حينما رحل الطبيب رفعت إسماعيل عن قرائه قبل ست سنوات، أقاموا له حفل تأبين إلكترونياً مهيباً، في سابقة هي الأولى تقريباً في الأدب العربي التي يتم فيها الاحتفاء بشخصية في روايات خيالية عقب وفاتها.
كانت الذكريات تتدفق على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وعبارات الرثاء تفيض بالمحبة الخالصة، متأثرة بأسلوبه الذي علق في الأذهان منذ ظهوره الأول على يد كاتبه في سلسلة روايات "ما وراء الطبيعة" عام 1993.
أخيراً، دبت الروح في رفعت إسماعيل من جديد، وأصبح لحماً ودماً على منصة نتفليكس الأمريكية من خلال مسلسل "ما وراء الطبيعة"، الذي عُرض موسمه الأول في 5 الشهر الجاري، ويحمل الرؤية الإبداعية للمخرج عمرو سلامة. في تجربة إخراجية تستند بالأساس على شعبية الروايات المنتمية لأدب الرعب، التي تلاقي رواجاً في دور النشر، ومؤلفها الدكتور الراحل أحمد خالد توفيق، الذي كان بمنزلة أب روحي لأبناء الثمانينيات والتسعينيات تحديدًا، غرس حب القراءة في نفوسهم، وقدّم لهم المعرفة في حكايات بسيطة وشيقة.
مخاوف القراء
حالة الترابط بين القراء والروايات وضعت صنّاع المسلسل أمام مسؤولية ضخمة خوفاً من إحباط الآمال المعلقة على العمل، إذ كل قارئ لديه تصوّر ذاتي عن طبيعة هذا العالم الغرائبي، وبطله الذي ظل لسنوات رفيقاً ملهماً، وداعماً في الرحلة، ولكن أفُلتت الحكايات من قبضة القراء، وسبحت في فضاءات الصورة المتاحة للمشاهدة أمام الملايين في العالم.
"شعرت بالقلق من تأثير المسلسل على الروايات وشخوصها، فهناك من سيكتفى بمشاهدته من دون قراءة الأساطير، ويصبح كل ما يعرفه عن رفعت إسماعيل هو ما رآه على الشاشة"، هكذا يتحدث محمد حسام (40 عاماُ) مصري، يعمل في إدارة مشروع اقتصادي في البحرين، عن المخاوف التي انتابته بعدما عرف أن السلسلة التي ارتبط بها منذ العدد الأول ستعرض على نتفليكس.
منذ سنوات نعى جيل الثمانينيات والتسعينيات في مصر على السوشال ميديا وفاة رفعت إسماعيل، بطل سلسلة "ما وراء الطبيعة"، لتدبّ فيه الروح أخيراً في عمل درامي، وسط توقعات، وآمال كبرى
يتفق معه المهندس عمرو إبراهيم، (35 عاماً) يسكن في القاهرة، الذي يصف روايات "ما وراء الطبيعة" بأنها الباب الذي دخل منه إلى عالم القراءة الممتع، فمنذ منتصف التسعينيات اعتاد شراء إصدارات السلسلة بسعر رمزي، وتبادلها مع الأصدقاء، وقد جذبته أجواء الغموض والرعب التي لم تكن شائعة في هذه الفترة، إلى جانب الحقائق العلمية والمعلومات المقدمة بسهولة. فكان لهذه الروايات أثر عظيم على حياته، ومن خلالها تعرف على أنواع أخرى من الكتابات.
يقول عمرو لرصيف22: "على الرغم من سعادتي بإنتاج المسلسل، كنت متأكدًا أنه لن يصل إلى مستوى العمل الأدبي في إبداعه. لأن الرواية تتضمن عادة تفاصيل أكثر، وينسج خيالنا خلال قراءتها صور الشخصيات والأماكن ويتفاعل معها، على عكس العمل المرئي الذي يقتصر على رؤية المخرج دون غيره".
أما آية جمال (29 عاماً)، خبيرة في إدارة مواقع التواصل الاجتماعي، فقد قرّرت منذ البداية ألا ترفع سقف توقعاتها حيال المسلسل. وتوضح لرصيف22: "أتفهم أن لكل وسيط طبيعته الخاصة، وبالتأكيد ما تعلقنا به في الروايات خضع لترجمة وتأويل مجموعة معينة من الأشخاص إلى أن ظهر على الشاشة".
خيال الروائي ورؤية المخرج
هذا يقودنا إلى التساؤل حول الاختلاف بين رؤية أحمد خالد توفيق الأدبية، وما قدمه عمرو سلامة في المعالجة الدرامية للمسلسل.
تقوم سلسلة روايات "ما وراء الطبيعة" على فكرة مذكرات طبيب أمراض دم متقاعد، يحكي ما تعرض له من أحداث ومواقف خارقة للطبيعة، لا يوجد بينها ترابط حقيقي، وإنما أشبه بمغامرات منفصلة، وأغلبها يقع في مناطق خارج الوطن العربي مثل بريطانيا والصين ورومانيا.
اختار عمرو سلامة أن تتشابك خطوط الحكايات في الحلقات الست المكونة للموسم الأول، وأن يعتمد السرد على تسلسل زمني يبدأ وينتهي عند أسطورة البيت حيث يواجه "رفعت إسماعيل" في عامه الأربعين شبح فتاة كان يطارده في مرحلة الطفولة، وخلال رحلته من إنكار ما يسمى بالماورائيات إلى التيقن بوجودها، يمر بعدد من الألغاز والظواهر الغريبة التي تدفعه إلى بلوغ هذه النتيجة .
