شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شجرة بلا جذور... لماذا فشلت عملية الإصلاح الديني في مصر؟

شجرة بلا جذور... لماذا فشلت عملية الإصلاح الديني في مصر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 28 سبتمبر 202010:03 ص

خلال القرون الماضية، ظهرت تجارب إصلاحية عدّة تدعو في جوهرها للعودة إلى الأصول الإسلامية ونبذ البدع والخرافات التي التصقت بالدين مع مرور الزمن. فطبقاً للحديث النبوي، "يبعث الله إلى هذه الأمة مَن يجدد لها دينها على رأس كل مائة عام". وعليه، فإن مسألة "التجديد" مُلازمة للتجربة الإسلامية.

ومع دخول المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث، حدثت حالة من الصدمة للشخصية الإسلامية، نتيجة الفشل الذريع في مواجهة الفرنسيين (الفرنجة) الذين احتلوا مصر عام 1798، وكانوا مُجهّزين بأحدث الآلات العسكرية.

ومع زوال الرهبة التي أدخلها الفرنسيون على قلوب المسلمين والمصريين، أثناء حملتهم على مصر، أدركت النخبة المصرية والإسلامية مُمثلة في بعض رجال الدين ضرورة إجراء عملية إصلاحية شاملة لردم الهوّة الشاسعة بين المسلمين والغربيين.

بدأت هذه العملية تقريباً بعد استيلاء الباشا محمد علي (1805-1848) على السلطة في مصر، مؤسساً ولاية مستقلة عن الدولة العثمانية ولا تتبع لها إلا اسمياً. وبالتوازي مع عملية التحديث الشاملة التي قادها الباشا لتأسيس إمبراطوريته، والتي أحدثت تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية، جرت عملية إصلاح وتجديد للخطاب الديني، بدأت مع الشيخ رفاعة الطهطاوي (ت. 1873) مُبشراً بما يُسمى بـ"عصر النهضة العربية" واستمرّت لأجيال تالية.

الباشا محمد علي

مدافع نابليون تدكّ الإسكندرية

في أواخر القرن الـ18، وبينما كان المصريون تحت سُلطة المماليك المدينين بالولاء للسلطان العثماني، فوجئ أهل الإسكندرية في الأول من تموز/ يوليو 1798 بوصول نابليون. 36 ألف جندي حملتهم 300 سفينة تحرسها 55 سفينة حربية مزودة بالمدافع اكتسحوا المدينة الساحلية واحتلّوها في ساعات معدودة.

تحرك نابليون بونابرت إلى القاهرة واحتلها رغم المقاومة التي قادها الوالي المملوكي مراد باشا، وبعدما استقر الحكم في مصر له رجع إلى فرنسا بسبب اضطرابات داخلية.

وبغض النظر عن طبيعة الأحكام الصادرة بحق "الحملة الفرنسية" باعتبارها حملة استعمارية فتحت الباب أمام الأوروبيين لاحتلال معظم الأقطار العربية، من المعروف أن الفرنسيين أحدثوا صدمة ثقافية ومعرفية لدى المصريين الذين أصيبوا بحالة من الذهول من التفوّق الفرنسي في شتى المجالات.

لم تقتصر حالة الصدمة على عوام المصريين، بل أحدثت أعظم تأثير في النخبة المصرية فضلاً عن محمد علي، العسكري الألباني الذي أبهره التفوق الفرنسي، وراح يتحيّن الفرصة المناسبة لاقتناص مصر.

وبعد استيلائه على السلطة عام 1805 وتخلصه من خصومه، بدأ الباشا بإرسال البعثات التعليمية إلى فرنسا لاستقدام المعارف الأوروبية المادية الحديثة، وكان من أوائل المُرسَلين في هذه البعثات الشيخ رفاعة الطهطاوي، رمز النهضة العربية.

الشيخ رفاعة الطهطاوي

عصر النهضة وماهية الإصلاح

تُعرف بـ"النهضة العربية" تلك الحالة الفكرية والاجتماعية التي سادت عدة عواصم عربية كالقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد خلال القرن الـ19، حيث أُنشئت المدارس والمعاهد وتلى ذلك انتشار الطباعة وظهور الصحافة نتيجة الاطّلاع على التجربة الأوروبية، ما أدى إلى خلق حالة من الصحوة السياسية والفكرية في البلاد العربية.

