حين عرفت لأول مرة أن هناك مرويات تاريخية تؤكد أن السيدة عائشة تزوجت من النبي محمد وهي في السابعة عشر من عمرها، وليس التاسعة كما تُروج معظم كتب التراث، كان السؤال الذي دار في خُلدي: لماذا تختفي تلك المرويات وسط كتب التاريخ، ولا يرددها أحد أو يطرحها للنقاش، سواء كانت صحيحة أم خاطئة؟
لكني أدركت أيضاً أن جزءاً كبيراً من مشكلة الفكر العربي تتلخص في اعتماد فرضية واحدة يتم تضخيمها ثم تقديسها بعد ذلك، ويصبح نصيب كل من يقترب بالتشكيك فيها أو حتى طرح رؤى مختلفة، اتهامات الكفر وهدم الثوابت، وقد يّزج به في السجون في تهم جاهزة مثل "ازدراء الأديان".
أبرز الأمثلة على ذلك هو نظرتنا لـ "الشيطان" نفسه، والتي اعتمدت على فرضية واحدة ترسخت في الأساس من خلال السرديات الدينية، ففي الإسلام مثلاً، فإن إبليس عدو الله الذي تمرد عليه بعدم سجوده لآدم، ومن ثم طرده من النعيم ليبدأ صراع الجنة والنار، ويصبح الشيطان مرادفاً للشر ومهمته الأبدية غواية الإنسان والزج به في الجحيم.
منذ اللحظة الأولى، قدم المسلسل صورة مغايرة للشيطان، فهذا المخلوق ليس عدواً للإنسان بإرادته، بل هو مجبور على ذلك لأن الله أراد له تلك الوظيفة الكونية، تماماً كالملائكة الطيبين، وبالتالي لا يستحق ذلك الكره، وحتى لو تمرد وعصى الإله، فهذا لا يعني إنه يستحق اللعنة الأبدية
ورغم أن من الصعب طرح فرضية مغايرة لنصوص دينية راسخة في عقول الملايين، لكن برأيي هذا ما فعله مسلسل "لوسيفر" الذي طرحت شبكة نتفلكس جزءه الخامس في 21 أغسطس/ آب الجاري.
فتدور قصة المسلسل حول إبليس الذي قرر أن يأخذ إجازة من مهمته الأبدية كمعذّب للأشرار، ليعيش في لوس أنجلوس متنكراً بشخصية "لوسيفر"، وهو اسم يعني باللاتينية "جالب الضوء".
ومنذ اللحظة الأولى، قدم المسلسل صورة مغايرة للشيطان، فهذا المخلوق ليس عدواً للإنسان بإرادته، بل هو مجبور على ذلك لأن الله أراد له تلك الوظيفة الكونية، تماماً كالملائكة الطيبين، وبالتالي لا يستحق ذلك الكره، وحتى لو تمرد وعصى الإله، فهذا لا يعني إنه يستحق اللعنة الأبدية.
وتتضح ملامح تلك الفرضية المغايرة بتقديم "الشيطان" كونه مخلوقاً قادراً على الحب، مثل ما حدث مع المحققة ديكر، التي وقع لوسيفر في هواها واستطاع أن يثبت أنه جدير بلقب "عاشق"، يحمي حبيبته ويدعمها في مجال عملها، وأخيراً لا يكذب عملها أيضاً.
أما الملمح الثالث لـ "الفرضية المغايرة"، أن الشيطان الذي نراه مثالاً للشر هو نفسه يعاني بسبب شعوره بـ "النبذ"، وهو ما ورد على لسان بطل المسلسل "توم إليس"، وهو يعبر عن غضبه من الله لأنه جعله "منبوذاً"، وبات يخشى أن ترى حبيبته وجهه الحقيقي لأن ذلك يعني نفورها منه، رغم رغبته بأن يعرف الجميع وجهه الحقيقي، ويدركوا أن ذلك ليس إلا وجهه، لكن ما أحبوه فيه كما هو، وهو ما حدث في نهاية الجزء الرابع، حين قالت له حبيبته: "أحبك رغم كل شيء".
صورته في المسلسل والتي أدت إلى تعاطف جزء كبير من مشاهديه مع الشيطان باعتباره مغلوباً على أمره، لم تكن جديدة، فحين نصحني صديقي بمشاهدة لوسيفر، وروى لي قصته، لم يسعني سوى قول: "أرني الله"، وهو ما أثار استفهامه قبل أن استطرد أن "أرني الله" عنوان قصة لتوفيق الحكيم
تلك الصورة التي تم تقديمها والتي أدت إلى تعاطف جزء كبير من مشاهدي المسلسل مع الشيطان باعتباره مغلوباً على أمره، لم تكن جديدة بالكلية، فحين نصحني صديقي بمشاهدة لوسيفر، وروى لي قصته، لم يسعني سوى قول: "أرني الله"، وهو ما أثار استفهامه قبل أن استطرد أن "أرني الله" عنوان قصة لتوفيق الحكيم، تروى أن إبليس أراد التوبة ولجأ لرموز الأديان السماوية الثلاثة: "شيخ الأزهر، بابا الفاتيكان وحاخام اليهود"، وطلب منهم أن يدلوه على طريق التوبة، لكنهم أجمعوا أن ذلك مستحيلاً، فوجوده كمثال للشر ضرورة لانسجام الكون وتبرير وجود ثواب وعقاب، وهو ما دفع إبليس في النهاية إلى الشكوى من أنه المخلوق الوحيد المحروم من التوبة، رغم أن الله غفور رحيم.
حين أخبرت صديقي ذلك، أُحبط قليلاً لأنه رأى أن الفكرة ليست جديدة كما يظن، لكني أيضاً أُصبت بالإحباط لأن قليلين يعرفون أننا كنا قادرين على طرح تلك الأفكار بتلك الجرأة منذ عقود، قبل أن تصبح "محرمة".
لكن بعيداً عن الإحباط، فالحديث هنا لا يتعلق بالشيطان فقط أو حتى ترجيح رؤية عن أخرى، فلكل إنسان الحرية فيما يعتقد، شرط أن يكون الاعتقاد بناء على اختيار، وليس فرضية واحدة يتم ترسيخها في العقول وترديدها دون تفكير.
ورغم أن الكثيرين يرون أن فرضية واحدة أسهل، لكن على المستوى البعيد يؤدي ذلك إلى الجمود وشل التفكير، وفي وطننا العربي يصبح الاقتراب منها كإحضار المهالك لصاحبها، بل إن جزءاً كبيراً من مشاكلنا الآنية، سواء الإرهاب أو انتهاك حقوق المرأة، قائم في الأساس على تلك الفرضيات السابقة، فمثال السيدة عائشة الذي بدأت به الحديث هو تبرير لزواج الأطفال حتى الآن.
وبالتالي ما فعله مسلسل لوسيفر، أو قصة توفيق الحكيم التي لم تتكرر فكرتها في نصوص عديدة لأدباء آخرين، من طرح فرضيات مغايرة لأي نص هو ضرورة، ليس فقط لأن ذلك يجعلنا أحراراً في الاختيار، لكن لأنه يجعلنا واثقين من أن اختيارنا صحيح، وهذا ما قصده الشاعر أمل دنقل، حين سُئل عن مفهوم التجديد فكان جوابه: "أن يرى الجميع ابن النبي نوح كافراً وتراه أنت ثائراً رفض الخضوع لأمر أبيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين