لا أذكر في أي عمر كنت عندما عرفت لأول مرة معنى مصطلح "لاجئ فلسطيني"، بل لا أذكر أيضاً الحدث الذي عرفت من خلاله بأني فلسطينية ولست إماراتية. هي أحداث كالحياة لا نعرف نقطة بدايتها ولا نهايتها، أمور تقع علينا دون معرفتنا، ومن المستحيل التخلص منها، هي لا تقع في الذاكرة فقط، بل مرتبطة بوجودنا، إذا اختفت، اختفينا.
ربطتُ فلسطين بالحبّكذلك كنت أظن أن حدود قريتي الصغيرة التي كنا نذهب إليها كل صيف هي فلسطين، هذه البقعة الصغيرة فقط هي بلدي، لاحقاً أخبرني أبي أن اسمها كلها فلسطين، فيها جنين، عكا، والقدس. لم يفصل بينهما ولم يخبرني حتى أن الوصول إلى هذه المدن في نفس اليوم صعب جداً، وأن طرق هذه المدن لا تشبه طريق دبي/الشارقة/أبوظبي. كان يحاول إقناعي بأن كل شيء جيد، وكانت أمي أيضًا تخبرنا عن رحلتها إلى يافا وحيفا في المدرسة، ربما الأمل أن يصبح كل شيء جيّدًا هو السبب. المرة الأولى التي ربطت فيها فلسطين بالألم، كانت عندما بكى أبي عند سماعه إحدى الأغاني الوطنية على شاشة التلفاز، تساءلت حينذاك ما علاقة الوطن بالبكاء؟ وإذا كان أبي فعلاً مشتاقًا لتلك البقعة الصغيرة -قريتي-، لما هو هنا؟ زادت معرفتي بالألم عندما عرفت أن عمي استشهد وهو في السادسة عشرة من عمره، أخبرت جميع صديقاتي أن عمي كان شهيداً، رغم أن بعضهن لم يكن يعرفن معنى كلمة شهادة أصلاً، ولكني كنت أحاول أن أشارك أبي الألم الذي لم أكن أشعر به حقاً في ذلك الوقت. أما الألم الحقيقي الذي شعرت فيه كمطرقة في قلبي فقد كان في الانتفاضة الثانية. من الأشرطة المصورة التي كانت يحضرها أبي، رأيت أطفالاَ بعمري، يُسحلون، يبكون بلا توقف، أذكر قميص الطفل الذي كان يحاول أحد الكلاب شدّه، كيف لهذا الجسد الصغير أن يحتمل كل هذا، في وقت كانت قطرة الدم التي تنزل من إصبعي دون قصد إذا جُرحت تخيفني وتبكيني. وكيف لهذه الصورة أن تخرج من مخيلتي مهما كبرت؟ ولماذا لم يقتنع الله بخطتي حينذاك أن يجمّع كل الأطفال على الأقل ويحميهم في مكان بعيد، لأن أجسادهم صغيرة ولا تحتمل مزيداً من الألم، رغم أني كنت واثقة أنه سيستجيب لي. ربطتُ فلسطين بالحبّ، عندما كان أبي بجانب التلفاز واقفاً، ينادينا بحماس شديد لنرى كروم العنب الفلسطيني على شاشة التلفاز، تساءلت باستغراب مرة أخرى، ما الفرق بين هذا العنب والعنب الذي ابتعناه يوم أمس من السوبرماركت؟ كان أبي غريباً جداً بالنسبة إلي، والأغرب أنه كان يكرر الموقف أكثر من مرة رغم عدم اكتراثنا. كنت أحب فلسطين بسبب ابتسامة أبي وأمي التي كانت لا تتوقف عن التمدد عند وصولنا إلى فلسطين، كنت أخجل أن أصرّح عن اشتياقي لدُبي وقتذاك، وكنا نحسب الأيام المتبقية لعودتنا أنا وأختي على دفتر صغير نضعه في مكان سري. وبعد أن كبرت على حُبها، عدت إلى فلسطين وحيدة، دون أشرطة أبي، وقصص أمي. واجهت وطني للمرة الأولى وحيدة، مع صوت فيروز، وحيدة رغم أن كل ما حولي ملكي، الهواء ملكي، الأرض ملكي، أنا في المكان الذي يجب أن أكون فيه. أولى الملاحظات التي أخبرتها لأمي: "فيروز كتير غير هون"، فيروز تشبه المكان فعلاً.