كانت حركة الإصلاح الديني التي دعت إلى التوفيق بين تعاليم الدين الإسلامي ومنتجات الحداثة الغربية، لتفادي حالة التخلف والضعف التي تعيشها المجتمعات العربية، إحدى مظاهر تلك الصحوة.

قيل كثيراً إن "الحملة الفرنسية على مصر" هي حملة استعمارية فتحت الباب أمام الأوروبيين لاحتلال معظم الأقطار العربية، ولكن الفرنسيين أحدثوا أيضاً صدمة ثقافية لدى المصريين الذين أصيبوا بحالة من الذهول من التفوّق الفرنسي في شتى المجالات

يقول أستاذ التاريخ الحديث في جامعة حلوان شريف يونس إن "الإصلاح الديني بصفة عامة ليس مُجرد أفكار، بل هو تغيّر في مواقف الناس وفي المؤسسات، مؤسسات الدولة وكذلك المؤسسات الدينية"، فبرأيه "لم يكن الإصلاح الديني في مصر مجرّد كتابات لمفكرين، أو معارك فكرية بين مشايخ وأفندية".

يرى يونس أن "عملية الإصلاح جاءت في سياق تعرّض الأزهر، المؤسسة الدينية الرسمية، لتغييرات مُتتالية، سواء تحت ضغط تحوّلات الدولة (دولة محمد علي) التي أصبحت تعتمد في بنيتها على خريجي التعليم الحديث، لا خريجي التعليم الأزهري التقليدي، أو تحت ضغط تحديات العصر بصفة عامة، وأتى تعبير مُفكّري الحداثة عن هذه التحديات لينقل مُجمل هذه الضغوط إلى المجال الفكري ويُشكّل تحدياً حقيقياً للخطاب الأزهري الموروث".

مُعمَّم أزهري في بلاد الفرنجة

في إطار مشروع الباشا محمد علي لتأسيس دولته الحديثة، أوفد بعثات تعليمية عام 1826 إلى فرنسا لنقل المعارف والعلوم الأوروبية إلى مصر، وكان الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي (1801-1873) مرافقاً للطلاب باعتباره واعظاً دينياً لهم.

في رحلته إلى فرنسا، سعى الطهطاوي إلى تثقيف نفسه، ما زاده اطلاعاً على التقدّم الأوروبي المادي وانهباراً به، مع استنكاره لـ"الانحلال الأخلاقي" لدى الفرنسيين، ودوّن أفكاره وانطباعاته في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".

يُعتبر الطهطاوي أحد أهم رواد حركة النهضة العربية. بعد عودته من فرنسا عام 1831، وبمساندة من السلطة، أسس "مدرسة الترجمة" لتخريج المُترجمين، وعمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية وترجمة نصوص الفلسفة والتاريخ الأوروبي، واضعاً أساساً ثقافياً لمَن أتوا بعده من المُفكرين، ولذلك اعتُبر بمثابة أب للنهضة العربية.

بالموازاة مع جهود الطهطاوي في مصر، كان يجول العالم الإسلامي داعية أفغاني من أشهر أعلام التجديد في الفكر الإسلامي، هو السيد جمال الدين، أو جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، رجل دين إصلاحي يدعو إلى وحدة العالم الإسلامي في مواجهة الاستعمار الغربي في إطار ما يُسمى بـ"الجامعة الإسلامية".

جمال الدين الأفغاني

أثناء وجوده في مصر عام 1871، ألقى الأفغاني محاضرات دينية وفلسفية في صحن الأزهر، وكان يتمتع بكاريزما وحضور قوى، ما أثّر في عدد كبير من الطلاب الأزهريين كان أبرزهم الشيخ محمد عبده، الرجل الثاني بعد الطهطاوي في النهضة المصرية.

