقيقتها هدى، وقامت خلالها بجولات سياحية في المناطق الأثرية، كما زارت المتحف المصري بصحبة صديقتها الإذاعية آمال فهمي وزوجها محمد عرفان. كذلك زارت مع الأخوين رحباني مبنى الإذاعة والتلفزيون المصريين، يوم السبت 15 أكتوبر/تشرين الأول 1966 لتسجيل حلقة خاصة من برنامج "نجمك المفضل" تحت عنوان "أهلاً وسهلاً" أدارتها الإعلامية سلوى حجازي، وأعدها الكاتب الصحافي أنيس منصور، وغنت فيروز خلال الحلقة “القدس العتيقة”، و“أعطني الناي”، و“مشهد الشتاء”، بالإضافة لأغنية واحدة لهدى حداد.
حفل أهرامات الجيزة
غابت فيروز عن العاصمة المصرية 13 عاماً، قبل أن تطل عليها من جديد تحت سفح أهرامات الجيزة، في حفلها الخامس، الذي احتضنه مسرح الصوت والضوء في شهر يوليو/تموز عام 1989. أعادت فيروز في حفل الأهرامات غناء قصيدة "مصر عادت شمسك الذهب"، كما غنت "الوداع"، و "أهو ده إللى صار" من روائع سيد درويش، وغيرها من أغانيها التي يحفظها المصريون عن ظهر قلب، وقال وزير الثقافة المصري فاروق حسني خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد على هامش الحفل، إن فيروز هي "زهرة الشرق، التي يفخر بها كل مواطن عربي"، كما قامت "درة" لبنان بجولة داخل دار الأوبرا التي طالبها العاملون فيها بأن تقدم حفلاً على مسرحها الكبير ذات يوم.
"جارة القمر" التي غنت في قاعة "البرت هول" في لندن، وعلى مسرح "الأوليمبيا" في باريس، ما زال الجمهور المصري يحلم بلقائها عند سفح الأهرامات من جديد، بعد 30 عاماً من الاشتياق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...