يصف الناقد ممدوح صلاح هذه المعالجة الدرامية بأنها مغامرة صعبة، ويوضح: "الرؤية التي اختارها صناع العمل موفقة، وتتناسب مع نمط المسلسلات التلفزيونية الرائجة حالياً، لكن يشوب هذه الرؤية بعض العيوب، مثل فرض إيقاع فني واحد على المسلسل، لأنه وحدة متماسكة، بينما لو كانت كل حلقة مستقلة لسمح ذلك بتنوع في الإيقاع، وربما طريقة السرد".
يبدو أن هذا الرأي لا يروق لبعض القراء المخلصين للروايات. يعترض محمد حسام على ربط الأساطير بعضها لبعض، ويرى أن الرغبة في الاختلاف عن النص الأدبي ومحاولات التغيير في نسيج الحكايات نفسها أدت إلى غياب المنطق عن غالبية الأحداث، واللجوء إلى حلول سريعة طوال الوقت.
ويضيف: "هذه الحلقات المعروضة على المنصة العالمية تبدو كأنها شجرة مقطوعة جذورها، لا تستند إلى أساس قوي. كما أن جميع الشخصيات، بما فيها البطل، ابتعدت تمامًا عما عرفناه في الروايات".
"رفعت إسماعيل أصبح حزيناً"
في الفيلم الوثائقي الذي أنتجته نتفليكس عن كواليس صناعة "ما وراء الطبيعة"، يتحدث كل من عمرو سلامة وأحمد أمين، بطل المسلسل، عن جلسات التحضير لشخصية "رفعت إسماعيل"، وكيف تخليا عن بعض التصورات المبدئية التي كان سيظهر بها على الشاشة، خوفاً من أن يكرهه الجمهور، لكن هل ساعدت النتيجة النهائية على التماهي معه مثلما هو الحال في الروايات؟
يقول ممدوح صلاح: "اكتسبت شخصية رفعت إسماعيل أبعاداً لم تكن في النص الأدبي كالحزن والتردد المستمرين، وربما يرجع ذلك أيضاً لمحاولة خلق تطور درامي للشخصية على مدار ست حلقات "وهو زمن قصير نسبياً"، لكن أعتقد أن هذا أفقد رفعت إسماعيل جانبًا مهمًا من سخريته، ورغبته في الابتعاد عن الناس وسعادته بوحدته".
ويتابع: "رفعت إسماعيل في الروايات يعيش عالماً داخلياً راضياً، بينما في المسلسل يبدو معذباً طوال الوقت".
ويضيف صلاح، الذي نشأ على حب الروايات، وارتبط دوماً بالبطل الذي تنعدم فيه صفات البطولة التقليدية، ولا يمتلك شيئًا سوى عقله وثقافته الواسعة ليقهر الخوف وأساطيره: "أداء أحمد أمين للشخصية يظهر فيه الاجتهاد والانشغال بالتفاصيل الدقيقة، لكنه ربما تخوف أكثر من اللازم من إظهار جانبه الكوميدي حتى لا يتداخل أسلوبه المعهود مع أسلوب الشخصية".
"رفعت إسماعيل في المسلسل أصبح حزيناً، ومتردداً، ومكتئباً، ومتعجرفاً، وبات من الصعب تفهّم حب وتعلق النساء به في الأحداث"
في حين يرى محمد حسام أن رفعت إسماعيل ظهر في المسلسل كشخص يعاني الاكتئاب، ومتعجرف بعض الشيء، وجبان، وكلها صفات تجعل من الصعب التعلق به، وتفهم أسباب حب الشخصيات النسائية له في المسلسل.
على جانب آخر، يتغاضى عمرو إبراهيم عن التغيرات التي طرأت على شخصيته المفضلة منذ اقتحامها عالم الصور المتحركة. يقول: "ظهور رفعت إسماعيل على الشاشة يعد مكسبًا حقيقيًا، كما أن أمين الذي أدى شخصيته يعتبر العنصر الأفضل في المسلسل، وأي خطأ في تجسيد الدور هو مسؤولية المخرج".
تتفق معه آية جمال، مؤكدة أنها شعرت بوجود تفاصيل جديدة على الشخصية مثل الخنوع واليأس، لكن أداء أحمد أمين جعلها "تغفر أي شيء"، فقد كان لديها تحفظات في البداية على اختياره، لكنها فوجئت بـ"قدرته على التقمص بهذه البراعة".
حلم قديم
من المؤكد أن اختيارات عمرو سلامة، ومدى توفيقه في تحويل النص الأدبي إلى عمل مرئي، ستظل محل الكثير من الجدل والنقاش، لكن هذا يفيد الروايات أيضاً، إذ يعيدها إلى دائرة الضوء من جديد، ويفتح الباب أمام قراء محتملين لاكتشاف سلسلة "ما وراء الطبيعة"، فالاقتباس من الأدب إلى السينما أو التلفزيون هو في الأساس عملية تبادلية ودينامية بين النصوص.
وربما لم يكن المسلسل على قدر توقعات بعض القراء المحبين لكتابات أحمد خالد توفيق أو النقاد المهمومين بتطوير محتوى ما يعرض على الشاشات، لكن الحقيقة أن هذه التجربة كانت حلم الكاتب الراحل الذي صرح به في العديد من اللقاءات الإعلامية.
في مقابلة له، قال مؤلف السلسلة الروائية خالد توفيق: "السينما أرقى الفنون وأفضلها قيمة، هناك مشاهد لا يمكن لأي قلم أن يستطيع تجسيدها، وهناك أصوات وانطباعات يصعب أن تكتب، فكرة الكتابة للسينما تراودني..، والفكرة المسيطرة علي هي كتابة فيلم بعيد عن الرعب أو مسلسل يتناول الرعب بشكل جديد ومختلف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...