محمد عبده (1849-1905) هو مفكر ورجل دين وفقيه وقاضٍ ومفتٍ، اشتهر بلقب "الإمام" لما تركه من أثر كبير في الفكر الإسلامي المعاصر حسب دارسيه، فهو يُعَدّ من أبرز المجددين في الفقه والفكر الإسلاميين، فقد دعا إلى التوفيق بين الدين والعلم وإلى تعليم البنات، بجانب مشاركته في النضال الوطني لتحرير البلاد من النفوذ الغربي، وهو ما اتّضح من مشاركته في الثورة العُرابية ضد الإنكليز عام 1882.

الشيخ محمد عبده

يرى شريف يونس "أن النقلة الحاسمة في الإصلاح الفكري هو تجديد الشيخ محمد عبده، فقد أتى بمبدأ أصولي هو التخلص من التقليد. والمقصود بالتقليد هو الانغلاق على مذاهب السنّة الأربعة المعروفة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية)... والتي لم يخرج عنها أحد لقرون (في ما يُعرف بـ’إغلاق باب الاجتهاد’)".

ويضيف أن "الشيخ قدّم مبدأ جديداً نسبياً، هو عدم الالتزام بالأخذ من مذهب بعينه دون باقي المذاهب، فضلاً عن حرية الاجتهاد. وهذه النزعة ترجع في جذورها الفكرية إلى ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب (صاحب مذهب الوهابية الشهير)، إلا أن ما يميّز الشيخ محمد عبده كمُصلح فكري أنه جعل معيار الأخذ من التراث القديم والتجديد فيه والتحرر من المذاهب هو العصر الحديث ومصالح المسلمين فيه، وهذا ما يجعله مختلفاً عن السلفية المتشددة في الهدف. كما عاد إلى المعتزلة في الأخذ بمبدأ ‘العدل’ الذي يتيح المجال لفكرة السببية والعلم الحديث، وتوقّف عند هذا الحد".

"أي محاولة إصلاح حقيقية في الإسلام تكون بعلمنة الدين، وذلك بفصله عن السياسة وهو ما لم يدعُ إليه الشيخ محمد عبده، فهو يعتقد أن الإسلام دين ودولة، وتجلى ذلك في مناظراته مع المفكر اللبناني فرح أنطون حول دور العلم في الإسلام والمسيحية"

مؤمن سلام، وهو باحثٌ مصري نشر عدة أبحاث عن الحداثة في مصر، يقول لرصيف22 إن "الشيخ محمد عبده لم يكن مُصلحاً دينياً ولا تنويرياً، على عكس ما يُروَّج له، وإنما هو شيخ أزهري امتلك بعض الآراء المتطورة كدعوته إلى رفض النقاب وتعليم البنات، وهي لا تخرج به على أي حال عن الصيغة الرسمية للخطاب الديني".

يرى سلام "أن أي محاولة إصلاح حقيقية في الإسلام تكون بعلمنة الدين، وذلك بفصله عن السياسة وهو ما لم يدعُ إليه الشيخ محمد عبده، فهو يعتقد أن الإسلام دين ودولة، وتجلى ذلك في مناظراته مع المفكر اللبناني فرح أنطون حول دور العلم في الإسلام والمسيحية، فالفكرة الرئيسية التي طرحها عبده هي أن المسيحية لا تحتوي على نظام للحكم، ما برر وجود وانتشار العلمانية في أوروبا، في حين أن الإسلام يتمتع بنظام شامل للدين والدنيا".

يعتقد سلام أن "دعوة الشيخ محمد عبده مثّلت وقوداً لتيارات الإسلام السياسي بخلطه بين الدين والسياسة وادعائه أن الدولة في الإسلام دولة مدنية وليست دينية، وهي الدعوة التي تلقفتها جماعة الإخون المسلمين، ليُنتج لنا خطاب محمد عبده أكبر جماعة دينية شمولية... بدلاً من إنتاج خطاب مدني يُمهّد لقيام دولة مدنية حقيقية".

مآل الإصلاح الديني

حركة الإصلاح والتجديد التي انطلقت من مصر في القرن الـ19 استمرت لعقود وأجيال تالية، ما يطرح سؤالاً عن مآل هذه الدعوات وما حققته من نجاح أو فشل.