تعرّفت إلى فيروز في المرة الأولى على شاشة التلفاز، كانت ساعة معينة لأغانيها تُبثّ عبر قناة "روتانا طرب"، كنت أستعير موبايل أمي لأضع منبهًا للساعة الثامنة؛ موعد ساعة فيروز. أوّل أغنية لها حفظتها عن ظهر قلب هي "سألتك حبيبي لوين رايحين". أذكر فستانها الأزرق، خصرها النحيل، شعرها الذهبي، السيارة المتوقفة خلفها، حركة يدها، ونظراتها الحادة التي تحاول أن لا تريها للكاميرا. لكن فيروز كانت تختفي من حياتي بعد انتهاء فقرتها. وهي في فلسطين خلقت حالة من التوازن في حياتي، لا أستطيع أن اختار عشوائيًا أغنية من أغاني فيروز لأستمع إليها هنا، كل أغنية مرتبطة بحالة لدي، بفصل محدد، بشارع محدد، بباب ما، أو بحالة نفسية محددة. في ساعات الفرح أحب أن أسمع فيروز ونصري شمس الدين إلى جانبها، لا يمكن وصف كمية الفرح التي تصلني من هذا الثنائي العظيم. لا أؤمن بالاستماع لفيروز في المدن البلاستيكية/ الاسمنتية، لا أستطيع التركيز على كلماتها، وأنا بداخل سيارة في شارع على أطرافه أشجار مقصوصة في نفس القالب، كيف لصوت فيروز أن يجتمع مع طبيعة بلاستيكية مجردة من شكلها؟ لا أستطيع أن أتخيّل صوت فيروز مع شجر لا يستطيع الامتداد بالطريقة التي يحب، كما يتمدد صوتها دون حواجز ولا تعليمات.
المرة الأولى التي ربطت فيها فلسطين بالألم، كانت عندما بكى أبي عند سماعه إحدى الأغاني الوطنية على شاشة التلفاز، تساءلت حينذاك ما علاقة الوطن بالبكاء؟ وإذا كان أبي فعلاً مشتاقًا لتلك البقعة الصغيرة -قريتي-، لما هو هنا؟
وبعد أن كبرت على حُبها، عدت إلى فلسطين وحيدة، دون أشرطة أبي، وقصص أمي. واجهت وطني للمرة الأولى وحيدة، مع صوت فيروز، وحيدة رغم أن كل ما حولي ملكي، الهواء ملكي، الأرض ملكي، أنا في المكان الذي يجب أن أكون فيه.
فيروز هنا في فلسطين، شاركتني في وحدتي في البداية، وحاولت أن تخبرني الكثير. فيروز الرقيقة علمتني أن الحب يعيش في التفاصيل الصغيرة، حتى في ضوّ القنديلفيروز هنا في فلسطين، شاركتني في وحدتي في البداية، وحاولت أن تخبرني الكثير. فيروز الرقيقة علمتني أن الحب يعيش في التفاصيل الصغيرة، حتى في ضوّ القنديل، ساعدتني على مواجهة الحياة والحنين، الحنين للعائلة، للحب الذي لن يعود، أو الحنين للحب الذي استسلمت لفشله، أقنعتني دائمًا أن كل شيء غائب سيبقى كحالة جميلة، وأن هناك ذكريات من الممكن أن أبتسم حين أتذكرها، بل أغني لها، علمتني أن هناك شيئًا يسمى الوطن، بقعة صغيرة بحجم العالم نحبها حبًا شديدًا دون رغبتنا بمعرفة السبب حتى، بقعة نحاول أن نجمّلها دائمًا رغم كل القسوة المحيطة بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...