يعتقد مؤمن سلام "أن عملية الإصلاح الديني لم تحقق الأهداف المرجوة منها، وذلك لعدم وجود إصلاح حقيقي يتجه إلى مساءلة الماضي والمُضي نحو العلمنة، وهو ما لم يجرؤ أي من رواد الإصلاح على فعله عدا الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه ‘الإسلام وأصول الحكم’".

ويضيف أن "محاولة الشيخ علي عبد الرازق بدعوته إلى فصل الدين عن السياسة هي المحاولة الجدية الوحيدة لإجراء إصلاح ديني حقيقي، ولكنها لم تنجح، إذ طرح عبد الرازق كتابه عام 1926 فيما كان الملك فؤاد الأول يسعى إلى تنصيب نفسه خليفة للمُسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية، بدعم من المؤسسة الأزهرية، وهذا ما جلب عليه سخط الأزهر، فقد فُصل من عمله وباءت محاولته بالفشل".

من جهته، يرى شريف يونس "أننا إذا نظرنا إلى الإصلاح الديني تاريخياً في واقعيته وتعقيده، يستحيل قبول الفكرة القائلة بـ’فشل’ الإصلاح، ليس فقط لأن الإصلاح من الأساس ليس وردياً وحدث أوروبياً نتيجة ثورات وحروب طويلة، بل أيضاً لأن له جوانب مؤسسية وعقيدية تمثل تجاوزاً فارقاً لإسلام العصور الوسطى، والذي يأتي نتيجة اعتماد الشريعة والسياسة في آن واحد".

يرى يونس "أن أي تقييم لمسألة الإصلاح الديني، أو لغيرها من جوانب تاريخنا الحديث، يغفل دراسة أوضاع العصور الوسطى، سواء الإسلامية أو الأوروبية، على مستوى الخطاب والمؤسسة على السواء، ويعتمد بدلاً من ذلك على معايير مثالية عن إصلاح ما، عند هذا الكاتب أو هذا التيار أو ذاك، وهذا لن يكون من شأنه سوى إفقار وتدمير أية مناقشة جادة لأي إصلاح".

لذلك، برأيه، "فإن التقييم بالفشل أو النجاح خطوة مُتقدمة تأتي في نهاية إعمال الفكر، لأن التقييم نقطة نهاية وعلامة توقف عن التساؤل عن الظاهرة، فإذا كانت هذه النتيجة لا تستند إلا إلى معايير افتراضية، ستكون قيمتها محدودة بقيمة مقدماتها الفقيرة".

وعن وضع الخطاب الديني بعد ثورة يناير 2011، يقول يونس: "حالياً، أعتقد أن الخطاب الديني يتطور بالفعل في المجتمع، فقد أدت ثورة يناير وما بعدها إلى تراجع ملحوظ في شعبية تيار الإسلام السياسي، وانتهت المحرمات التي فرضها طيلة سنوات الصحوة التي تجاوزت الأربعين على النقاش، وسقطت التابوهات التي قدست الدعاة وتصريحاتهم، بل وأصبح النقد الديني نفسه يُمارَس صراحة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي ندوات متاحة على يوتيوب".

ويضيف: "فوق ذلك، أصبحت القضايا التي تناقَش مُجتمعياً خارج الخطاب الديني كثيرة، من حقوق المرأة إلى النظام السياسي السليم إلى العلاقة بغير المسلمين في الداخل والخارج، إلى الإلحاد، إلى قبول مبدأ تاريخية النصوص المقدسة كمخرج من الإحراج الأيديولوجي المتكرر".

"يبدو الوضع مُبشراً بتغيرات حقيقية في الخطاب الديني السائد شاءت مؤسسة الأزهر أم أبت"، يقول ويتابع: "لكن بطبيعة الحال لن تنتهي هذه المواجهات سريعاً ولا بيسر، ونتيجتها لا تعتمد فقط على قوة الحجة، بل أيضاً على تطور دولتنا الحديثة نفسها ونجاح خططها في التنمية، وتطور المجتمع نفسه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard